|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
التشكيل الفني في رواية فاطمة البارود والسنابل
د. مي بكليزي حكاية الجدات، وترنيمة الوطن، والجرح النازف طويلا، أنًّا له الاندمال، لكن ورغم كل الأمواج العاتية، والسيول الجارفة، تبقى فاطمة صامدة، ثابتة كشجرة الزيتون في بلادي، لا تُقتلع جذورها، ولا تميل وإن هزتها الرياح. فاطمة الرواية التي اجترحها الزيود من بيئته وتاريخه، لتوثق المرحلة وتجليها، فيشرقُ عليها جيل بأكمله، لا بل أجيال، ترصد في وعيهم تاريخا عريقا مشرفا، يليق بهم ويليقون به. هنا تكمن القيمة الحقيقية للرواية، إذ تمزج مزجا بديعا بين التاريخ والفن، الواقع والخيال، البعيد والقريب، دون ملل أو ضجر يحدثه التاريخ عادة عند قراءته. العتبة: الغلاف تطالعنا فيه هذه النظرة الثاقبة الحازمة لفاطمة وما تحمله من تحد وكبرياء وصمود، أضف إلى ذلك السمرة التي تتشح بها بملامح عربية خالصة، نرى فاطمة تنظر بثبات وثقة، مرتديةً اللباس التقليدي للمرأة الأردنية، لباسًا طابعه الحشمة والوقار، مما يوحي بأصالة الشخصية المحورية في الرواية. سيمياء العنوان: العنوان المفارق الذي اختاره الكاتب يحمل في مضمونه خطين متوازيين يسيران جنبًا إلى جنب في رحلة الوطن؛ حيث تمثل فاطمة الرديف الحقيقي له، بتجلياتها المختلفة بين السلم والحرب. استدعى الزيود اسم فاطمة من عمق التراث والتاريخ والمخزون الديني؛ فهي رمز الطهر والعفة، المترفعة عن الدنايا، المنقطعة عن الذنوب، والمتبتلة في محراب الطاعة والعبادة. تسير الرواية في مسارين متوازيين: السنابل والبارود؛ السلم والحرب، حيث نسج الزيود أحداث روايته المعتقة بدماء الشهداء، لتعيش بطلتها حياة متأرجحة بين هذين الخطين. فالسنابل رمزٌ لحياة السلم، والبارود صورةٌ للحرب. ورغم عمق المأساة التي فتحت عليها فاطمة عينيها منذ ولادتها، فإنها بقيت صامدة، واثقة، وراضية، حافظةً لمملكة بيتها الممتدة عبر محطات الفقد والخذلان. بدءًا من بيت أبيها يعقوب، مرورًا ببيت أخيها الذي غادرها إلى غير رجعة بالموت، ثم إقامتها في كنف عمها وخالتها صبحا، وانتهاءً ببيت زوجها صالح المرزوق، الذي رحل عنها هو الآخر، لتجد نفسها وحيدة في حي الغويرية، دون ولد يطفئ ظمأ أمومتها المشتعلة. المعاناة العميقة التي عاشتها فاطمة تتماهى مع حكاية الوطن الذي التحمت به، حيث خطّ الزيود مشاهد الحرب في روايته على أعتاب القدس، وتحديدًا في حي الشيخ جراح، الذي كان شاهدًا على بطولات أبناء الأردن في مواجهة المشروع الصهيوني. هناك، استُشهد علي، ابن خالها، باذلًا روحه ودمه في سبيل الله، ومن أجل القدس، إيمانًا بعقيدة من يشهد أن «لا إله إلا الله، محمدًا رسول الله». بنية السرد والتقنيات السردية: الزمن السردي: الرواية تأخذ منحى كرونولوجيًا منتظمًا، مما يسهل على القارئ تتبع تطور الأحداث، رغم أن البداية تأخذ شكل الاسترجاع (Flashback) عندما تبدأ الرواية بذكر فاطمة في الغويرية ثم تعود لتسرد حياتها منذ الطفولة. يستخدم أيضا (الفلاش باك) لإضافة خلفيات تاريخية أو شخصية، مما يُثري السرد ويُعمّق فهم القارئ للشخصيات والأحداث. يتميز البناء الزمني في الرواية بالتسلسل التاريخي للأحداث، حيث تبدأ القصة في منتصف الأربعينيات وتستمر حتى أوائل الثمانينيات. يُلاحظ أن السرد يتبع ترتيبًا زمنيًا خطيًا، مع التركيز على الأحداث المفصلية التي أثرت في المجتمع الأردني. يُدمج الكاتب بين السرد