غسان إسماعيل عبد الخالق أمران يصعب تصوّر أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين دونهما؛ الحروب ... والفلسفة الظاهراتية (Phenomenology) التي أرسى قواعدها الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 – 1938)، وساق معه وبعده المئات من المفكرين والنقّاد والشعراء. لقد اعتقد هوسرل بإمكانية التوصل إلى جوهر الظواهر أو الحقائق بوصفها موضوعات يمكن استهدافها بالتفكير والتأمل والإحساس عبر الذات المتحرّرة من أيّة معرفة سابقة سوى خبراتها ومشاهداتها ومشاعرها. وهذا يعني أن الموضوعات أو الحقائق لا توجد إلا إذا فكّرنا بها -وفقًا للكوجيتو الديكارتي المشهور: (أنا أفكِّر إذن أنا موجود)- أو تأملناها أو عبّرنا عن مشاعرنا تجاهها. كما يعني أن هناك علاقة جدلية تقوم بين الذات والموضوع، بحيث يرفد كل منهما الآخر، فهي علاقة إثراء وليست علاقة تناقض أو تحدّ، كما أنها لا تنطوي على أحكام قاطعة بخصوص الموضوعات، كتلك الأحكام التي يمكن أن نطالعها لدى عالم البيولوجيا أو حتى لدى عالم النفس السلوكي المولع برد كل اضطراب نفسي إلى خلل في الشبكة العصبية لدى الإنسان. القول بوجود الحقائق هو ما يجمع بين أفلاطون وديكارت وهوسرل، لكن ما يفرّق بينهم ليس بالهيّن؛ فأفلاطون يؤكّد الوجود الموضوعي لهذه الحقائق، سواء فكّرنا بها أم لم نفكر، فضلاً عن اعتقاده بقصور تفكيرنا عن الإحاطة بها، وديكارت يشترط وجود الذات المنطقية المتشكّكة حتى توجد هذه الحقائق موضوعيٌا، وأما هوسرل فإنه وإن اشترط وجود الذات المفكّرة حتى يوجد الموضوع، إلاّ أنه يؤكد إمكانية بلوغ الذات درجة الإحاطة بموضوعها، انطلاقًا من إطلاق العنان للتعبير عن الخبرات والمشاهدات والمشاعر. وقد ترتَّب على هذا التفارق أن أسند أفلاطون للفلاسفة دورًا قياديًا في جمهوريته الفاضلة بوصفهم حكماء عقلانيين وطرد الشعراء بوصفهم أفّاقين مزيّفين للمعرفة. كما أسند ديكارت للمنطق الرياضي مهمة قيادة الذات لتأكيد وجود الموضوع، فيما شكّك هوسرل بجدوى الفلسفة العقلانية المنطقية ومناهج البحث العلمي والتجريبي، وأفسح الباب للشعراء كي يستعيدوا اعتبارهم بوصفهم شهودًا حسيّين ومنتجين لامعين لتجاربهم وأحاسيسهم الداخلية العميقة. التقط الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 – 1962) هذا الخيط الأخير، وراح يمدّه ويجدله على نحو فريد حتى أوصله إلى أقصى حدوده الممكنة. فقد ضرب صفحًا عن ثلاثة عشر كتابًا لامعًا كان قد ألّفها في فلسفة العلوم، واتجه -على نحو مباغت- إلى فلسفة الجمال ونظرية الأدب بوجه عام وشعرية الخيال وأحلام اليقظة بوجه خاص، انطلاقًا من مقولة هوسرل بخصوص ضرورة وجود الذات المفكّرة والمتأمّلة حتى يوجد الموضوع، وضرورة النظر إلى محصلة هذا التفاعل أو الجدل المتبادل بين الذات والموضوع بوصفها رؤية فرديّة محضة لا علاقة لها بالقوانين التي تحكم الواقع الموضوعي. هذه