تأملات في الكتاب الشعري «معرض الفن الهارب» لسالم أبو جمهور
عرار:
ناظم القرشي/ العراق (كمال اقتران اللحن هو مثل كمال اقتران لوني الياقوت والذهب) الفارابي) وكمال اقتران الشكل والمضمون هو أيضا كما اقتران لوني الياقوت و الذهب، وهذا ما سيجده الناظر الى تجربة الشاعر سالم أبو جمهور عبر كتابه الشعري (معرض الفن الهارب) والصادر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات وبالتعاون مع وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، فتعامل الشاعر مع لغته كرسام يتعامل مع أدواته تعامل هادئ، فهو يكتب و يشكل (لوحاته) نصوصه بلغة بسيطة تحمل شاعريته و تلخص أحلامه،فهي دالة على وجود الفكرة وضامنة لهاو تحمل عدة مستويات للتلقي و التأويل، لذا هو جعلنا نتسأل ونحن تحت تأثير شاعريته، وتحت تأثير عنوان كتابه الشعري (معرض الفن الهارب)، ماذا لو إن هناك ابعد من هذه الفكرة..؟ لو افترضنا أن هذه الكلمات هي اثر لفكرة هاربة حاول الشاعر أن يقبض عليها، أو هو ترك لنا اثر لنتتبعه لنصل عبر هذه الافتراضات وما تأول إليه؛ فهناك دائما جناحان و كلمات متأهبة للتحليق بايقاعتها لتحقيق الفكرة التي تحملها الأماني، فرغم ضيق المكان الوضيع و المعزول (الغرفةِ ذات المرحاض المفتوح)، لكن الشاعر خلق منه فضاء شاسع المدى بزمن مطلق،حيث ابتكر لوحات شديدة اليقين بمسارات الوعي و انفعالاته، وأنتجت قيماً جمالية و تعبيرية، وعلى الرغم من كل هذا الحضور الذي تفعله الكلمات يبقى التأويل هو المتسلط الأول في بعث كل تلك التفاصيل(الهاربة)، فإبداعه الملهم اعتمد على قوة الخيال الذي فرض هيمنته على الكلمات و جعلها تتدفق و تتشكل في ذات اللحظة التي يرتئيها الشاعر، لتؤكد الحضور الفعلي لرؤياه وما تؤل إليه. فهو يقول في احدي لقاءاته (إن الشعر حالة روحانية تعتري نفسه وتخالج إحساسه وتفرض ذاتها، وهو يعبّر عن نفسه بأي لغة كانت، ولا يموت بأي حال وإن تداعت الشعرية أو أصابها بعض الفتور والاختلال)، وهذا يدل على أن القبض على اللحظة الشعرية لديه، كرقصة صوفية تعكس أسرار الكون وتغلفها و تجعل الآن للأبد. فمنذ أن وضع الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب «مبولته» الشهيرة للعرض في عام 1917، و احدث في ذلك الوقت صدمة، أدت إلي تجاوز التعريفات التقليدية و الضيقة للفنون و الجماليات وفتحت مجالاً واسعاً شكل البدايات الأولي للفنون المعاصرة، هنا وفي ديوان (معرض الفن الهارب) للشاعر سالم أبو جمهور استطالت الفكرة وتحولت الكلمات الى لوحات فريدة لأفكار طموحة، و معتمده تماما على مقولة الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (مشاركة القارئ متعة الخلق هي دلالة الخلق)؛فالشعر هنا في قلب الحياة مباشرة و المتلقي جزء منه، فهذه النصوص (اللوحات) التي دونها الشاعر وجعل منها نوافذ مشرعة لعالم أخر عبر تدفق دلالي متواتر؛ ففي البدء يفاجئنا الشاعر بهذه الكوميديا السوداء التي تحمل أكثر من معنى فكان افتتح المعرض يتناسب مع الفكرة وحضورها: قص الشريط أوما زبال بالمكنسة الخشبية افتتح المعرض سقطت أشرطة حمراء و مقصات ذهبية فتحت