موسى إبراهيم أبو رياش

تضمنت مجموعة «قد يكون وهما» لحنان باشا، عشرين قصة قصيرة، وإهداء، وعددًا من الاقتباسات الجميلة، وسيرة ذاتية مختصرة عن الكاتبة، وجاءت في 164 صفحة، وصدرت عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2023. وهي المجموعة الثالثة للكاتبة بعد «أوجاع البنفسج»، 2012، و«للرحيل طقوس أخرى»، 2015. ودارت قصص المجموعة حول معاناة المرأة ومشكلاتها وظروفها، في مجتمع يميل إلى هضم حقوقها والاستقواء عليها. وتتناول هذه المقالة بعض معالم هذه المجموعة.
التشكيل اللوني:
برزت الألوان بشكل واضح في قصص المجموعة، ويكاد لا تخلو قصة من ذكر لون أو ألوان عديدة. وكانت البداية من لوحة الغلاف التي جاءت زاهية الألوان، حيوية ومريحة. وتعددت الألوان كثيرًا في قصة «قد يكون وهمًا»؛ فذكر فيها: «الفوشي، الوردي، الأحمر، الأسود، الخمري، فيروزي، لازوردي، العلبة الفضية، ثوب أبيض ناصع، الشيب الأبيض، سيارة حمراء، السيارة السوداء، البنفسجي، خط غامق»، مما جعل من القصة لوحة تشكيلية راقصة تضج بالألوان.
دلالات الألوان ورمزيتها بحاجة إلى قراءة متخصصة لا قدرة لي عليها، ولكن، يمكن القول إن شيوع الألوان في النص الإبداعي يمنحه بعدًا بصريًا جماليًا وقيمة مضافة، مما يتيح مجالًا لرؤية وتأويل النص بشكل أفضل. كما إن الألوان في النص تعطي رسائل ودلالات وإيحاءات، فيتفاعل معها القارئ ويراها حسب تجربته وخبرته وشخصيته ومشاعره. وبالنسبة للكاتبة، وتدفق الألوان في نصوصها، فهذا يعني أو ربما يشير إلى مرونتها في التعاطي مع الحياة والناس، وأنها لا تحتكم إلى لون محدد تضعه إطارًا للنظر والمواقف والأحكام.
اللغة الشعرية:
تميزت قصص المجموعة بلغة شعرية؛ جاءت عفوية دون تكلف أو تفذلك، فانسابت ندية جميلة. ومن أمثلة ذلك: «النصوص عائمة مثل قارب تائه على السطور». «لكن الألم تقافز بين آه وآه، ومع كل شهيق وزفير، كان يشرئب مثل حصاد عنيد يتوق للمنجل». «شجر الزيتون طال حديد النافذة، وحمل ما حمل من أقراط خضراء، تتراقص بفعل الهواء». «وحذائه الممطوط كمن أخرج لسانه للطريق».
إن اللغة الشعرية من ضرورات القصة القصيرة الناجحة، فبالإضافة إلى ميزتها التكثيفية العالية، وبثها الصور الجميلة، ودلالاتها العميقة، وتقبلها لتعدد التأويل، فإنها تريح النفس، وتفتن القارئ، وتثري لغته، وتدعوه للتأمل في النص وما وراء النص. والموازنة الدقيقة بين النص ولغته والمعنى المراد مهارة إبداعية، تتطلب دربة وخبرة، وأزعم أن هذه المجموعة نجحت في ذلك.
المرأة الضحية:
اقتصرت قصص المجموعة على المرأة وقضاياها ومشكلاتها ومعاناتها، وجاءت المرأة ضحية، مظلومة، تعيسة، مقهورة، محرومة ....، وهي بطلة القصة، وإيجابية في الغالب. وفي المقابل، جاء الرجل ظالمًا، متنمرًا، قاتلًا، سلبيًا، في معظم القصص، بل إن قصة «ثمة صوت يلاحقني»، سردت معاناة مجموعة من النسوة اجتمعن في مقهى؛ يفضفضن ويتبادلن همومهن بسبب أزواجهن وظروفهن؛ فهاله تتحسر على زوج مات ولم يمنحها طفلًا يؤنس وحدتها بعده. ورجاء تتذكر زوجها السكير السجين، الذي طالما ضربها وكسر ضلوعها وأدمى وجهها، ولكنه كان طيب القلب. وسراب تعتبر يوم طلاقها أجمل يوم في حياتها. وماريا العانس تشتهي رجلًا يمنحها طفلًا كي لا تعيش وحدها بين الجدران، ومع زوجات الإخوة. وسماح تشكو حماتها «الحيزبون»، وعجزها عن إخبار زوجها بأنها تنغص حياتها وتقلق راحتها. وكذلك معاناة سحر وعبير وروان ومنار.
