د. تيسير السعيدين قدّر لي التعرف على شخصية الدكتور حسام عزمي العفوري منذ سنوات قليلة قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وذلك من خلال الملتقيات الثقافية: شعرا ونثرا، ولكن هذا العدد القليل من السنوات جعلني أقف على شخصية شخصية أكاديمية معروفة في المشهد الثقافي، وذلك من خلال أبحاثه العلمية المتخصصة في تجارب كثير من الشعراء، علاوة على كونه شاعرا لح حضوره في الأمسيات والندوات الثقافية. أما عبد الرحيم جداية، فكانت معرفتي به وبإنتاجه الشعري والنثري منذ وقت مبكّر، وعزز هذه المعرفة الحوارات الكثير من الحوارات الأدبية التي كانت تجري بيننا في مناسبات مختلفة، فضلا عن مزاملتي له في العمل مدة طويلة، الأمر الذي جعلني أتعرف إليه وأخبر تجربته على تؤدة ومهل. ولعل من الجميل أن يطّلع المرء على جانب من جوانب الإبداع لدى شخصية أدبية أثبتت حضورها على الساحة الأدبية في المشهد الثقافي الأردني، وذلك بتناول جوانب الإبداع لديه بالبحث والتنقيب، ويصبح ذلك ممكنا إذا توافرت مقومات وأدوات النقد الفني والموضوعي على حد سواء، وهذا ما أزعم أنني وجدته لدى الناقد الدكتور حسام العفوري في دراسته لتجربة عبد الرحيم جداية الشعرية، الصادرة عن دار الخليج للنشر والتوزيع في عمان تحت عنوان «الإيقاع الحكائي: دراسات وأبحاث في تجربة عبد الرحيم جداية الشعرية»، وهي كما وصفها مؤلفها دراسات وأبحاث علمية كتبت في فترات متباعدة زمانيا ومكانيا، بشكل منفرد أو مشترك مع غيره. استطاع العفوري في دراسته – مدار الحديث - الوقوف على مفاصل التجربة الشعرية لعبد الرحيم جداية ؛ ولعل المخزون الفكري والثقافي، كان من أهم هذه المفاصل التي وقف عليها العفوري في التمهيد، والتي أسهمت بشكل كبير في بلورة معالم التجربة الشعرية للشاعر، لا سيما وأن هذه التجربة مرّت عبر تطوّرها بأشكال شعرية متنوعة: كلاسيكيّة ومعاصرة وحداثيّة،ولأن الفنون بجميع أشكالها متعالقة معا في الرؤى والمقاصد الساعية إلى التعبير عن مكنونات الإنسان وهمومه وقضاياه الفردية والجمعية، فقد كان لتخصص الشاعر – كما يرى العفوري - في الفنون التشكيلية وإبداعه في هذا الجانب أثر ماثل في تنوعه، وفي إثراء هذا التنوع بما في الفن التشكيلي من تقنيات فنية ومعرفية وظفها في قصيدته، لا سيما في تشكيل الفضاءات الشعرية، وإبراز ما فيها من مناطق الظل والنور، ومن مساقط الرؤية واتساع الأفق، والأبعاد الزمكانية، تماما وكأن القصيدة لوحة فنيّة يرسمها الجداية بريشته وألوانه الخاصة. تحتمل تجربة عبد الرحيم جداية حسب فهم الدكتور حسام الكثير من الدراسة والتأمل، ولعل كونها لا زالت تشهد تحولات وتشعبات، بما يمكن إعادة النظر في تلك التجربة: شكلا ومضمونا، واحتمال أكثر من تأويل في امتلاك مفاتيحها، فهو تنتقل من فن إلى فن: أفقيا وعموديا، وليست قصيدة (الهايكو) الجديدة نسبيا حسب الشكل إلى حد ما، إلا واحدة من تلك التحولات، فهو مواكب لما يستجد على الساحة الأدبية من ظواهر. وقد أشار العفوري