|
عرار:
القاص والناقد محمد رمضان الجبور لم يكن من قبيل الصدفة البحتة تناول الروائي د. حسين العموش موضوع روايته (رجال للبيع) فيما يتعلق بالصحافة والأقلام المأجورة وتعرية الفساد الذي يصاحب هؤلاء المرتزقة؛ فالمجال العملي للكاتب هو الصحافة، وهو أدرى كثيراً بدهاليز هذه المهنة، والرواية في تفاصيلها تقترب كثيراً من المذكرات والسيرة، فالسرد جاء بضمير المتكلم للشخصية الرئيسية والمحورية (رضا الفلاح)، الذي يتخرج من جامعة اليرموك قسم صحافة، ويعمل في البداية في مصنع للزيوت عاملا، ولكن طموحه يحثه للعمل في الصحافة التي أفنى سنواته الدراسية للعمل بها، وتأتي الفرصة له للعمل في الصحف الأسبوعية الحزبية، ثم في الصحف اليومية، والشهرة والانخراط في السياسة، وبعد أن كان قلماً يحارب الفساد والفاسدين أصبح بوقاً من أبواق السلطة، حتى أنكر نفسه، فهو ينظر في المرآة ولا يرى نفسه، بل يرى إنساناً باع نفسه وباع المبادئ التي تربى عليها « كنت أقف أمام المرآة مرات كثيرة لأصفف شعري لم أكن أعرف نفسي ...فأستدير إلى الخلف لأبحث عني. . علني أجدني في أوراق الحزب والنضال، في مقالات كتبتها ذات يوم عن الفساد والفاسدين وضعتني على أول سلم الشهرة والمجد ...كنت أنا ولم أكن أنا، كنت أبحث عنّي ...لم أجدني، وجدتهم كلهم إلا أنا، أضعتُ نفسي، فهنت عليها، باعتني في سوق النخاسة بثمن بخس، رجال معروضة للبيع، فيشتري من يدفع أكثر». بهذه الكلمات يوضح لنا الروائي د. حسين العموش – العنوان- الذي آثر اختياره ليكون العتبة الأولى في الدخول إلى متن الرواية، عنوان جاذب، يثير الفضول، وفيه الكثير من الدلالات. فهو يشد المتلقي للمتابعة لمعرفة حياة هذا الشاب (رضا الفلاح) وتطورات هذه الشخصية، ورغم ذلك لم تخلُ الرواية من لوحات جميلة صوّر فيها الروائي جزءاً من الحياة الاجتماعية والسياسية التي سادت في تلك الفترة. الجانب الاجتماعي ربما كانت كلمة (فساد ) العنوان الأبرز في الرواية، فالروائي يسلط الضوء على هذه المفردة برسم لوحات جميلة ومختلفة ومتعددة، ومن مقومات الرواية الاجتماعية تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية التي تمس الفرد والمجتمع، ومن خلال القراءة الأولى للرواية، نرى أن الكاتب لا يكتب من أجل تسويد صفحات دون هدف محدد، بل لقد وضع نصب عينيه هدفاً واضحاً، وقراراً لمعالجة موضوع اجتماعي شائك، قد غاب عن الكثيرين، فأصحاب الأقلام المأجورة هم من المجتمع، وقد أهلته خبرته في هذا المجال – الروائي- من سرد تفاصيل كثيرة تُقنع القارئ والمتلقي بمزيد من أسهم الصدق الأدبي في العمل؛ فالروائي د. حسين العموش، علم من أعلام الصحافة والإعلام، وقد استطاع بخبرته وتجربته المهنية الطويلة، أن يجمع مستلزمات موضوع روايته ويخرجها بفنية واحتراف ليعالج بعض الموضوعات الاجتماعية، من فساد ورشوة، واستغلال للمراكز والمناصب، وتعرية للكثير مما يجري في مجتمعنا ونراه ونلجم أفواهنا، عكس الصحفي (رضا الفلاح ) في بداية مشواره، عندما كان يقول للأعمى : أنت أعمى بعينه، وللفاسد أنت فاسد، ثم ألجم فمه المال ُ والمركز، حتى صار بوقاً لحكومات متتالية. الصور الاجتماعية التي ركز عليها الكاتب، وطرحها بطريقة فيها الكثير من التشويق أغنت أحداث الرواية، فحبه (لفاتن ) ابنة أحد الوزراء، ورفض والدها فكرة زواجها، لأنه يطمع أن يتقدم لخطبتها من هو أهم من صحفي حتى لو كان هذا الصحفي قد شق طريقه وأصبح واحداً من الأقلام الهامة، ويظل حبّ (رضا الفلاح) لفاتن هي إحدى العقد في النص الروائي، وتنتهي هذه العقدة عندما تتزوج فاتن من شخص آخر بعد قصة حبّ كبيرة بينها وبين (رضا الفلاح)؛ فالإحباط ملازم لبطل الرواية رضا، بالإضافة إلى الصور الأخرى التي رسمها الكاتب لشخصية مازن (زير النساء ) فقد استغل مها جنسياً ورفض أن يتزوجها وتركها وهرب إلى فرنسا بعد أن تحرك الجنين في أحشائها « افهمني يا رضا ...