ليلتنا الفنية جمهور الشاعر هؤلاء الذين يعيشون على حافة الحياة والمبثوثين كالملح في ذاكرة الأيام المنسيين دائما رغم حضورهم الدائم، فبعد ا ن دعا جمهوره لحضور المعرض، نراه هنا يفتح لون الليل ويذهب الى ابعد من هذا الشعوري ليحطم أبوابه الخلفية. الافتتاح الكل الليلة مدعو باسم الألوان المنتصرة انتم و أنا الأحباب، الأصحاب كناس السوق كتاب الورق والحبر المجان رؤساء وكالات الأكفان عمال الورش وكلاء الصابون شعراء الهذيان الكل الليلة مدعو باسم الألوان المنتصرة الترحيب افتتح الليلة لون الليل أن الشعور بالدهشة والذي سيرفقنا ونحن نتجول في هذا المعرض وفكرته الشاسعة، هذا الاندهاش الذي يحمل قدر من إحساسنا و يلامس حضورنا كمتلقين أولا و حضورنا كجزء أساسي من العمل ثانيا، و شعورنا بأننا انتقلنا إلى معرض الفن بفعل تصاعد حركة خلق الصور وتتدفّق الإيقاعالذي يحاكي صوت الموسيقى فيقول الشاعر سالم أبو جمهور في نص (مكاشفة) يا مدعوون في هذي الغرفةِ ذات المرحاض المفتوح علّقت الصور المنفية كي يحيا الفن المذبوح كأن الشاعر وهو مرشدنا لمعرضه و الذي اسماه معرض الفن الهارب يحاول أن يشير الى أن لوحاته تتشكل آنيا تحمل في داخلها فكرة التحول، و هذه هي بذرة الإبداع التي ستنمو، وبرأيي هذه هي فكرة القصيدة لديه والتي اعتقد أنها تشبه شخصيته كشاعر تماما فهي كما يخبرنا في قصيدة صرخات صور في صور لوجوه في وجوه، الصور و الإشكال و الوجوه هنا لا تستقر بل تتغير بشكل مستمر كنها صرخات متتالية صرخات صورة في باب الحمام قلب مجروح يتساقط منه دم مسفوح وعيون في صمت الجدران ونهود تفضح أشواق الهيمان صور في صور لوجوه ذات وجوه وفي قصيدة تماثيل متحركة سواء كانت هذه الحركة دورانية و هي ثابتة في نفس المكان أو انتقالية من مكان الى مكان أو كلا الحركتين معا، أو حتى أن تكون حركة افتراضية تثبت إن إمكانيات الشاعر في التعبير تفوق توقعاتنا بل تبهرنا، فالمجال الذي تتحرك فيه اللغة الشعرية عبر تجلياتها قادرة استيعاب التحول و التغيير للفكرة، و أنها قادرة على أن تمنحنا فيزياء القصيدة بكلمات تقترب من الروح مباشرة، فالشاعر يقبض على اللحظات الهشة، المتحركة و العابرة ثم يحولها إلى صورة تتسم بالثبات والديمومة لتكتمل خيوط الصورة و تلامساتها تماما تماثيل متحركة شكل في شكل أشكال شخوص شمعية كم كان الشمع لطيفا كم كان جدير بالروح كم كان صديقا أليفا يتمتع بالإنسانية وسنجد الشاعر يستعير من دالي أدواته ويجعلنا نقف على حافة الدهشة ونحن نتبع دينامكية الصور في ذوبانها خلال اللغة المتحركة و المنفتحة على التشكيل دائما، و التي صهرها الشاعر وجعل منها كالخزف السائل، فاللغة هنا أكثر من مرئية هذا التمثال الشمعي الذي هو في ذوبانه الخير و بقاياها كدموع فضية سفحها الانفعال، هو في لحظته الأخير منحدر من لحظات أخرى يحمل أخر بقايا شجاعته في منتصف بحر هائج من الصخب. هكذا ظهر كنهاية ملحمة، لنظهر نحن في الوجه الأخر منها تمثال الشجاعة قط شمعي في آخر حالات الذوبان قد ذاب و ذاب و ذاب ارتكز الرأس على الذيل فكان الرأس الخاوي قبعة وكأن الذيل الواقف سيف خسران وكأن القط