الرؤية، وبهذه المواصفات لا يمكن إنجازها إلا عبر الخيال الشعري، بصوره واستعاراته ورموزه، وبعكس ذلك فإننا ملزمون بالاحتكام لقوانين الواقع المنطقية والعلمية والتجريبية. نحن إذن أمام ظاهراتي مجدّد، يستند إلى خبرة معرفية واسعة بالفلسفة والعلوم، ويبدو أكثر انسجامًا مع منطق المعرفة، إذا ما قارناه بهوسرل الذي امتنع عن إطلاق أية أحكام على الواقع الموضوعي انطلاقًا من القوانين المنطقية والعلمية، فبدأ (باشلار) انقلابه الفلسفي عبر كتابه (التحليل النفسي للنار) في عام 1937، ثم تابعه عبر كتابه (الماء والأحلام) في عام 1941، ثم أكّده عبر كتابه (التراب وأحلام الإرادة ... التراب وأحلام الراحة) في عام 1948، ثم توّجه بكتابه (جماليات المكان) في عام 1957، وختمه بكتابه (شاعرية أحلام اليقظة) في عام 1960. قرأت الطبعة الثانية المترجمة من «جماليات المكان» لغاستون باشلار في عام 1984، فأغرمت به، لأنه ساعدني على تفهم كثير من المشاعر التي كانت تجتاحني تجاه مدينة إربد بوجه عام، وتجاه جامعة اليرموك بوجه خاص، وتجاه البيت الذي كنت أقطنه في عمارة «ست أبوها» بوجه أخصّ! يا له من مدخل ذاتي للاشتباك مع كتاب ملأ الدنيا وشغل الناس لخمسة عقود! لكني تعمّدت هذا المدخل لأكون أكثر انسجامًا مع ذاتية باشلار وظاهراتيّة كتابه العتيد. ومع ضرورة التذكير بأنني قد عدت لقراءة هذا الكتاب الآن ، وبعد مرور نحو أربعين عامًا على قراءَتي الأولى له، لغاية ظاهراتية في نفسي، فإنني أستطيع أن أؤكد حقيقة أنه من أفضل وأجمل وأصعب الكتب التي ألِّفت في القرن العشرين، فهو نسيج وحده بكل ما في الكلمة من معنى، وكأن كل كلمة أو جملة أو فقرة أو صفحة منه، قد قدّت باتفاق مضمر وتام بين أربعة مؤلّفين اجتمعوا في شخص باشلار – وهم: العالم والفيلسوف والمحلِّل النفسي والشّاعر! على أن هذا الإحساس بفرادة «جماليات المكان» لا يمكن الشعور به، إلاّ إذا سلّمنا بإمكانية حدوث كل ما يقال داخله، أعني أنه أشبه بحكاية مصباح علاء الدين؛ فحتى نستمتع بهذه الحكاية تمامًا ونستسلم لسحرها، علينا أن نخلع أحذية المنطق والواقع والمعقول، قبل أن نلج بابها السّحري. ولا ريب في أن باشلار قد أسدى لنا في هذا الكتاب صنيعًا لا يقدر بثمن، حينما بادر هو أولاً إلى التسليم ببراءة حكايته وقابليتها للتصديق، فألقى خلف ظهره بثلاثة عشر كتابًا لامعًا في فلسفة العلم ليبدع كتابًا في فلسفة الجمال، انطلاقًا من قناعته التامة بعبقرية الخيال البشري وقدرته على تجاوز حدود العقل والحس والمادة عبر الذاكرة وأحلام اليقظة، واستنادًا إلى دور المكان في مرْكزة وتكييف هذا الخيال. إنّ أيّة محاولة لتلخيص مقولات «جماليات المكان» استنادًا إلى «جماليات المكان» نفسه محكوم عليها بالفشل مسبقًا، لأن كل جملة في الكتاب –كما أسلفنا- تصلح لتكون اقتباسًا وفكرة وصورة في آن واحد، فليس هناك من سبيل لإنجاز هذه المهمة الشاقة إلا من خلال