العنونة المكانية في رواية «حدائق شائكة» لصبحي فحماوي
عرار:
الدكتورة دلال عنبتاوي العنوان علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص، ويحمل وظيفة تعيينية ومدلولية، ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص والتلذذ به تقبلا وتفاعلا، فالعنوان بوصفه علامة دالة هو جزء من مجموع العلامات التي تشكل النص السردي، لكن أهميته تنبع من أنه يتقدم عليها جميعا، من خلال كونه صلة الوصل الأولى مع القارئ.منذ النظرة الأولى على العنوان الرواية ومن تلك الوظائف : الوظيفة الإيديولوجية، ووظيفة التسمية، ووظيفة التعيين، والوظيفة الأيقونية/ البصرية، والوظيفة الموضوعاتية، والوظيفة التأثيرية، والوظيفة الإيحائية، ووظيفة الاتساق والانسجام، والوظيفة التأويلية، والوظيفة الدلالية أو المدلولية، والوظيفة اللسانية والسيميائية وعند قراءة الرواية لابد من الوقوف على كل ما يتعالق مع العنوان في العمل الروائي. أولا : العنوان إن عتبة العنوان مهمة جدا في أي عمل إبداعي وخاصة في الرواية لذلك لابد من التوقف عنده قليلا قبل الدخول إلى عالمها وقد بني عنوان هذه الرواية على تركيب جملة اسمية مكون من المبتدأ المحذوف «هي « والخبر حدائق وصفتها شائكة فالموصوف الحدائق جمع لمفردة حديقة والحديقة اسم مفرد وجمعها حدائق والحَديقَةُ : كلّ أَرض ذات شجرٍ مثمرٍ ونخلٍ أَحاطَ به حاجز فهي على أرض الواقع تجيء على قطعة من الأرض غالبا ما تكون مكونة من مجموعة من الأزهار والنباتات أما شائكة والتي هي صفتها فهي الشائك اسم فاعل من شاك فهو الشائك ذو الشوك ويقال موضوع شائك أي شديد عسر ومؤذ وتحمل دلالات عدة ولعل أهمها أنها ذات شوك وتعني كذلك الالتباس ، والتداخل . وهي هنا أقرب ما تكون إلى أنها حدائق ذات شوك ومفتوحة على التأويل والتفسير والدلالات المتعددة لدى المتلقي. ثانيا التصدير: في الصفحة الثانية جاء التصدير والذي يعد أيقونة مهمة من أيقونات الرواية الحديثة وتمثل عبارة التصدير النصي نوعا من أنواع الأيقونة الوثائقية التي تربط بين النص ومساحة ما من الوعي بالواقع مما يمنح المتلقي توجها أوليا لاكتشاف وجهات نظر المؤلف قبل أن يتشكل الراوي حيث تعد تلك مساحة ما قبل الدخول إلى المتن الروائي التي يهتم بها المؤلف قبل أن يوكل المهمة للراوي الذي لم يبدأ عمله بعد، إن عبارة التصدير تحدد منطقة معرفية تصلح للالتقاء والانطلاق لبداية رحلة تستمد خيوطها المشتركة من أرضية مشتركة يبدأ عندها تقابل الروائي المؤلف والراوي والمتلقي ففي الصفحة الثانية جاء التصدير التالي على لسان الروائي الكاتب والراوي : إن أجمل حديقة ننشئها/ لا تعدو كونها تدميرا للطبيعة/ هل الجنائن التي ننشئها على الأرض/ هي تجريب للجنة التي نتخيلها في السماء/ طريق الحرير الهادر هل سيقلب الموازين كلها. هذا التصدير هنا جاء يحمل دلالات مفضية وملتصقة بعنوان الرواية وما يدور في مداراته حديقة/ جنائن/ جنة/ طريق الحرير وقد حضرت هنا كلها كلمات تدور في مدارات بعضها وتستحق التوقف عندها لتشكل نقطة التقاء وأرضية صلبة يلتقي عندها الراوي والمتلقي (القارئ) . ثالثا الإهداء: غالبا ما تتعدد أطروحات الإهداء في الروايات فهي تارة ما تجعل من أشخاص بعينهم مرجعية للنص عبر إهدائه أو تقديم النص بعدد من الأسماء ذات الحضور الواقعي المؤكد، فالإهداء في الأغلب يطرح أشخاصا محكومين بالواقع أو يحيل النص إلى واقعيتهم، وقد يفعل كاتب الرواية أحيانا ما يعاكس ذلك إذ يحرك شخوصه الروائية ليمنحها قوة الواقع في هذه الرواية جاء الإهداء في الصفحة الثالثة محدد الدلالة وواضح الحضور تماما على الرغم من أنه لم يحمل اسما او ملامح شخصية إلا أن الكاتب وجهه إلى ما هو عنصر مهم من عناصر وجود الحدائق إنها الأشجار فيقول : إلى الأشجار التي تتساقط أوراقها الخريفية/ دنانير تفر من البنان.. ومن المعروف أن الشجرة