|
عرار:
مفلح العدوان ثمة كتابات تشدك نحو مساحات تشتاق لها، وأمكنة تحنّ اليها، وشخوص تتوق لمعرفة جوانب أخرى منهم. وسردية معالي الصديق محمد داودية (أبو عمر)، من هذا النوع من الكتابات، والتي صاغها على شكل مذكرات، ولكنها أعمق دلالة وأثرا من المذكرات، وهي يمكن أن تصنف كسيرة ذاتية، ولكنها أيضا تحفل بسير الآخرين وقصص وحكايات وأحداث تجعل إطار تجنيس السيرة الذاتية ضيّقا على اتساعها إنسانيا، ومكانيا، إنها شاهد على مراحل ومحطات عدة في مسيرة تأسيس وتكوين الأردن. قرأت هذه السردية، حكاية الفتى الأردني، الرواية الخاصة بمحمد داودية، قرأتها متفرقة حين كتبها على حلقات، وتشرفت بأن أطلعني عليها مخطوطا يتهيأ لأن يكون كتابا يجمع كل تلك الذكريات والسير والأحداث والتفاصيل، وفي كلتا القراءتين، كنت أتماهى مع الأمكنة والشخوص والأحداث التي يمرّ عليها محمد داودية، كثيرا ما توقفت عند فقرة أثناء القراءة، أصفن في المكان، أتداعى معه، لقد زرته خلال كتابتي لـ(بوح القرى)؛ تلك هي المفرق، وحارة المعانية، والأجفور، والدجنية، وحمامة العموش، وهناك معان، والبتراء، والشوبك، وبير أبو العلق، وبير الدباغات، وشمّاخ، وهذه هي الطفيلة، وبصيرا، والمعطن، وتلك عمان، ومستشفى الطلياني، ومجمع النقابات، ونقابة الصحفيين، ونقابة المعلمين، ورابطة الكتاب، وصحيفة الأخبار، ومبنى البرلمان،..، وتتسع دائرة الفرجار ليكون التحليق إلى بيروت ودمشق وجاكارتا والرباط واليونان وأمريكا، أمكنة كثيرة تحملنا إليها سردية محمد داودية، ومع الأمكنة هذه هناك زخم من الشخوص يستعيد نبضها بحبكة روائية لافتة، فهو الكاتب والمثقف والمعلم والمعارض والصحفي والنائب والوزير والديبلوماسي، كثير من الأسماء والأحداث مرّت عليه في تلك المواقع وفي كثير من المواقف التي يسردها بصدقية عالية، وبلغة راقية دافئة، وبتلقائية سلسة دون تقعير ولا ادعاء، ولعل أكثر الفصول حميمية هي تلك التي وصفت معاناة البدايات حين كان «بلا سند وبلا عضد ما خلا الله وامرأة»، آن كان طفلا يتيما، وكانت والدته تغني له: (حسرتي عالطير قصّوا جناحه/ طيرن بلا جنحان كيفن يطير). هذا السرد النابض بتفاصيل يعرفها من عايش تلك الظروف، ووعي بعضها، أو استمع لأحاديث الطيبين من أهل القرى وهم يسردونها تاريخا شفويا، يتماهى مع حديث القرايا بعيدا عن حديث السرايا، فتلك العصمليات والرشاديات التي أخذت تتناقص من على صدر الأم، ويتغير إيقاع خشخشتها ورنينها كلما نقصت واحدة، يكون لهذا التغيير في إيقاع الصوت وقع وصدى يعكس حالة من الحاجة والفقر، تلك الحالة التي جعلت طوق القطيفة الأسود يتناقص وزنه، وتقل عدد العصمليات فيه، ولكن في المقابل يكبر الفتى، وتنفرج أحوال العائلة، ولكن بعد مسيرة من المعاناة والتعب لتكون فصول حياة هذا الفتى وعائلته حافلة بالعصامية والحكايات والعبر. مراحل كثيرة مرّت عليها هذه السردية: الطفولة، الشباب، مرحلة العمل، الدراسة، التعليم، العمل الحزبي، اليسار، النقابات، الصحافة، الانتخابات، النيابة، والوزارة، السلك الديبلوماسي، وأسماء عديدة أطلت بحكاياتها ومعاناتها؛ ها هي الأم والجدة والخالات والأخوات، ها هو الأب والجد، ها هم منحة الله للطفل (أربعة آباء وأربع أمهات)، هناك رفاق المدرسة، ورفاق الحزب، والزملاء من المعلمين، والديبلوماسيين، والوزراء، والنواب، وكثير من الاحداث والتاريخ المفصلي يدور في فلك سرد السيرة المتقاطعة مع كثير من سير هؤلاء الشخوص ان كان على صعيد شعبي، أو على صعيد نضالي، أو على صعيد رسمي، وهكذا هو الأردن وتاريخه منذ التأسيس، فسير الناس هي أصدق تاريخ لهذا البلد الذي كان تكوينه ميثاق شراكة، وعقدا اجتماعيا، بين الجميع، وهو ما عبّر عنه محمد داودية في ما كتبه من سردية، سيرة ذاتية، مذكرات شخصية، كلها تعبر عن زخم نابض صادق يحتفي بالمكان والانسان، ويعكس نموذجا لافتا لحياة الفتى الأردني الذي شقّ أصعب الطرق، بجهد وإصرار، ليصل الى أعلى المراتب.. هنيئا لنا ولك هذه الكتابة والسردية اللافتة صديقي أبو عمر (معالي محمد داودية) النشمي الأصيل. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 25-07-2021 08:12 مساء
الزوار: 848 التعليقات: 0
|