تقديم قراءة ظاهراتية له، أي بذل أقصى ما نملك من جهد للتعبير عن إحساسنا به دون التورّط في إعادة إنتاج عباراته وطروحاته حرفيًا! ولعل إعادة بناء فكرة المكان، هي الحكاية الأولى التي بادر باشلار للمصادرة من خلالها على مطلوب الرياضيات والفيزياء والميكانيك في آن واحد، لأنه لوّح –منذ البداية- بعبثية الاعتقاد بأن المكان مفهوم هندسي متعيّن، وأحَلّ محلّه مفهوم المكان المتخيّل العابر لحدود الزمان والمساحة والمسافة عبر الذاكرة وأحلام اليقظة. المكان المستعاد من الماضي أو المختار في الحاضر، أو المنشود في المستقبل، وفقًا لباشلار، هو مركز الخيّال الخلاّق، والبيت هو مركز المكان، والحجرة هي مركز البيت، والخزائن والصناديق والعلب هي مراكز الحجرة. ليس هذا فحسب، بل إن البيت كائن حي يسمع ويرى ويتحدّث ويتنفّس ويحب ويخاف ويحزن ويفرح! كما أن له رأسه وأناه العليا (العليّة) وله أطرافه وأناه السفلى (التسوية). وله جذعه وقلبه النابض (غرفة المعيشة)، كما أن له عيونًا وآذانًا (النوافذ) وألسنة وشفاهًا (الأبواب)، فضلاً عن أيقوناته ورموزه (الأقفال والمفاتيح). البيت .. هذا المعادل الشعري لوجودنا، كلّما تجاوزنا حجرة المعيشة فيه باتجاه الأعلى شعرنا بالطمأنينة والثقة وغمرنا الضوء والدفء، وكلما انحدرنا فيه باتجاه الأسفل شعرنا بالخوف والقلق وحاصرنا الظلام والبرد. ولأنه ليس مفهومًا أو صورة هندسية، فإنه يمكن أن يكبر ويتضخَّم حتى يصبح مدينة أو قرية أو قلعة أو غابة، كما يمكن أن يصغر ويتضاءل حتى يصبح عشًا أو قوقعة أو حبة فاصولياء! حتى نمتلك مثل هذا الإحساس الظاهراتي بالبيت، كبيرًا كان أم صغيرًا، فإن علينا أن نغادر منطق السببية التي طالما تمترس خلفها الفيلسوف والعالم والمحلِّل النفسي، وأن نُسْلِمَ أنفسنا لمنطق الصورة التي طالما أنتجها الشاعر بوصفه حالمًا عظيمًا. إن هذه الصورة تمثل ناتج العلاقة بين الشاعر والواقع في لحظة مختارة بعناية، وهي رغم سذاجتها الظاهرة إلا أنها تمتلك منطقها الخاص وحقيقتها الراسخة، لأنها تعبر عما رآه الشاعر ووعاه وامتلك القدرة التامّة للتعبير عنه. على أننا يجب أن نكون على حذر من الخلط بين الصورة الشعرية الخالصة والاستعارة الشعرية الخادعة، لأن الصورة هي الأفكار الحقيقية المعبّرة عن الواقع، وأما الاستعارات فهي ليست أكثر من تعبيرات نتوسل بها لتأكيد عجزنا عما لم نفهمه أو لم نحس به على نحو عميق، وبهذا التأويل الظاهراتي للمعرفة، يمكننا الزعم بأن العالم ليس إلا مجموع الصور الشعرية التي أنتجها الشعراء العظماء. إنه محصِّلة جدل الخيال الذاتي مع الواقع الموضوعي الذي لا يتحقق ولا يكون إلا إذا أحسسنا وعبّرنا به عن هذا الإحساس من خلال الشعر. وإذا كان وجود الذات الحالمة الشاعرة شرط وجود الواقع الموضوعي وتحقّقه، فإن وجود القارئ الحالم المبدع هو شرط وجود الشاعر العظيم وتنصيبه، أعني أن شكسبير أصبح شاعرًا كبيرًا لأن