«فاطمة/ البارود والسنابل» رواية لمحمد الزيود تستحضر التاريخ وشخوصه
عرار:
د. هاشم محمود الزيود منحني صديق الدراسة الدكتور محمد الزيود شرف الاطلاع على رواية فاطمة وهي ما تزال صغيرة بعمر الورد، ومعرفتي بقلم أبو عون ممتدة إلى البدايات، إلى أيام برنامج «أقلام واعدة» والذي كان يبث في الثمانينيات، ومحاولاته المتميزة في الكتابة عن «قهوة الروشة، وشوارع الزرقاء، وبعض قصص الحب القروي العذري لطالبات المدارس...»، واعتقد أنه اتخذ لنفسه أسلوبا في الكتابة يميزه عن غيره من الكتاب، ببصمة أردنية غير ذات عوج، فقد اخذ من الطيب صالح معالجته لأزمة الحضارة بين الشرق والغرب، ونسج على منوالها الحياة بين القرية والمدينة، والتقط من الكاتب عبدالرحمن منيف الانفعالات الإنسانية، وأعطى الموروث الأردني خصوصيته، فأخذ من غالب هلسه حنينه لطفولته وتغليب مرحلة الشباب على نموه المعرفي والثقافي، وتوج كتاباته ومشاركته في الأمسيات القصصية والندوات في المؤسسات الثقافية، وكأنها أعواد ريحان متفرقة، وجمعها في حوض واحد سماه «فاطمة»، استطاع أن يتنقل من السرد القصصي المعتمد على الفلاشات، إلى الوقوف على التفاصيل الدقيقة التي تبهر القارئ بدقة الالتقاط، كأنها عدسة مخرج يعرف ماذا يريد من القارئ أن يرى بدقة. إن الصلة التي تربط الموروث الشعبي بالأدب قائمة ووثيقة ولا تحتاج لتفصيل، وهي تجذب نفس القارئ غير القارئ، فهي واضحة في المظهر أو الشكل الذي تُبنى من خلاله الحكاية، ذلك العنصر المهم في السرد بشكل عام وفن الرواية على وجه الخصوص، لذا فإن من يتصدى لكتابة في التراث الشعبي تكون مهمته صعبة محفوفة بالمخاطر، فه و يصنع بطلاً يبحث عنه الناس، ويسارع القارئ إلى إسقاط الشخصيات على الحياة العامة. مما يجعل التشابه بين ما ورد على لسان الكاتب، والحقيقة كبيرا جدا. محمد الكاتب، ينتمي لجيل «محير» بين مواليد الستينيات والثمانينيات، فقد كانت نشأته الأولى في أسرة ممتدة، فيها الأب والأم والجد والجدة، وكان الترابط الاجتماعي في قمته، والمنظومة الأخلاقية لم ينلها أي تشويه، والانضباط الاسري النسوي في قمة التزامه، وكانت بيوت الأردنيين في أغلبها «عسكري» واحد على الأقل، ووالد الكاتب وعمه خير مثال، مما يعني مزيد من الهيبة والانضباط، والطاعة، والرجولة. ومحمد تفتحت مداركه في ذات الفترة التي شهد الأردن فيها الكثير من التغيرات الاجتماعية، نتيجة هجرة الفلسطينيين بعد نكسة 67 ، وكانت بداية ظهور التجمعات المدنية، والتحول من الزراعة ورعي الأغنام إلى العمل الثابت المهني الصناعي. في رواية فاطمة وفي كل ليلة نجد الكاتب يدعونا إلى حضور «تعليلة أردنية» يتمنى أبناء جيلنا الآن مثل هكذا «جمّعات» في نموذج لبيت من بيوت الأردنيين، بيت وإن كان الوصف لبيوت قرية على أطراف الزرقاء، ولكنه يشبه بيوت أهل البلقاء، وملامح أهل الجنوب والشمال، حتى وصف البيوت الفلسطينية كان حاضرا، فهو يقدم صورا لعينة ممثلة يمكن تخيل الحال عند الجميع. أجاد الكاتب في وصف أدق التفاصيل، بدأ من العنوان «البارود والسنابل» ليطلق لمخيلتنا ترتيب الصور، ووصف جغرافيا المكان بريشة فنان، وبكاميرا مخرج معلقة بطائرة درون، كنا نشاهد المرج والسهول وأشجار البلوط، كنا نلمس الغيم، ونراقب دروب الرعيان، نشاهد الأغنام، وكلب الراعي، كنا نشعر بقطرات المطر، وهي تلامس الأرض، نسمع صوت الرعد ونرى عروق البرق، نراقب قطرة ندى وهي تسيل مع أول الفجر. تعرفنا على أسماء القرى « المنط، ام العروق، السحارة، مرصع، المصطبة، جبة.... استطاع الكاتب أن يحضر لنا التاريخ بشخوصه، عكس ما جرت العادة أن نذهب نحن إليه، احضر لنا عمان القديمة، عمان التي كان يتسوق منها أهلنا، بأسواقها القديمة، سوق الحلال «الجديان» بعمان، نظام «المقايضة»، شاهدنا معا قطار الحجاز بدخنته السوداء، وجسور سعيدا، تحدثنا مع جمال عبد الناصر، سمعنا صوت محمود