|
عرار:
عمان - تتكشّف العلاقة دائماً بين عنصرين مركزيين من عناصر السرد هما المكان والشخصيّة عن جدل متحرّك بينهما، وهذه الجدل هو الذي يمنح الحراك السرديّ العام في الرواية قيمته وجدواه داخل الفضاء العام للرواية، فإذا كان المكان يأخذ دلالته التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية من حركة الأفعال وتشابك العلاقات وحساسيتها، فإنّه يتّخذ قيمته الكبرى في سياق علاقته بالشخصية المرتبطة به(1)، حيث يحصل تلاحم ضروريّ بين المكان والشخصية على نحو يتيح للفضاء السرديّ في الرواية أن يتشكّل التشكّل المطلوب. وبما أنّ النظام السرديّ في رواية «أخناتون ونفرتيتي الكنعانية» هو نظام خيطيّ أفقيّ فلا بدّ أن نقاربه على هذا المستوى، في سياق الانتقال مع المشاهد المكوّنة للرواية من مشهد إلى مشهد آخر بالتعاقب، على وفق ما يقدّمه الراوي الذاتيّ كلّي العلم من مشاهدات ومرئيات وتصورات ينقلها لنا من عين الكاميرا السردية التي يستخدمها في المنظار، فهو يسلّط عدسة الكاميرا على ما يرى من أحداث مسترجعة من الماضي القديم وبفضل التقانات العلمية الحديثة التي يراها الراوي وكأنّها تحدث الآن، وليس للراوي من دور –مثلما قال في استهلال الرواية- سوى أن ينقل ما يشاهد ويرى ويسمع. تظهر أوّل شخصية أساسيّة في الرواية وهي شخصيّة الضابط «حور محب» حين يصفه الراوي وصفاً خارجياً فيزيائياً عن بعد، ويصف عمله في الميدان كي يضيف قيمة جديدة إلى وصفه الخارجيّ بالصفات الجسديّة التي تتراءى له في المنظار، وتؤدي الصفات الشخصية الجسدية دوراً مركزياً في التشكيل السرديّ للشخصية: «هذا الضابط الذي يتحرك جيئة وذهاباً، في أماكن عديدة اسمه حور محب، وهو شاب ممتلئ الجسم الرياضي المنتظم الأطراف، قصير البنية، كبير الرأس الملتصق بكتفيه، أشعث الشعر، نشيط الحركة، في نهاية العشرينات من العمر. أراه في الساحة المواجهة لقصر الفرعون، يراقب تدريبات جنوده المنتظمين في صفوف مستقيمة طويلة، وقد أكسبتهم هذه التدريبات انضباطاً في الحركة، ومهارات عسكرية. أراه يهتم بالجيش، ويحوِّل أفرادَهُ الواقفين بملابسهم غير العسكرية من شباب أُجراء، وعمال وفلاحين ومدنيين إلى جنود نظاميين.. يأمر وينهى، ويصرخ هنا، ويخفض صوته هناك..» فحركة الشخصية وصفاتها الجسدية والعمرية التي يكاد يختصرها بـ» شاب ممتلئ الجسم الرياضي المنتظم الأطراف»، تناسب وضعه الآمر في الميدان « يأمر وينهى، ويصرخ هنا، ويخفض صوته هناك..»، إذ لا بدّ في هذه الحال من «ذكر الشيء كما فيه من الأحوال والهيئات»(2) كي تبرز الصورة الحقيقية لعلاقة الشخصيّة بالمكان، لذا ينعطف الراوي مباشرة كي يصف المكان الذي تتحرّك عليه الشخصيّة ويحيط بها وبفضائها: «وفي طريق ترابي عريض، متفرع من الساحة العامة، أراه في يوم آخر هو نفسه، يقوم بتوجيه حدادين مصريين ونوبيين، وبعضهم كنعانيون، يعملون في محلات حرفية واسعة، قد تكون تابعة للجيش، وهم منشغلون بصناعة النِّبال الحديدية والأسهم الرفيعة، وآخرين ينفخون النار تحت السيوف ويحمرونها، وبعضهم يطرق حديدها المحمر بكور النار، وكأنهم في مصنع حديث متخصص لهذه المهمة.. وفي زاوية بعيدة في الساحة العامة، أجد عدداً منهم يتدربون بنبال حديدية، وقد تكون