ثمّة قرّاء كبارًا قرأوا شعره وتأثروا به وأعادوا قراءته وهم يحلمون بأن يكونوا شعراء مثله. في هذا المستوى من القراءة الحالمة المترعة بالخيال الخلاّق يصبح الشعر / الشاعر موضوعًا لذات القارئ المبدع الذي يطلق العنان لخياله حتى يبلغ لحظة الاسترخاء الروحي التام، محققًا في كل قراءة، حالة فريدة من اتحاد الذات مع موضوعها، أو مطلقًا رغباته الدفينة في أن يكون شاعرًا، إلى درجة انبثاق ما يسميه باشلار (الرنين العاطفي)، وهي تلك اللحظة من التواصل الحسي العميق والنبيل والنابض بالكبرياء بين القارئ والقصيدة، أو بين الذات وموضوعها. كل هذا الشّطح الظاهراتي، يصعب التعاطي معه، ما لم نجتز عتبته وقد تجردنا من كل مسلّماتنا المعرفية السابقة، وما لم نفكر بحرية تامة ومنعتقة من أية مرجعية فلسفية أو علمية أو سيكولوجية، كما يؤكد باشلار الذي جرّد من نفسه مثالاً لما يمكن أن يكون عليه العالم أو الفيلسوف من وثوقية معرفية نمطيّة وما يمكن أن يؤول إليه من حدس واستبصار. إلى درجة أنه -وعلى غير العادة- يمثِّل للعالم والفيلسوف الواثق بالاسكافي الذي لن يرتفع عن مستوى النظر إلى الحذاء، ويستنتج تبعًا لذلك أن المحلّل النفسي أيضًا وبوصفه مهووسًا بنظرية الكبت الجنسي لن يرتفع عن مستوى التفكير بالفَرْج! وللحق فإن علينا الاعتراف بأنه قد أبلى بلاء حسنًا، حينما تصدى لتأويل أيقونة القفل والمفتاح من منظور ظاهراتي مكاني مقارنة بالتأويل الفرويدي الجنسي؛ فالمحلّل النفسي لن يجد مانعًا من الاندفاع باتجاه التفسير الجنسي المبتذل للقفل بوصفه العضو التناسلي المؤنَّث وللمفتاح بوصفه العضو التناسلي المذكّر. أما باشلار، وفي لحظة من ألمع لحظات استبصاره الظاهراتي، فإنه ينفذ إلى ملاحظة حقيقة أن مقبض الباب لا يفتح الباب ويغلقه كما قد يتبادر فورًا لأذهاننا، بل إن وظيفته في المقام الأول هي فتح الباب، إذ أن (المفتاح هو الذي يغلق البيت أكثر مما يفتحه في حين أن مقبض الباب يفتح الباب أكثر مما يغلقه... لأن حركة الإغلاق هي دائمًا أكثر حدة وصرامة من حركة فتح البيت)!! هل كان
الشعر خاصة، وهل كان الشعراء بوجه أخص، بحاجة ماسة إلى هذا الإعلان المدوّي عن إعادة الاعتبار لهم في مستهل النصف الثاني من القرن العشرين الذي شهد غطرسة العلم في أقسى صورها بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما تمهيدًا لتتويج هذه الغطرسة في أكثر استعاراتها التي تمثلت في هبوط الإنسان على سطح القمر؟! أعتقد أن (فلسفة الجمال) خاصة و(نظرية الأدب) بوجه أخص كانا في حاجة قصوى لمن يثأر من نظرية الكهف الأفلاطوني، ويتكفّل بإعادة الشعر والشعراء إلى شوارع الجمهورية الفاضلة، التي لم يتردّد أفلاطون في طردهم منها، لأنهم مزيّفون للواقع وأبعد ما يكونون عن امتلاك المعرفة بالحقائق الخالدة. إن «جماليات المكان» فيما أزعم، يمثل بيانًا شعريًا مناوئًا لأفلاطون الفيلسوف في المقام الأول، ولأرسطو العالِم في المقام الثاني، وما كان لهذا الإعلان أن ينبثق بكل هذه الحيوية لولا الفجائع وخيبات الأمل الفادحة التي خلّفتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، جرّاء تعاظم التنافس والتنازع على المصالح الماديّة المجرّدة. وهل كان التنافس والتنازع ليبلغا هذا الحد من القتل والتدمير والإبادة لولا تصاعد منظومات المنطق الواقعي العلمي العقلاني البارد؟ ما من محرّك أكثر وجاهة –فيما أزعم- من هذه (الصورة التراجيدية) التي قيض لباشلار أن يشهد كثيرًا من (استعاراتها القاتلة) إبّان عمله في الجيش كضابط برقيات، ومع أنه لم يأت على ذكر الحرب العالمية الأولى أو الثانية إلاّ من خلال مثال عابر، إلاّ أنّني سأغامر بالقول: إن هذا العنوان؛ «جماليات المكان» وكل ما استدعاه من مقاربات لجزئيات وكليّات حميمة جدًا، ما كانت لتنبثق في وعي باشلار لولا «قبائح المكان» التي نثرتها مدافع وطائرات وجيوش الحربين العتيدتين، بل لولاها ما كان باشلار ليهجر فلسفة العلم الماضية كحد السكين، ويلوذ بصومعة الشّعر بحثًا عن سكينته الذاتية العميقة. كلّ ما تقدّم، يمثل (لحظة استرخاء) طويلة داخل قوقعة باشلار، فهل يمكن لهذه اللحظة أن تمتد خارجها أيضًا؟ إذا فعّلنا (جدل الداخل والخارج) من منظور غاستور باشلار، لن نستطيع التنكر لجملة من الاستدراكات الملحة التي يمكن إجمالها على النحو التالي: * مع أن الشّعر بوصفه معرفة متعالية ومكتفية بذاتها، ومع أن الشّاعر بوصفه حالمًا حكيمًا -من منظور غاستون باشلار- يبدوان خلاصين مريحين لروح البشرية التائقة لاستعادة طفولتها، إلا أن من الصعب التسليم لهما بهذه الصدارة، دون الاستدراك بالقول: إن الشعر والشاعر، والفلسفة والفيلسوف، والعلم والعالم، يمكن أن يقدموا مجتمعين وليسوا منفردين، أفضل الاقتراحات على صعيد تكييف مركز الخيال الماضي والحاضر والمستقبل للجنس البشري. ولا ريب في أن هذا الاعتصام الباشلاري بخيار الشعر والشاعر، دون غيرهما من الخيارات، يمثل ردة فعل عنيفة جرّاء الإصابة بصدمة مؤلمة سببها الانفجاع بما أدى إليه التمترس الشديد خلف المادية العقلانية والوضعية العلمية، من نتائج كارثية طالت كل أرجاء الكرة الأرضي * أمّا على الصعيد المنهجي البحثي، ومن الناحية الإجرائية، فقد بادر غاستون باشلار، في أكثر من موضع، إلى التبشير باسم الشعر والشاعر، لكنه لم يتردّد في التدليل على بشاراته بالرواية والراوي! صحيح أن المقاطع المتعدّدة التي اقتبسها من روايات اختارها بعناية تتسم بشعرية يصعب انكارها، لكنها في المحصلة النهائية، نتاج خيال الروائي وليس نتاج خيال الشاعر، أو هي إن شئنا التسوية، لا تقل تحليقًا عن مثيلاتها من النصوص الشعرية الشعرية، وهو ما يعني أن الروائي يمكن أن ينتج خيالاً خلاّقًا، سرديًا شعريًا كان أم شعريًا شعريًا، على قدم المساواة مع الشّاعر. ولعل أبلغ (المفارقات) التي وقع فيها غاستون باشلار على