كذلك إلى أن الكتابة الإبداعية للجداية تقوم على المدلول الثري وحب التجريب،والتنويع والتطوير والتغيير إلى الأفضل، وهي أمور قلما تترتب إلا على الشخصية القلقة للشاعر،تلك الشخصية التي لا تكتفي بالوقوف عند حد من حدود الإبداع، فما تفتأ تنجح في جانب من جوانب الأدب إلا وانتقلت مضيفة له جانبا آخر، فقد عرف بالاتساع الثقافي، إن على مستوى الاطلاع، أو على مستوى الإنتاج، فكتب في الشعر العمودي، ثم نسج في شعر التفعيلة، وطرق باب النثر، وكان له أخير في ميدان شعر (الهايكو) الذي تأثر به في الثقافة اليابانية، وله في ذلك كله إصدارات تربو على الخمس عشرة إصدارا، وكل هذا ما يجعل منه ظاهرة تستحق الوقوف والدراسة. وقف حسام العفوري مليا أمام كتب عبد الرحيم جداية، دارسا ومتعمقا في التشكيلات والمفاهيم والمصطلحات عنده، فكشف عن دوره في استثمار المعطيات العلمية والفيزيائية لمفهومي الحركة والسكون في دراسة المنتج الشعري المخزون في الذاكرة، فشكّل تصورات جمالية قابلة للتأويل، في النص الشعري فيزيائيا، مستخدما معطيات المسافة والزمن، ومشكّلا الفضاء الشعري عنده، وكأني به حين يتحدث في هذا الموضوع، يتحدث ضمنا عن النظرية الإبستمولوجية في الأدب، إذ تقوم هذه النظرية أساسا على فهم العالم، بأكبر قدر ممكن من العموم،عن طريق امتلاك الإنسان للمعارف التي تبرر معتقداته عن العالم من جهة وتبرر تصديق هذه المعتقدات من جهة أخرى، إلى جانب كيفية استخدام هذه المعرفة أو الاعتقادات لمعرفة أشياء أخرى جديدة أو تفسيرها بها. ويمضي العفوري في فصول كتابه التي هي عبارة عن مجموعة دراسات منفصلة جمعها تحت عنوان واحد، وخلصت، كما يقول، إلى أن الرؤيا هي الحالة الفنية التي خرجت بأدب الشاعر الجداية من البنى السطحية والتعبير المباشر،إلى مستوى الدلالات والمعاني العميقة الأكثر جزالة واتساعا، وهو الأمر الذي تحقق فيه جانب من جوانب شعرية الجداية إلى جانب المكونات النفسية والاجتماعية والثقافية والفنية لديه. أما عن الإيقاع الحكائي الذي تناوله في فصله الأول ودرسه في ديوان الجداية « ثالثة الأثافي» فقد عمد فيه إلى استطلاع ملامح القصة الكامنة في نصوص الشاعر، وذلك عبر دلالة الجملة المشهدية والاستدعاء والحوار والإيحاء في ذاكرة المكان والزمان وعلاقتهما في نمو وحركة الشخوص في فضاء القصيدة. وأما عن الإيقاع السردي في قصيدة التفعيلة عند عبد الرحيم جداية،فعلى الرغم من الانتقال من شكل شعري إلى آخر،إلا أن العفوري يكمل بقصد او غير قصد، تتبع الإيقاع الحكائي لدى الشاعر الجداية عبر قصيدة التفعيلة باعتبارها الشكل الشعري الحديث والأوسع انتشارا في عصرنا الحالي، بل والأكثر ثباتا واستقرارا في مفهومه وشكله وقواعده،وذلك عبر تناوله للإيقاع الموسيقي والعروضي بزحافاته وعلله وحركاته وسكناته، محاولا إبراز الذات عبر عملية استرجاع لها من الماضي إلى الحاضر، من أجل إثبات الذات المسلوبة، مسقطا الكثير من التشبيهات التي واجهت واقعه مع الآخرين، كما استخدم اللون