برونزية، إذ يقذفونها بالتتابع أمام ناظري تجاه عدو مصطنع على شكل دمية مثبت في نهاية المرمى، فيصيبونه في أعضاء مختلفة من جسمه، ثم يصيحون معاً، تحية تشجيع للبارع منهم.» تحاول الصورة المكانية التي يستطلعها الراوي ويصف تفاصيلها بتركيزٍ عالٍ أن تؤسّس فضاءً خاصاً لحركيّة المكان، وأن تعطي شكلاً مُعيّناً لطبيعة الحياة هناك، فعدسة الكاميرا ترصد الجزئيات المطلوبة وتصوّرها استناداً إلى رؤية الراوي وهو يستعدّ لانتخاب مرئيّات محدّدة ستقوم عليها روايته في قادم السرد. يبدو أنّ حركة المنظار تتبع هذه الرؤية المهيمنة الداخلية للراوي في تتبع الأحداث وتصوير الشخصيات التي تظهر بحسب تتابع الحكاية، على الرغم من أنّ العلاقة بين الراوي والمنظار لا تكشف عن طبيعة معيّنة بالنسبة لتحكّم الراوي بالمنظار أو إذعانه له ولحركاته، فالراوي يحاول استناداً لطبيعة الحيلة السرديّة إيهام مجتمع التلقّي بأنّ المنظار حرّ الحركة والراوي مجرّد راصد لا علاقة له بالتوجيه أو الأمر أو الفرض: «وفي حركة سريعة من منظار الزمن ينقلني إلى منطقة أخرى لم أتوقعها، فأشاهد الإمبراطور الشهير أمنحتب الثالث منطلقاً بعربته في البر، متحفزاً، وهو يقوم ويجلس على مقعد ملكي جلدي وثير، مستورد من بلاد النهرين، الذي صاروا يقلدونه هنا في مصر، فيكون متاحاً لرؤساء الجيش والقادة، وأثرياء القوم، الراكبين على عربات تنطلق بهم في كل اتجاه يريدون.» يكتسب هذا المشهد أهمية في تقديم شخصية الإمبراطور الشهير «أمنحتب الثالث» إلى مسرح الأحداث على نحو وصفيّ باذخ، فيتحوّل المكان في حركة سريعة للمنظار إلى ما هو خارج توقّع الراوي «منظار الزمن ينقلني إلى منطقة أخرى لم أتوقعها»، وتتكرّس الشخصية «أمنحتب الثالث» في هذا المكان على وفق حساسيّة بالغة الثراء والملوكية «يجلس على مقعد ملكي جلدي وثير، مستورد من بلاد النهرين»، على نحو يصلح للتقليد لفرط عظمته فيقلدونه في مصر»رؤساء الجيش والقادة، وأثرياء القوم» لتمكين المكان من أن يكون لائقاً بفضاء الشخصيّة، على نحو تتوافق فيه رؤية الشخصية مع رؤية المكان سردياً، بما يجعل من الشخصية عنصراً فاعلاً في المكان ومؤثّراً في تفاصيله وحيثياته. تظهر شخصية جديدة ذات طبيعة إشكاليّة هي شخصيّة «عبدي حيبا» بوصفه أداة تعبّر عن السيطرة والهيمنة عند المصريين، ويعيّن الراوي المكان الذي تتواجد فيه هذه الشخصية ويطلب من المنظار نقله إليها: «كنت قد سمعت بـ عبدي حيبا، خادم محميات الفرعون الملكية في جنوب فلسطين الكنعانية، الذي يُسوِّق المصريون اسمه وسمعته المشبوهة على نطاق واسع، ليظهروا أنهم يسيطرون على المنطقة بكاملها، ولهذا طلبت من الجهاز أن يوجهني إلى مكان تواجده، فنقلني إلى منطقة في شمال شرق مدينة الخليل، حيث أشاهد الآن مرتفعات كثيفة الأشجار، ومنخفضات سحيقة، مفروشة بالصخور والشجيرات والأعشاب..» إذ يحدّد الراوي المنطقة بدقّة في «شمال شرق مدينة الخليل، حيث أشاهد الآن مرتفعات كثيفة الأشجار، ومنخفضات سحيقة، مفروشة بالصخور والشجيرات والأعشاب..»