«شباك أم علي» لمحمد العامري.. الرواية بوصفها لوحة والكتابة بإيقاع القصيدة
عرار:
محمد أبو عرب
يتجاوز الفنان التشكيلي والشاعر الأردني محمد العامري، في روايته الصادرة حديثاً تحت عنوان «شباك أم علي» أشكال الرواية الراسخة، ويفتح مساراً جديداً في السرد الروائي، يعمل فيه بعين الفنان التشكيلي المشغولة بالمشهدية البصرية والتكوين الجمالي القائم على الشكل واللون والحركة، ويوظفه بالاستناد إلى الموسيقى المتفردة في لغة الشاعر. ولا يتوقف العامري في أولى أعماله الروائية التي تأتي في مئتي صفحة من القطع المتوسط عند هذا الحد في تجاوز مساحة الاشتغال الروائي المألوفة وحسب، وإنما يذهب إلى مكان مغاير وجديد يمزج فيه بين أدب المكان، والسيرة الغيرية، والشهادات الحيّة، وفلسفة الأدب، إلى جانب ذلك يستعيد المتواري والغائب من الأدب الشعبي والشفهي في الذاكرة الفلسطينية والأردنية. يضع العامري محمول روايته في إطار شباك ويترك أبطالها يتحركون من خلاله وكأنه بذلك يحوّل السرد الروائي إلى لوحدة مسندية متحركة العناصر، فمن «شباك أم علي» تبدأ حكايات أبطال الرواية، وإليها تنتهي، وتظل تدور في مربع واحد يتسع ويضيق كما يريد العامري، فمرة يأخذ القارئ إلى مشهد بانورامي لقرية «القليعات»؛ مكان أحداث الرواية، ومرة يدخل إلى أحشاء امرأة حامل ويحاور جنينها «يوسف»؛ بطل الرواية. ولا يتنازل العامري عن إطار لوحته المسندية (شباك أم علي) طول الرواية، وإنما يحوله إلى تقنية سردية تقود مسار السرد على مستوى المكان والزمان، فلا يكتفي بتصوير حكايات أبطاله وعوالمه من داخل إطار الشباب وحسب، وإنما ينتقل بهم بأزمان متعددة من داخل الإطار المربع ذاته، وكأن العمل الروائي لدى العامري قائم على أضلاع أربعة، في الزمان والمكان؛ زمن تاريخ الأبطال، وزمن سرد حكاياتهم، وزمنهم الراهن، والزمن الراهن للسارد نفسه. ويتجلى اشتغال العامري على العمل الروائي بوصفه لوحة تشكيلية تحتمل مساحات لونية، وتتخذ متانتها وقوتها البصرية في تحقيق التوازن بين الكتلة والفراغ في العمل الفني، بالعودة إلى مشاهد من الرواية ذاتها، إذ يكتب: «أمه يسرى الموشاة برسومات قديمة على وجهها، تاج أخضر مدقوق على جبهتها، وتعريقات نباتية على ذقنها مرصوفة كخيط نمل أخضر انتظم في سيره». أما على مستوى الامتزاج المشغول بدقة بين لغة السارد والشاعر، فالعامري لا يترك قارءه أمام تجربة اللحاق بالحدث وانتظار انفكاك عقدة العمل الروائي، وإنما يضعه أمام جمالية النص الشعري المحاذي للسرد، فيكتب في أحد فصول الرواية: «ذبيح في جوف الرصاص والأهازيج، أي ألم قسري هذا، لمرة واحدة في عمرك، دَرجٌ لصعودِ الحنينِ الذي يجتاحني لتلك الحقيبة المنتفخة، حنين مشوب برائحة البارود، حنين كما مطر مريض جاء في غير موعده، كل ما يمكن فعله أن تغمض عينيك قليلا كي ترى وجهك في الروائح، صرير الباب الموارب وتفاصيل الضوء النحيل الذي يخترق فتحة المفتاح، حنين يشبه رائحة التفاح المتعفن». مقابل هذا الجهد المبذول في إنتاج نص روائي متخلص من السياقات والأنساق السابقة يجد قارئ الرواية نفسه في العديد من الفصول أنه أمام مقاطع وشذرات فلسفية تذكر بخلاصات وشذرات الفيلسوف الروماني إميل سيوران، إذ لا يتردد العامري من الذهاب بحرية عميقة نحو تلك المساحة من الاشتغال الفكري الجمالي، فيكتب: «العينُ البشرية أخطر بكثير من الكاميرات المعدنية، العين تقترض منك صورتك وتطحنها في خيال العين كصور متعددة». يمكن القول إن العامري استحدث مساحة سردية مغايرة في المشهد الروائي العربي تتجاوز السائد وتتخطى الكثير من المساحات المشغولة سابقاً والمطروقة على مستوى اللغة والتقنية البنائية وحتى على مستوى المرحلة والمكان الذي تتجسد فيه ملامح روايته.