في الإيقاع السردي، من حيث الربط بين اللون والمدلول الذي يقترن به (الأصفر – الموت، الأبيض – النقاء والصفاء،الأخضر – الخير والعطاء والتجدد، الأزرق – الارتياح والتحليق في الفضاء)، أما الحركة والإيقاع السردي، فقد أشار المؤلف إلى أن الجداية استثمر معطيات تخصصه في الفنون والآثار في إقامة حركة الصور والرسومات عبر الإيقاع في النص، لتشكيل حركة اللغة في القصيدة، وقد استفاد كذلك من تعدد صور الزحافات والعلل العروضية والعيوب المتعددة، بحيث وضعها في المكان المناسب الذي يريده، فتحول من عيب عروضي إلى ناحية جمالية. أما لغة السرد من حيث هي الصور الذهنية التي تتكون منها الصورة الشعرية لتؤدي فائدة خطابية، فقد قامت هذه اللغة عند الشاعر الجداية، كما يرى العفوري، على أساس المساحة المكانية والمسافة الزمنية الماضية وما يتشكل عن ذلك من صور ذهنية، وقد حقق الجداية عبر هذا وحدة إيقاعية متناسقة مع وحدة موسيقية المفردات المستخدمة في نصوصه، ليعزز تاليا الإيقاع الحكائي بشكل عام لديه. وكانت قصيدة (الهايكو) آخر ما وقف العفوري عنده في دراسته،وهو الفن الجديد واللون الشعري الذي آثر الجداية خوضه، واللون الذي يتم فيه الإشارة إلى فراغ، دون ملئه، ويعتني بالأشياء في بدايتها و في نهايتها، وغالبا ما تحدث بعد لحظة التمزق والصراع، أو في لحظة الصفاء والاستنارة. ولعل العفوري أبدع في الوقوف على الإيقاع الحكائي لدى عبد الرحيم جداية، وذلك عندما أشار إلى تجاذب قضية المصير والموت بين شاعرنا المعاصرعبد الرحيم جداية وشاعرنا القديم ابن خفاجة الأندلسي في قصيدته في وصف الجبل، فقد كان استقرأ الشاعر ظاهرة الموت التي أرّقت ابن خفاجة في قصيدته المذكورة سابقا، مثالا مائزا على استشعار الإيقاع الحكائي عند الجداية،فكما اتخذ ابن خفاجة من الجبل قناعا يتوارى خلفه، ومعادلا موضوعيا يعالج من خلاله فكرة الموت والقلق منه، وهو الهاجس الذي كان يطارده مطاردة الظل لصاحبه، بطريقة فلسفية صرفة، كذلك وقف عبد الرحيم جداية في شعره مراقبا حركة التلاشي والموت، إلا أن الفارق بين عبد الرحيم جداية وابن خفاجة، أن الأخير كان يبكي مصيره، فيعتريه ما يعتريه من وجل وخوف، وهو ما يُلمس من وراء لجوئه وتمثله للجبل، ولكن الجداية ظل صامدا لم يعتريه شيء مما اعترى صاحبنا ابن خفاجة، مع أنه كان يستقرئ المصير ذاته من خلال ذهاب الناس من حوله إلى ذات المصير. ولعل ذلك التساؤل الكبير الذي طرحه العفوري فيما إذا كانت شخصية عبد الرحيم الجداية شخصية مركبة أم شخصية نامية، أم شخصية تكاملية أم هذه الأنواع الثلاثة معا؟ هو تساؤل مستحق أمام ما وجده كدارس، ووجدناه كقرّاء في شعر عبد الرحيم الجداية، من التنوع والاختلاف والثراء والغنى الموضوعي والفني، ما عكس فيه شخصيته وذاته الإنساني، وهو ما يحفز القارئ على سبر أغوار التجربة الشعرية والنقدية للشاعر عبد الرحيم الجداية.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-06-2022 10:10 مساء
الزوار: 807 التعليقات: 0