هذا الصعيد، يتمثل في مروره العابر برواية (روبنسون كروزو) لدانيال ديـو، دون أن يستفيض في تحليل شعرية العزلة التي تمور بها ضمنًا أو شعرية الحنين إلى لحظة البداية البشرية أو شعرية المكان بوصفه جزيرة وبوصفه بيتًا وبوصفه عليّة وبوصفه مخبأً، ودون أن يستفيض أيضًا في تحليل شخصية روبنسون كروزو بوصفه حالمًا عظيمًا وشاعرًا ضمنيًا باهرًا. * لقد أقدم باشلار على ارتكاب الخطيئة نفسها التي سبق لأفلاطون أن ارتكبها؛ فأخرج الفلاسفة والعلماء والمحللين النفسيين من مملكته الشعرية، ردًا على قيام أفلاطون بإخراج الشعراء من جمهوريته الفاضلة كما استنتجت سالفًا، وهو ما يؤكد حقيقة التنافي المتوالي الذي تجترحه بعض الأفكار تجاه بعض الأفكار، في غفلة من المفكرين الذين يغلقون بعض الأبواب في ذروة مناداتهم بإشراع أبواب أخرى كي تدخل رياح الحريّة!! لقد رأينا ذلك يحدث بنجابة منقطعة النظير بدءًا بهيجل مرورًا بماركس وليس انتهاء بسارتر، إن الفكرة ونقيضها، هما الجمرتان اللتان ستظلان تمدّان قطار التاريخ باندفاعه المطلوب. * مع أن الحنين إلى المكان الماضي، عبر الذاكرة وأحلام اليقظة، يجعل من المكان المستعاد، غالبًا، مكانًا مرادًا، إلا أن علينا الاعتراف بأن المكان يمكن -وقد يكون غالبًا على أرض الواقع- مكانًا مضادًا، وخاصة إذا كان تفكيرنا به وليد الحاضر. صحيح أن الأماكن تتحول إلى أحلام يقظة جميلة كلّما بُعد العهد بها، بحكم حنيننا إلى أنفسنا، طفولتنا... شبابنا... أصدقائنا، التي أظلّها هذا المكان في زمن منقضٍ، لكن السّمة التي تغلب على علاقتنا الراهنة بالمكان هي الشعور بالتناقض، وليس أدلّ على ذلك من سعينا المستمر إلى الحصول على بدائل مكانية أحسن وأفضل، فنرتحل من بيت إلى بيت، أو نبيع بيتًا لنشتري آخر غيره- هذا إذا افترضنا جدلاً، أننا جميعًا نملك أن نمارس مثل هذه الرفاهية- لكن واقع الحال يؤكد أن قلّة قليلة من الناس تملك الحق في ممارسة هذا الخيار الارستقراطي، وأن غالبية الناس محكوم عليهم بالعيش رغمًا عنهم في بيوت بائسة، لا تشعرهم إلاّ بالاختناق والضجر والرغبة في الرحيل. وإن كان هذا التعميم يمكن أن يصدق على الإنسان الأوروبي، فإنه مؤكد حينما يتعلق الأمر بالإنسان في العالم الثالث بوجه عام وفي الوطن العربي بوجه خاص. إن علاقة الإنسان العربي بالمكان، على أرض الواقع، وإذا نحّينا فاعلية الحنين المرضي إلى الماضي، مكانًا وزمانًا وإنسانًا، هي علاقة ضديّة، بدليل اتجاهه إلى الاعتناء بداخل بيته انطلاقًا من إحساسه بأن هذا الداخل هو قوقعته الآمنة وليس قوقعته الحالمة، وإعراضه عن الاعتناء بخارج بيته انطلاقًا من إحساسه بأن هذا الخارج ليس امتدادًا لبيته ولا يعنيه أبدًا، وهو ما يفسر انتشار القمامة والمخلّفات أمام البيوت وفي الشوارع على نحو صادم!
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 31-05-2024 09:35 مساء
الزوار: 196 التعليقات: 0