سعيد، عشنا الهزيمة. عَّرفَنا الكاتب على لسان فاطمة على تركيبة المجتمع الأردني في تلك الفترة، فعرفنا من أين جاء الشركس، والشيشان، والشوام، وكيف تملك المسيحي ووصل إلى السخنة، ومن هو بطرس صاحب المثل الشائع «أحرث وادرس لبطرس». حملنا الكاتب معه لنعيش أعراس الأهل، كيف كانت تجري الترتيبات، ما هي الاستعدادات، كيف كان شكل الفرح، ماذا يرددون في «الدحية» وترك لنا حرية المقارنة، على لسان فاطمة عشنا الفرح والحزن معا، عشنا معتقدات الناس، ودرجة إيمانهم، على كل تلة فرح، كان الكاتب يعود بنا إلى وادي سحيق من الحزن، بينما انشغلت قلوبنا بعرس حمدان وطربنا لصوت الزغاريد، قطع الكاتب وتر الربابة الوحيد، وأصابتنا الصدمة. سلط الكاتب الضوء على فئة كان يتجنب أهلنا الحديث عنها احتراما وقدسية، وأيمانا منهم بأن الله اختارهم لصفاء قلوبهم، ونقاء سريرتهم، فسموهم «الفقراء» فكان الناس يلجؤون إليهم طلبا للشفاء والبركة، وكانت بيوتهم عامرة بالخير والقهوة وخبز الشراك، وتعليل الرجال، ففي بيوتهم تروى قصص البطولات وتحل أعظم المشاكل ويتقاضى الناس، دون الحاجة لمحاكم. صور لنا الكاتب كيف يستقبل الزُّهاد قضاء الله وقدره «عندما انحرق البيدر» خير شاهد، كيف يتعاملون مع المصائب والمصاعب، كيف يمتحن الرجال بالمال، وكيف يتعاضدون معاً، كيف يتقاسمون الحُب والحَب. فلسطين كانت حاضرة في وجدان الكاتب، كما هي حاضرة في وجدان جميع الأردنيين، فوصف لنا قراها، «شعفاط، رام الله، باب العامود، الخان الأحمر، الشيخ جراح» وأماكن تجمع الجيش الأردني وبطولاتهم، وأسماء قادتهم، سردها بطريقة تجعلك تشعر أنك تعرفهم واحدا واحد، وأن كنت بينهم، وصف حالهم لدرجة أنك تمنيت أن تكون بينهم، أن تكون انت مع علي خلف الرشاش، كنت تشتم رائحة البرتقال من البيرات بين السطور. ابدع الكاتب أيما إبداع في وصف معركة القدس، وصفاً دقيقا، كنا نسمع صوت الرصاص ونحن نقلب صفحات الرواية، كنا نلمس أكياس الرمل، ونعد معهم طلقات الرشاش 500، كنا نستيقظ فجأة على صوت المناوشات، ذقنا العدس وخبز الصمون، شعرنا بالدم الساخن في عروقهم، سمعنا هدير السيارة العسكرية «والكونتنتال» ذات اللون الخاكي، وشاهدنا لوحة الجيش العربي في مقدمتها، وتلقينا خبر شهادة علي. الدكتور محمد عبد الكريم الزيود، الذي يصر دائما في مختلف المناسبات على أن يضع اسم والده بعد اسمه، عرفاناً منه بالجميل، هو أديب ومفكر وعاشق لقلمه، ولكل ما هو أردني، عملت العسكرية من سهول مؤته إلى حدود»الإيكيدر» على صقل قلمه، وهو يتنقل بين قراها وبواديها، وعبر حدودها، ويلتقي أفرادها وضباطها، وهو يحمل شعارها وعلمها في المحافل الدولية، حتى طلبه للعلم بين نمور أسيا، جعل مخزونه اللغوي ثري، رسم من خلاله مسيرة إبداعية ممتدة ومستمرة، نتج عنها تأليف مجموعة قصصية «ضوء جديد»، و كتاب مخطوط «مقامات السنديان» وهو نصوص أردنية كتبها في حب الوطن، وكذلك مخطوط «حبيب في عيونهم» وهو شهادات الكتّاب والمبدعين في الشاعر الراحل حبيب الزيودي . يعتمد دائما في جميع كتاباته على شخوص قريبة من الواقع راسخة في الذاكرة لا تكاد تفارق مخيلتنا، لا نعرفها إلا من خلال ما يبوح به لنا، جعل الصورة حيّة للبيئة الأردنية بكامل مكوناتها وتفصيلاتها، مؤمن إيمانا مطلقاً أن الحكاية الأردنية لا بدّ أن تُقرأ وتُكتب بروح أهلها، وأن تُعامل بذات الروح التي عاشها أبطالها وشخوصها، وأن الأردني الأصيل غير مقطوع عن جذوره، وليس متلونا، وان سود الليالي قادرة على أن تظهر لمعان قلبه، وما هو إلا امتداد لتعاقب الأجيال، وأن دور الكاتب والمثقف الرئيس، ربط بين فكر الجد والأب والابن؛ لأننا جميعا مستودع لتلك الذكريات، وحاضنة لذلك الموروث، لا ينتهي بانتهاء أبطاله. دائما هنالك جزء آخر للحكاية.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-10-2021 09:46 مساء
الزوار: 874 التعليقات: 0