، بكلّ ما يحيل عليه هذا التحديد من رؤية سرديّة يتعمّد الراوي إحضارها، لكنّ الراوي ينتقل نحو أوسع أفق جماليّ للمكان بعد ذلك كي يتحوّل خطابه إلى فضاء شعريّ محمّل بالصفات المكانيّة والوصف المكانيّ الباذخ على هذا النحو: «تخطف بصري فيها محمية متميزة الزراعة، تُطل من مرتفعات الخليل على واد منخفض اسمه وادي العرّوب.. أجد مياهه تنساب بِكراً رقراقة، قادمة من ينابيع تنبلج من بين جبال الخليل، وتستمر تـتـثـنّى في جريانها، وكأنها تعرض أنوثة طبيعية مغرية، لتصبّ في بحيرة صغيرة، اسمها (بحيرة الشاطئ) كان قد صممها ونفّذها بشكلها الفني هذا أجيرون في محمية الفرعون أمنحتب الثالث، لتكون شبه شاطئ بحري متقزم جداً، يتوسط المحمية الجبلية. حيث لا شواطئ بحرية هناك.. الله ما أجملها.. مياه صافية زلال، تصب في بحيرة زرقاء، تزينها تلال من الخُضرة المزخرفة بأزهار برِّية مزركشة، تُطرز حواف كروم العنب.. ما هذه المناظر الساحرة!» المشهد المكانيّ يخضع لرؤية سرديّة تنطوي على قصديّة عالية في استنهاض الجانب الوجدانيّ الاستعادي، لأجل أن يكون هذا المكان بالذات شكلاً معيناً من أشكال الجنّة، وما يؤكّد هذا الاستنتاج جملة الراوي في بداية وصف المشهد «تخطف بصري» وكأنّ الصورة التي وصفها للمكان هي صورة من صور التجلّي الوجدانيّ العميق الحالم، فشبكة الأوصاف والنعوت والتشبيهات التي أحاط بها هذا المشهد المكانيّ «محمية متميّزة الزراعة»، في ظلّ حضور الشخصيّة المميّزة «الفرعون أمنحتب الثالث»، تعكس رغبة الراوي الذاتيّ كليّ العلم بالتركيز في هذه المكان صحبة هذه الشخصيّة لأغراض سرديّة تتعلّق بالمقولة التي يرغب في توكيدها، وتكشف عن هويّة المكان التاريخيّة بمعيّة هوية الشخصية أيضاً. وهي صياغة وصفيّة للمكان يتداخل فيها المرجع الواقعيّ بالتخييل السرديّ، ويتواصل في هذا السياق كي يصف أصنافاً أخرى فريدة من الأشجار لا يمكن أن تجتمع إلا في مكان استثنائيّ خاصّ، شحن إحساس الراوي بطاقة هائلة على التمعّن والفحص والتمتّع بالمشاهدة والرؤية والنظر إلى تفاصيل الطبيعة في قلب المكان: «يتجول المنظار بي فوق أدغال هذه الجبال، شبه الخالية من الناس، ولكنها مغطاة بأجمات من أشجار الصنوبر، والأرز الكنعاني، وسنديان البلوط، والخروب، والبطم، والزعرور، وليست آخرها أشجار السدر الفلسطيني.» يتحرّك وصف المكان بدلالة بقع كلاميّة سرديّة كأنّ ريشة رسّام تضع بصماتها عليه «أدغال هذه الجبال/شبه الخالية من الناس/مغطاة: بأجمات من أشجار الصنوبر/الأرز الكنعاني/سنديان البلوط، والخروب/البطم/الزعرور/أشجار السدر الفلسطيني.»، وكأنّ آلة الوصف بوساطة أنواع الأشجار الضخمة القوّية الصامدة تضع خريطة لوطن عربيّ مصغّر قام من تاريخيّة المكان وصلابة أشجاره في مقاومة الزمن، ومن ثمّ ينطلق الراوي لنقل ما آلت إليه شخصيّة «عبدي حيبا» في المكان حين تحوّل إلى حارس للمكان وليس سيّداً للمكان: «أقتربُ من محمية كروم يغطي عنبُها الجبال والوديان، فأشاهد عبدي حيبا يجلس في قصره على شرفة علِّية، تطل على المحمية، متجاهلاً النظر إلى نصب للأله المصري آمون، الذي يقف بعيداً لا يأبه به أحد، ويبدو أن رجال الإمبراطور الأسبق؛ أمنحتب الثاني قد أقاموه في صدر محميته الخليلية، ليكون إشارة لوجودهم، ومن ثم أخنعوا عبدي حيبا الذي كان رجالُ الفرعون قد استقطبوه، ثم دربوه ليكون والياً على المحمية، بكل ما فيها من مبانٍ وممتلكات. وقد يكون مسخراً