جزء مهم من الحديقة بل تكاد تكون أساس وجودها في أغلب الأحياء العنونة المكانية في رواية «حدائق شائكة» لقد جاء عنوان هذه الرواية عنوانا مكانيا بامتياز فالحديقة مكان وقد توالت العناوين المكانية في متن الرواية بعد ذلك لقد قامت هذه الرواية على مجموعة من العناوين عددها عشرة عناوين توزعت على مدار 160 صفحة من القطع الكبير وجاءت تلك العناوين موزعة بين الأمكنة والشخصيات هي : إرم ذات العماد/ رمزية العلي/ بنك الرخاء الكبير/ حلمي باشا الملاح/هونج كونج/كريستين مارتن/ لعنة الكلب/ فندق مارشال/عبد الودود/فارس الغبيري/ فندق مالتوس/ المهندس سليم عفانه/ جريس زعرور/ رجب الصافي/ حديقة بيت الرئيس/رئيس مجلس اللوردات/اجتماع مع امرأتي وقد جاءت ست منها دالة على أمكنة متخيلة رسمتها مخيلة الكاتب بأدق التفاصيل وكأنها اتخذت حيزا واقعيا وهي: أرم ذات العماد/ بنك الرخاء/ هونج كونج/ فندق مارشال/ فندق مالتوس/ حديقة بيت الرئيس إن هذا الحضور المكثف والدال على المكان في هذه العناوين يجعله يتجاوز كونه بؤرة سردية وتخييلية للعمل السردي إلى ما يمثله في هذه التجربة السردية من قيمة دلالية نفسية ووجودية وإنسانية كبيرة تجعل المكان بؤرة العالم السردي وفضاءه في هذه الرواية وفيه تتشكل حيوات شخصياته الروائية وأحداثها. إن دراسة هذه المهيمنات المكانية على العناوين تضعنا أمام الأهمية الخاصة التي تمثلها قراءة هذه الأماكن وعناوينها ومن المعروف أن الأماكن تقسم في دلالاتها إلى أماكن مفتوحة وأماكن مغلقة وقد مثلث الأماكن المفتوحة في هذه الرواية كل من المدن أرم ذات العباد/ هونج كونج/ وحديقة بيت الرئيس أما الأماكن المغلقة فكانت ممثلة ب: بنك الرخاء الكبير/ فندق مارشال/ فندق مالتوس، وقد كان لتلك العناوين دلالات خاصة باعتبارها رموزا تنطوي على دلالات بديلة للعمل السردي أو مفتاحا تأويليا وفق تعبير أمبرتو إيكو يهدف إلى ربط القارئ بنسيج النص. دلالات العناوين في الأمكنة المفتوحة: أولا: إرم ذات العماد إرم ذات العماد.. في هذه الرواية مدينة مكان متخيل لكنه على أرض الواقع له الكثير من الدلالات وقد أراد الكاتب من خلاله أن يترك للمتلقي حرية التأويل والتفكير والربط بين هذا الاسم ودلالاته على ارض الواقع وقد رافق هذا المكان بحضوره كل فصول الرواية بل لنقل أنها بنيت عليه فهو الذي نسج شبكة علاقات مهمة مع ما حوله من أمكنة ومن أشخاص مما قد يوحي لدى المتلقي القارئ أن هذا المكان واضح الحضور وجلي الوجود على ارض الواقع . فأول ما ينفتح متن الرواية ينفتح عليه فيقول عنه الراوي واصفا إياه بمنتهى الدقة والشفافية : « إرم ذات العماد والتي دفعت رياح السموم الفلسطينيين المهجرين عدة مرات تحت إرهاب الاحتلال الغربي الصهيوني ليحتموا حول أعمدتها الأثرية التي تطاول السماء قعدوا مستهلكين فاكتشفوا فيها مواقع أثرية مدهشة جعلتهم يعتقدون أن هذه هي آثار المدينة الأسطورة نفسها التي لم يخلق مثلها في البلاد.. وقد أدى تدفق الاجتياح المستمر إلى إحيائها من جديد وانفتاح أوداجها فصارت مدينة عملاقة استطاعت بعد اشتباكات وتآلفات واتفاقات دولية أن تكون ولاية حرة في الصحراء العربية. لقد جاء هذا المكان المعادل الموضوعي لغيابه عن أرض الواقع والتعويض الجمالي والدلالي عن هذا الغياب الذي يراد له أن يستمر كأحد أهداف هذا التشريد المليوني في شتى بقاع الأرض. من هنا تأتي أهمية الحضور الخاص للذاكرة المكانية في تداعياتها وتفاصيلها وذلك من خلال وصف المكان بكل أبعاده. ثانيا : هونج كونج ومن الأماكن التي كان لها حضور مكاني متميز ما تحدث عنه الراوي في المتن تحت عنوان «هونج كونج»، وفي معرض حديث الراوي عن هونج كونغ يقول : نزلت في فندق في وسط البلد.. كان إلى جواره مسجد لونه أبيض دخلت لأتعرف على هذا الصرح الجليل فهمت من الإمام السبعيني العمر الورع المهيب الشكل والحديث