إن تسليط ضوء امرأة مبدعة على معاناة ومشكلات المرأة لا غبار عليه، بل قد يكون من واجبها أن تفعل ذلك، ولا يضيرها انحيازها، فالمجتمع مترع بقصص الظلم والمعاناة والقهر والألم والكبت والمرض والحرمان، ولكن، ليس للمرأة وحدها، بل وللرجل وللأطفال أيضًا، فالجميع ضحايا ظروف أكبر منهم، ومشكلات معقدة تتناسل بشكل مرعب، ومستقبل ضبابي ننساق إليه بقلق وتوتر ممزوج بالخوف والهلع.
البوح الذاتي:
تميزت معظم قصص المجموعة بالبوح، وحديث النفس، والمونولوج، في تأكيد لتعاظم غربة الفرد في مجتمعه وداخل أسرته، وأنه يجابه ظروفه وتحديات حياته وحيدًا، وهذا يزيد من ثقل العبء وقسوة الظروف وصعوبتها. ومع إن قصص المجموعة اقتصرت على النساء، إلا أن المغزى واضح؛ بأن المعاناة مشتركة، وأن الإنسان في هذا العصر، أسير وحدته وغربته وربما أنانيته أحيانًا، فالعصر الإلكتروني المتوحش، فرض شروطه على الجميع، وجعل من الناس جزرًا معزولة، لا تشعر ببعضها، ولا تسمع عن غيرها، ولا تتفاعل إلا بقدر محدود أقرب إلى البرود.
ويلاحظ في قصص المجموعة، أن حديث النفس، وشعورها بالغربة والوحدة، لم يقتصر على البيت، وبين جدران أربعة، بل انسحب أيضًا بين الناس، وحتى في أثناء الأحداث، دلالة على تعمق هذه الحالة، وتجذرها في النفس، مع ما يعنيه ذلك من سلوكيات وانعكاسات ومآلات.
في قصة «منتصف أشياء كثيرة»، تقول: «مثل مسمار عتيق منسي على الحائط، أحاول الاستيقاظ كالبقية، لأعلن انتصاري على هزائم الليل، وألحق بالجري الصباحي؛ علّ النسيم يعيد لي بعض ذاكرتي». تصور معاناة امرأة وحيدة تعيش بمفردها، وكيف تقضي أيامها المرة دون رفيق أو أنيس، تعانق وسادتها.
تتردد في توقيع أوراق الطلاق، في قصة «مثل كحل عينيها»، تستعيد محطات جميلة في حياتها مع أطفالها، ومن ذلك: «هز ذاكرتها المزدحمة بصورهم وهم يتراقصون حولها فتلتفت هنا وهناك، تمدُّ يدها لإعادتهم إلى مقاعدهم. تبتسم بشغف لصباحاتهم الشهية، لحقائبهم وهم يتدافعون عند الباب، شجارهم الزائف في السيارة وعلى النوافذ، الأصوات النشاز التي يطلقونها، رفضهم النوم مبكرًا، والعيون الناعسة وهي ترجو المزيد من دفء الفراش». هذه الصور، وتدفق المشاعر، جعلها تتصور حياة قاحلة دون أطفالها، وعجوزًا وحيدة تنتظر أحفادها، مما دفعها للتراجع عن الطلاق، وتغادر قاعة المحكمة، وهي تشهق «لا أطيق... لا حياة لي بدونهم». وهذه القصة تصور تضحية امرأة من أجل أطفالها؛ فوجدهم حولها نسمة فرح، وبهجة عيد، تهون عليها منغصات الزوج وظلمه ومعاناتها معه أيًا كانت، وأن الخلاص الذي كانت ترتجيه ليس خلاصًا، بل سجنًا، وأن السجن الذي تظنه، فيه طاقات نور، وأسراب من يمام.
وبعد... فإن «قد يكون وهمًا» لحنان باشا، مجموعة قصصية مشغولة بإبداع وتأن وعمق، ولغة جميلة موحية، تلتقط مشاهد حياتية ببراعة، وتجسدها نصًا مستويًا على سوقه، وبقدر ما تثير الأسى والغضب والألم، فإنها تدعو للتفاؤل هنا وهناك، ولا أدل من الألوان؛ فحيثما يكن اللون، يكن المختلف المنتظر، والأمل المرجو.