الروائي والتوثيق التاريخي، حيث يتناول بالتفصيل أحداثًا مثل نكبة 1948، ودور الجيش الأردني في حرب 1967، بالإضافة إلى التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها الأردن خلال تلك الفترة. المكان: تعدُّ رواية «فاطمة: حكاية البارود والسنابل» للكاتب محمد عبد الكريم الزيود عملاً أدبيًا يبرز فيه المكان كعنصر جوهري في بناء السرد. تدور أحداث الرواية في مدينة الزرقاء الأردنية، وتحديدًا في حي الغويرية، وتمتد لتشمل مناطق مجاورة مثل الهاشمية، العالوك، صروت، الحوايا، بيرين، أبو خشيبة، وسيل الزرقاء. الرواية ترسم صورًا بديعة للمناطق الجغرافية المختلفة، من البادية إلى القرية فالمدينة، كما تستعرض الأماكن التاريخية مثل القدس وحي الشيخ جراح، مما يضفي بعدًا بصريًا حقيقيًا على السرد. يُقدّم الكاتب وصفًا دقيقًا لهذه الأماكن، مما يضفي على الرواية بُعدًا جغرافيًا وتاريخيًا ملموسًا. يصف السارد حي الغويرية بأنه مكوّن من بيوت متلاصقة، حيث تفتح النوافذ على سطوح البيوت الأخرى، وتُزيَّن الأفنية بورد الخبيزة والياسمين والدوالي والزيتون، مع أصص الريحان والنعناع على حواف النوافذ. هذا الوصف الدقيق يُضفي حياة وحيوية على المكان، ويجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش في تلك البيئة. بالإضافة إلى ذلك، يُبرز الكاتب التنوع الاجتماعي والثقافي لسكان الحي، مشيرًا إلى أنه مجتمع فسيفسائي سكنه العسكر من بدو بني حسن، بالإضافة إلى مهاجرين من قبائل أخرى ولاجئين بعد نكبة 1948 ونازحين بعد حرب 1967. هذا التنوع يُضفي عمقًا على البنية المكانية للرواية، حيث يتداخل البعد الجغرافي مع البعد الاجتماعي والثقافي. من خلال هذه التفاصيل، يُمكن القول إن المكان في الرواية ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر فاعل يُسهم في تطوير الشخصيات والأحداث، ويعكس التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها الأردن في تلك الفترة. الراوي: الراوي مشارك (شخصية فاطمة)، مما يضفي طابعًا شخصيًا على الأحداث، ويجعل القارئ يعيش التجربة العاطفية والنفسية للشخصية الأساسية. في رواية «فاطمة: حكاية البارود والسنابل» للكاتب محمد عبد الكريم الزيود، تتجلى تقنية «الراوي المشارك» بوضوح، حيث تتولى البطلة، فاطمة، سرد أحداث حياتها وتجاربها مباشرة للقارئ. هذا الأسلوب السردي يُضفي طابعًا شخصيًا وحميميًا على الرواية، مما يسمح للقارئ بالتعمق في مشاعر وتفاصيل حياة فاطمة. من خلال هذا السرد الذاتي، يتمكن القارئ من معايشة الأحداث من منظور فاطمة، والتفاعل مع تطلعاتها وتحدياتها اليومية. هذا النهج السردي يُعزز من واقعية الرواية ويُقرب القارئ من الشخصيات والأحداث، مما يجعله يشعر وكأنه جزء من الحكاية. باستخدام «الراوي المشارك»، نجح الكاتب في تقديم تجربة سردية غنية، تجمع بين السرد الذاتي والتفاعل المباشر مع القارئ، مما يُضفي عمقًا وثراءً على الرواية. الشخصيات: فاطمة: الشخصية الرمز في هذه الرواية، من خلال المحطات الصعبة التي حطت رحالها عندها في مختلف مراحل عمرها، اليتم والفقد والعقم كل هذه الأحداث عبرت من خلالها وهي ما تزال على قيد الأمل صامدة صابرة تتماوج حياتها أحيانا بالفرح الذي زارها لكنه لم يلبث عندها طويلا. وتعكس شخصيتها صورة للمرأة الأردنية القوية التي تتحمل المسؤولية وتواجه المصاعب بثبات. صالح المرزوق: زوج فاطمة الذي يكبرها بنحو عشرين