وحالته حالتنا في زي الشجعان أن المعنى و القصد لن يكتملا بدون هذا التشكيل الرائع للصورة التي تتشبث بحسيتها الواهية والعميقة في آن واحد، لكن هناك ثمة مستوى من الشعور لا تدركه الكلمات؛ دون تشكيل اللوحة الذي يوحي بتأويل لا نهائي للفكرة ذاتها تمثال الوجدان هذا التمثال لا تدركه عين هذا التمثال لم يدرك بالمس اكبر من حجم الشمس هذا وجدان لا يعرف بالحس ونحن نتأمل الذات الشاعرة وهي تتجاوز ذاتها وتذوب في ذات الجميع، سنعي تماما أن فكرة الجمال لديها هو ما يحقق وجودها في هذا الذوبان، فالانغماس اللانهائية في هذه الفكرة أشبه بتجربة روحانية فريدة تصل إلى درجة من التوحد
والاندماج عبر الخيال والتخيل؛ فالخيال هو وهج كل البدايات، و هو العنصر الأثير الذي يفرض تواجده وتميزه، و حضوره الهائل يحث على التجريب وهذا ما عناه الشاعر في نص (هذا ما صار) صار البروازُ بلا لوحة مثل النافذة المفتوحة صار البروازُ ممراً حرّاً باباً للأيدي والأنظار نحو الآفاق المفتوحة هذا ما صار، فأصبح بروازي.. لوحة الكلمات تنفصل عن ذاتها باحثة عن أكثر من تأويل فمشهدها الأخير كبقايا حلم أثير، حلم تشكل من كلمات مليئة بقوة الشعر و قسوة الحياة، حزم الخيال و عنف الابتكار، الذي يتغير بين الكلمة و الكلمة، و بين الصورة و الصورة و بأسلوب أدائي و تلقائي يتفاعل مع معاني الجمل أو المقاطع؛ فالشاعر يمسك بحداثته، و يشكل صوره السريالية رغم البعد الوجودي الحاضر، والذي يعبر عن الاغتراب المكاني و الزماني في هذا العالم الملموس، ليذكرنا بالأزمة والغربة التي نعيشها حيث تتزاحم وتتباعد المساحات فيها بين الروح والجسد الوداع و أخيرا يا مدعوون للغرفة مشهدها الأخر انتم و أنا لا نرسم لا نتشكل لا نتمثل لا نتكون إلا بالصوت الآخر قدم لنا الشاعر سالم أبو جمهور عرضا لمشاهد معرضه الفن الهارب عبر سبعين لوحة متواصلة و بأسلوب عبثي ساخر للحياة، أكد خلال اشتغالاته قدرته الهائلة على تجسيد علاقة الكلمات بالصور، و انحيازه التام لسلطة الكلمات وأثرها في تشكيل الصور داخل النصوص. هناك أفكار كثيرة تتمحور حول تشكيل تلك اللوحات و وجودها كوثيقة صادقة تنبض بالحياة، فكان هاجس الشاعر سالم أبو جمهور في كتابه الشعري (معرض الفن الهارب) هو ابتكار و تخليق عالم من التشكيل شعرياً، يبنيه في فضاء تتباعد فيه الأشكال وتتقارب، يشكل من خلاله الصورة و المعنى داخل النص (اللوحة) فكأنه يحذف الكلمات لتحل محلها الصورة، في هذا التركيب اللغوي الذي يتسع للفكرة، من أوليتها الى لانهائية التأويل، بذلك قدم لنا الشاعر نصوص شعرية مميّزة تعتبر نموذجًا عن اليوتوبيا المفقودة رغم انه عالم افتراضي لكنه حالة ايجابية لوجود تلك الأفكار، فهي تتماها مع الفكرة و الواقع الذي انبثقت منه، و البحث فيه ليس عن الجمال و لا المتعة فقط، بل هو مهرجان أفكار و تشكيل هذه الأفكار، فقد تحول هذا الكتاب الشعري المتسامي إلى ميراث جماعي و ذاكرة جمعية، يجعلنا نعيد نظرتنا للشعر، فهو يعيد طرح الأسئلة الخاصة بماهية الشعر.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-06-2022 11:05 مساء
الزوار: 657 التعليقات: 0