باللغة العربية المسلم والذي استقبلني في بهو المسجد قبل الصلاة أن المسجد مشيد وممول من الوهابين ومزود بإمام ومؤذن وحارس وخادم يقضون رواتب عالية بالدولار.. واضح أن هذه المدينة هنا مكان حقيقي وليس متخيل إذ يسترسل الكاتب في وصف حيثيات دقيقة فيها دلالات العناوين في الأمكنة المغلقة: أولا: بنك الرخاء الكبير إن دلالة هذا العنوان هنا كمكان يعني أن الكاتب يريد أن يرسم لنا من خلال تلك الأمكنة تلك التفاصيل التي قامت عليها إرم ذات العماد مما يعكس أنها حضرت كمكان متخيل إلا انه ضارب الجذور في الواقع يقول الراوي واصفا هذا البنك: بينما كنت أقوم بعملي في فندق اللوتس مر السيد ضامن عبد الباسط فدعاني لزيارته في مكتبه وهناك أبلغني عن مناقصة معلنة لعمل حدائق وزراعة نباتات داخلية لبنك الرخاء الكبير الذي شيدت أدارته الرئيسة حديثا في موقع تجاري يراد له أن يكون هاما كنت أمر من هناك فأشاهد المبنى المذهل الحجم يتوسط معالم المنطقة وذلك لإدارة فروعه في الشرق الأوسط كله حسبما هو معلن. ثانيا: الفنادق لقد حضر هذا المكان من خلال عنوانين رئيسين في المتن وجاء عنوان فصلين اثنين بأسماء فنادق الأول فندق مارشال والثاني فندق مالتوس وكأن الكاتب هنا يريد أن نعايش الأماكن بواقعية عالية في مدينة ارم ذات العماد، يقول الراوي في حديثه عن الفندق مارشال على لسان البطل: وفي موعد محدد ذهبنا معا إلى المدير الأمريكي لمشروع فندق مارشال الذي صار مشهورا من قبل أن يبدأ قدم الدكتور المهندس فرحان النادر نفسه بوظيفته السابقة وباسمه الشهير.. قدر مدير المشروع ذلك نظرا لكون سلسلة الفنادق هذه هي شركة أمريكية ولكنهم في الحقيقة بعد أن اشتروا أراضيها وسجلوها شركة عامة في سوق الأسهم والأوراق النقدية وضعوا اسهما برسم البيع في السوق . وتحت عنوان فندق مالتوس واعتقد هنا أن للعنوان دلالة أخرى غير حضوره المكاني إذ ربما عمد الكاتب إلى الربط بين العنوان وهرم الحاجات الذي اخترعه مالتوس ليؤكد على قيمة هذا العنوان وارتباطه بأهل ارم ذات العماد يقول الراوي تحت عنوان فندق مالتوس: قرأت إعلان مناقصة تنفيذ مشروع جديد لحدائق فندق مالتوس ذي الخمسة نجوم وهو قريب من فندق مارشال الذي صارت حدائقه قيد الصيانة الدورية لدينا ذهبت إلى موقع البناء الذي صار شبه مكتمل
... نفذت المشروع وحصلت من الشركة الاستشارية على شهادة انجاز حسب المواصفات . إلا أن اللافت للانتباه هنا أن الكاتب وتحت هذا العنوان ظل مشغولا بمناقشة قضايا أساسية وجوهرية في الحياة ولعل أهمها معضلة الموت الذي يواجه الإنسان ويسرقه من دوامة الحياة. ثالثا: حديقة بيت الرئيس جاء هذا العنوان في الصفحات قبل الأخيرة من الرواية وكأن الكاتب هنا أراد أن يربط ما بين العنوان الرئيس «حدائق شائكة» وهذا العنوان الفرعي ليؤكد قوة حضور المكان وسطوته في هذه الرواية المكانية. وإذا كان هذا الحضور المكثف للمكان في العنونة والدلالات يؤسس لهذه العلاقة المتجدرة والقوية والمتجددة في هذه الرواية فإن الحضور السيري فيها يعزز عمقها ودلالاتها الوجودية والإنسانية والعاطفية حيث يصبح من المتعذر في كتابة كهذه أن يجري الفصل بين الذاتي الخاص والعام الجمعي من خلال التداخل الحاصل داخل هذه التجربة بين الذاتي الخاص والعام الجمعي. ولمّا كان لا جود للمكان خارج الزمن أو العكس فإن قراءة هذه العنونة المكانية ودلالاتها في بنية السرد الروائي لا يمكن عزلها دلاليا عن زمنها الخاص، سواء ما كان يحيل على الماضي أو الحاضر المستمر أو ما يحيل على ما هو واقعي أو غير واقعي أو أسطوري طالما أنه يشكل امتدادا لزمن التجربة في تمثلاتها وأشكال تعينها المختلفة كما تفصح عن ذلك مصائر أبطالها المهددين بهذا الوجود والضائعين في متاهات السرد.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 08-10-2021 09:40 مساء
الزوار: 591 التعليقات: 0