عاما، هيئته الخارجية تمثل في كثير من الأحيان هيئة الرجل الشرقي المحافظ، التقليدي، ينتمي الى البيئة الأردنية بكل مكوناتها ويتحرك ضمن الأطر الشعبية لهذا المجتمع في تلك الفترة. صبحا (عمة فاطمة): صبحا العمة الحنون، التي تكفلت فاطمة بعد يتمها وموت أخيها، تمثل الجيل الثاني في الرواية، فهي مصدر الحكمة والخبرة التي تنقلها لفاطمة، من خلال توجيه النصح لها والإرشاد فهي في مقام أمها التي فقدت. فتنقل لها القصص والحكايا الشعبية وتعلمها عادات وتقاليد مجتمعها فهي تقدم لنا دور النساء الأكبر سنا في نقل التراث والثقافة للاجيال اللاحقة. حسين (خال فاطمة): له خبرة وباع طويل في الرقية، وهذا يدلل على ثقة المجتمع به، والحظوة التي يمتلكها لقاء هذه الميزة إذ يأتيه المراجعون من كل حدب وصوب. الشخصيات الثانوية: يُقدم الكاتب صورة شاملة للمجتمع الأردني، بما في ذلك الشركس، الشيشان، الشوام، والمسيحيين، وكيفية تفاعلهم وتعايشهم مع بعضهم البعض. حيث تتضمن الرواية مجموعة من الشخصيات الثانوية التي تساهم في إثراء السرد وتعكس التنوع الاجتماعي والثقافي في الأردن، من خلال هذه الشخصيات، نجح الكاتب في تقديم لوحة متكاملة للمجتمع الأردني في تلك الفترة، مسلطًا الضوء على التحديات والتحولات التي شهدها، ومعبرًا عن القيم والتقاليد التي شكلت هويته. الحوار: يعكس طبيعة الشخصيات، فهو مزيج بين الفصحى والعامية، مما يعطيه طابعًا واقعيًا. يُعتبر الحوار في هذه الرواية أداة أساسية تُستخدم بفعالية لتعزيز السرد وتطوير الشخصيات، مما يجعل القارئ يشعر بالانغماس في عالم الرواية وتفاصيلها. فلا شك أن الحوار هو السبيل الأمثل لكشف خفايا الشخوص داخل العمل الروائي ومن خلاله يعبر عن الجوانب الاجتماعية والسياسية والاجتماعية التي أنبنت عليها الرواية، من خلال الحوارات، يتمكن القارئ من التعرف على العلاقات بين الشخصيات وفهم دوافعها ومشاعرها. على سبيل المثال، تعكس الحوارات بين فاطمة وأفراد عائلتها عمق الروابط الأسرية والتحديات التي يواجهونها في حياتهم اليومية. البعد التاريخي والسياسي: الرواية توثق مراحل هامة من تاريخ الأردن وفلسطين، بدءًا من الأربعينيات حتى الثمانينيات: اغتيال الملك عبد الله الأول. حرب 1967 وهزيمة الجيوش العربية. معارك اللطرون والشيخ جراح، وتضحيات الجنود الأردنيين دفاعًا عن القدس. الهجرة من الريف إلى المدينة، مما يعكس تغير البنية الاجتماعية والاقتصادية في الأردن. هذه التوثيقات تعطي الرواية بعدًا توثيقيًا يمزج بين السرد الإبداعي والتاريخي. البعد الاجتماعي والتطور الحضاري: الانتقال من حياة البداوة إلى حياة القرية ثم المدينة يعكس التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الأردني. وصف التفاصيل اليومية، مثل بناء المنازل، ظهور صنابير المياه، تطور المهن، وعادات الزواج، يعكس تحول المجتمع من النمط التقليدي إلى النمط الحديث. الحفاظ على العادات والتقاليد، مثل دور المرأة في الأسرة، الحشمة، التمسك بالعادات الدينية والاجتماعية، ما يبرز التناقض بين الحداثة والتقاليد. الدين والتقاليد: يظهر في مشاهد مثل رفض الرجال إظهار مشاعرهم، والاعتماد على الرقية والتقاليد في العلاج. التقييم العام: رواية فاطمة: السنابل والبارود عمل أدبي متقن يوثق مرحلة تاريخية مهمة في الأردن وفلسطين، ممتدة من منتصف الأربعينيات وحتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. بأسلوب