ليكون مسؤولاً عن بعض محميات الفرعون في الممالك المحيطة.» ينطوي هذا المشهد على تفاعل المكان مع الشخصيّة تفاعلاً كاشفاً عن نوع من المؤامرة الضمنيّة الإشاريّة المجازيّة، إذ تظهر شخصية «عبدي حيبا» وقد خنعت وخضعت لرجال الفرعون فصار أداة بأيديهم تصفها هذه الجمل السردية المتلاحقة «متجاهلاً النظر إلى نصب للإله المصريّ آمون/أخنعوا عبدي حيباالذي كان رجالُ الفرعون قد استقطبوه/ثم دربوه ليكون والياً على المحمية/وقد يكون مسخراً ليكون مسؤولاً عن بعض محميات الفرعون في الممالك المحيطة»، وهو ما يمكن سحبه إلى حاضر المكان والشخصيّات كي تكون شخصية «عبدي حيبا» قناعاً لشخصيات شبيهة تلعب هذا الدور في راهن الواقع. فما هذا السرد الذي ينتقي مشاهد أمكنة وشخصيات معيّنة سوى وسيلة لكشف وهن الحاضر العربيّ وخنوعه وتسخيره، حين يتجاهل مقولات التاريخ ويقفز من فوقها ويرضى بالذلّ والهوان، ليكون السرد وسيلة من وسائل التعبير عن الاحتجاج والرفض، ووصل الماضي بالحاضر، والذاكرة بالعين الرائية الباحثة عن مصير، ولعلّ المشهد اللاحق يكشف طبقة أخرى من طبقات هذا الاستدراج والاستقطاب للشخصيات وإخضاعها للهيمنة، فالجانب الإيروسيّ هو من أكثر الجوانب التي تجعل الشخصية خاضعة ومتدنّية لخدمة أسيادها: «وفجأةً أشاهد واحدة من جميلات عشتروت تلبس ثوباً شفافاً قصيراً مشقوقاً من الجانبين، يكشف عن مساحات مرتفعة من فخذيها، بجسد زهري مُسمَرّ، أراها تتقدم منحنية قليلاً، فتقدم له كأساً زجاجياً شفافا من الخمر، بينما تتكور نعومة نهديها الفتيين من الأمام، وتنبلج استدارة إليتها من الخلف، فتثيرني أنا البعيد القريب من المشهد، بينما أجد عبدي حيبا لا يلتفت إليها، ولا تحرك فيه أية مشاعر.. ربما لكثرة المعروض من هذه المغريات الأنثوية، إذ أشاهد صبايا جميلات يتحركن في أركان القصر وما حوله، جيئة وذهاباً، بانشغالات مختلفة، بينما هو مشغول مع وصيفته الكاتبة الجميلة، بإملاء رسالة ليرسلها إلى سيده الفرعون.» إنّ الوصف الباذخ لجميلات عشتروت وهنّ يحطن بشخصية «عبدي حيبا» المستلبة يؤدي دوراً كثيفاً في تكريس الرؤية السرديّة للرواية، إذ تحتشد طبقات هذا المشهد لتستقرّ في الرسالة التي يمليها على كاتبته الجميلة كي يرسلها «إلى سيده الفرعون»، فالعلاقة بين المكان والشخصيات في هذا المشهد تتحدّد في مستويات عديدة هي: شخصية عبدي حيا/شخصيّة سيده الفرعون/شخصيات الصبايا الجميلات في أكثر من سياق وأكثر من مظهر/الرسالة التي يتمّ تدوينها بأنامل الكاتبة الجميلة»، تعمل كلّها على رصد الحالة وتصويرها بدقّة ووضوح لإمكانيّة أن يتخلّى مجتمع القراءة في هذه اللحظة السرديّة عن فضاء المحكي، والانتباه نحو محضنهم الواقعيّ بعيداً عن حرارة السرد وإغراءاته وإغواءاته والنظر إلى ما يحيط بأفراده من حالات مشابهة، تحقق التوازي السردي بين المسرود الحكائيّ في الرواية والموجود الواقعيّ في الحقيقة. الهوامش: 1 محمد الباردي. الرواية العربية الحديثة, ط1, اللاذقية, دار الحوار, 1993, ص232. 2 قدامة بن جعفر، نقد الشعر, القاهرة, المطبعة المليجية, 1935, ص70. المصدر: صحيفة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 16-08-2020 10:00 مساء
الزوار: 952 التعليقات: 0
|