لا أستطيع أن أهضم فكرة أن تكون زوجة لي ...المرأة التي تسلم نفسها لرجل أول مرة. . تهون عليها نفسها في المرة الثانية ...لا أستطيع أن أقنع نفسي بالزواج من مومس « كثيراً ما تتكرر مثل هذه الصور في المجتمع وتكون الفتاة هي الضحية في مثل هذه الظروف. الجانب السياسي برز الجانب السياسي واضحاً في ثنايا الرواية، بل كان أشد وضوحاً من الجوانب الأخرى، فمن الصفحات الأولى يبدأ الروائي بالحديث عن فلسطين، وعن حياة أبيه في الجهاد، وفقده لعينه، وقد وظف الروائي فقد عين والده في أكثر من موضع في الرواية بطريقة جميلة ومعبرة « كلمات العجوز التي تأبى الخروج من أذني وصورة أبي وهو يبكي بعين واحدة ...كان يتساءل (كيف سلّم العرب فلسطين لليهود ...إنها جنة الجنان) لكنه لا يكمل وهو يتحسس عينه اليمنى التي خسرها في معركة كان يراهن أنها معركة البطولة والتحرير ...هناك في باب الواد عام 48 ترك أعز ما يملك الإنسان من جسده « فالرواية غنية جدا بالمواقف والصور السياسية، فالقضية الفلسطينية حاضرة في أكثر من جزء في الرواية، بل هي من القضايا الهامة التي ركز عليها الروائي في أكثر من موقف داخل الرواية، فقد رفض على لسان الراوي وبطل الرواية (رضا) في البداية الذهاب إلى واشنطن والمشاركة في محادثات السلام مع مجموعة من الصحفيين « توقعت كل شيء في حياتي إلا أن أجلس على بعد سنتمترات من ألد أعداء الأمة ...مع مجرمي الحرب. . مع قاتلي الفلسطينيين أطفالاً ونساء ورجالا ...كيف لي أن أرى أبناء القردة والخنازير وتمر الأمور بسلام «، فقد يجوز لنا أن نصنف رواية رجال للبيع بالرواية السياسية، فقد غلب عليها الطابع والجانب السياسي، أكثر من الجوانب الأخرى ويرى إيرفنجهاو أن الرواية السياسية هي: «الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي، بيد أن توضيح كيفية التحكم تبدو ضرورية؛ لأن كلمة تحكمي تحتاج إلى تحديد، وربما كان من الأفضل القول بأنها الرواية التي نتحدث عنها لنظهر غلبة أفكار سياسية أو وسط سياسي. إنها رواية تظهر هذا الافتراض دون صعوبة أوتحريف»، ولا نريد الخوض في التعريفات للرواية السياسية فهي كثيرة، وارى من الحشو إعادتها في ثنايا هذه المقالة، ولكن معظم ما جاء في الرواية من أحداث ومشاهد رسمها الروائي تُعبر عن أراء سياسية وجوانب سياسية. كثيراً ما يتطرق الروائي إلى مفردة فساد وفاسدين في أجزاء متعددة من الرواية فهو يقصدها دون غيرها، ويحاول تعرية الطبقة البرجوازية التي تتحكم بالغالبية العظمى من الناس « الفساد أن يعين الوزير ابنه أو ابنته بعقد خيالي في وزارة التخطيط ...أو أن يحيل عطاء على نسيبه في وزارة التربية .... للفساد الف شكل وشكل ...ولكنه يأخذ نفس الشكل وإن تلون أو تغير « الملامح السياسية تظهر بين الفينة والأخرى، وربما كان أبرز هذه الملامح العنوان (رجال للبيع)، فالعنوان يحمل دلالات متعددة، ويرسم للمتلقي الطريق الذي سوف تسلكه أحداث الرواية، فقد أصاب الروائي د. حسين العموش كبد الحقيقة عندما اختار عنوان روايته (رجال للبيع) فما أكثر الرجال الذين تم بيعهم بثمنٍ بخس، لأنهم تخلوا عن مبادئهم، وفضلوا المال والمنصب. وتظل رواية (رجال للبيع) تطرح مشكلة عامة تعاني منها الغالبية العظمى في منطقتنا العربية، وقد استطاع الروائي الوقوف والتوقف عند هذه القضية وعالجها بطرح أدبي رفيع وأسلوب روائي فيه الكثير من التشويق، وفيه الكثير من الصور واللوحات التي تشد المتلقي. وفي الرواية أحداث كثيرة وعقد بسيطة، حبكها الروائي بدقة متناهية، حتى جعلت المتلقي يؤمن أن هذه الأحداث بعيدة عن خيال الكاتب، وما هي إلا حقائق تحكي سيرة صحفي مر في هذه الظروف، وهذا يصبّ في مصلحة العمل الأدبي. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 29-07-2021 11:44 مساء
الزوار: 992 التعليقات: 0
|