أدبي رصين وحبكة متماسكة، نجح الكاتب في بناء شخصياته، وجعل من بطلتها، فاطمة، رمزًا للوطن، حيث تتماهى شخصيتها معه، فتصبح فاطمة هي الوطن، والوطن هو فاطمة. يمزج السرد بين الواقعية والتسجيلية، مقدّمًا وصفًا دقيقًا للحياة اليومية في القرى الأردنية، مع التركيز على العادات والتقاليد والقيم والطقوس الدينية. قدّم الزيود تجربة سردية غنية تمزج بسلاسة بين التاريخ والجغرافيا والسياسة والمجتمع. والتأمل العاطفي، مما يجعلها عملًا أدبيًا غنيًا بالمشاعر والتفاصيل، ويمنحها مكانة متميزة في الأدب الذي يوثق التاريخ عنصر التشويق حاضر، مما يجعلها ممتعة رغم طابعها الجاد. لكن ربما كان يمكن إعطاء بعض الشخصيات الجانبية بعدًا أعمق، مثل صالح المرزوق، لجعله أكثر تأثيرًا. تحمل هذه الرواية بعدًا أدبيًا وفكريًا عميقًا، إذ تتناول موضوعات متعددة تجمع بين الهوية الوطنية، والنضال، ودور المرأة في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية. ومن أبرز القيم التي تطرحها الرواية بشكل عام، تقدم الرواية تأملات عميقة في الصراع بين الأمل واليأس، وبين التشبث بالجذور والسعي نحو التغيير. بهذا، تُسهم الرواية في إثراء الأدب الأردني من خلال تقديم سرد يجمع بين الجوانب الفنية والتاريخية، مما يُعزز فهم القارئ للواقع الاجتماعي والثقافي والتاريخي للأردن مما يجعلها عملًا أدبيًا قيمًا يستحق القراءة والاهتمام. جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: السبت 22-02-2025 09:34 مساء الزوار: 69
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
تفكيك البناء السردي في رواية «العبور على ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 07-03-2025 |
قراءة في رواية «لعنة الصفر» لحنين نصار | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 06-02-2025 |
دلالات العنوان في رواية فاطمة: البارود ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-12-2024 |
قراءة في رواية «النبطي المنشود» لصفاء ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 04-10-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-09-2024 |
قراءة في بعض رموز رواية «الطنطورية» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 09-06-2024 |
التشكيل اللوني والبوح الذاتي في قصص «قد ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 03-05-2024 |
«النبطي المنشود» لصفاء الحطاب رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 30-03-2024 |
إطلالة على رواية «العبور على طائرة من ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 22-02-2024 |
قراءة في رواية صفاء أبو خضرة «اليركون» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 14-02-2024 |
«العبور على طائرة من ورق»... رواية ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 19-01-2024 |
رائدة الطويل في رواية «عابرو حريق»... ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 17-12-2023 |
نظرات في روايتي «خلق إنسانا» و«أنا مريم» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 15-08-2023 |
«77 خريفا» للروائية فاطمة هلالات | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 28-07-2023 |
قراءة في رواية( عشرُ صلواتٍ للجسد) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 24-07-2023 |