هاني علي الهندي
«الطنطورية» رواية للأديبة المصرية رضوى عاشور، سلطت فيها الضوء على سيرة أسرة متخيلة لعائلة فلسطينية في قرية الطنطورة التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تنعم بالبساطة والهدوء، تم اقتلاعها عام 1947 على أيدي العصابات الصهيونية لتبدأ رحلة اللجوء والعذاب في لبنان والإمارات ومصر.
جاءت بلغة بسطة تمتاز بالسهل الممتنع، غنية بالأحداث التاريخية التوثيقية لمعظم تاريخ القضية الفلسطينية بالأحداث الحقيقية المسجلة بطرية فنية؛ كالمجازر ومنها مجزرة الطنطورة وغيرها، والاغتيالات والحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان، كما وثقت معاناة الشعب الفلسطيني داخل المخيمات في بلدان اللجوء، «كان الانتقال من مخيم إلى مخيم، أو استقبال زائر من خارج المخيم يحتاج تأشيرات وسين وجيم. دق مسمار. بناء سقف. إضافة حجرة. كلها محرمات» ص239.
اشتغلت رضوى عاشور على روايتها، فدرست التاريخ والجغرافية للمكان والزمان الذي جرت فيه أحداث الرواية، جمعت المعلومات الكاملة عن أحداث الرواية ودرستها بعناية، فألمَّت بالقرى الفلسطينية والمسافات بينها: صفورية وفريديس وقيسارية والمنصورة، ابل قمح، المطلة والذوق الفوقا والتحتا، العباسية والناعمة والصالحية والزاوية... وغيرها، كما حددت مواقع المؤسسات والشوارع في بيروت بدقة، وذكرت بعض الشهادات الموثقة بعض الأسماء الحقيقة، ضمن متنها السردي؛ فذكرت عبد الله التل ومعروف سعد السياسي الذي «نظم هجومات مسلحة على قوافل التموين المتوجهة إلى قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية في فلسطين». ص168، كما ذكرت أنيس الصايغ وغسان كنفاني وناجي العلي وزاهي البستاني وغيرهم ما أعطى الرواية واقعيتها وصدقها، جمعتها بأسلوب سردي جميل، ما يجعلك تلهث خلف صفحاتها حتى نهاية الرواية.
سقت هذه المقدمة للوقوف على لغة الرواية واستخدام الرمز فيها.
غالبا ما يلجأ الأدباء إلى الرمز في إبداعاتهم بهدف إكساب العمل الأدبي بعدا فنيا وجماليا بأسلوب خاص لاستحالة إيصالها بأسلوب مباشر، وقد يكون الرمز كلمةً أو عبارةً أو شخصيةً، أو اسم مكان، وهكذا نجد رضوى عاشور قد عالجت في روايتها الطنطورية مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية مشحونة بعدة رموز فنية مشحونة بالإيحاءات والإيماءات التي تضع المتلقي أمام تأويلاته حسب ثقافته ورؤيته.
رمزية صورة الغلاف:
تشكل صورة الغلاف العتبة الأولى لأي عمل أدبي، تكشف عن مضمونها، ولذلك اهتمت رضوى عاشور بغلاف روايتها الذي جاء متناغما مع المضمون، فقد جاءت صورة الغلاف الأول بدرجات اللون الأزرق تحمل رموزا ودلالات إيحائية منها؛ صور بحر الطنطورة وموجه المرتفع الذي يرمز إلى التمرد على الواقع الجديد بعد احتلال الطنطورة، يعلوه اللون الأزرق الغامق الذي يميل إلى اللون الكحلي الذي يحمل دلالة الحزن جاء عليه اسم الروائية رضوى عاشور باللون الفيروزي لكسر هذا الحزن ليكون عنوان الرواية بالبنط العريض وباللون الأبيض رمزا بالتفاؤل
رمزية العنوان:
إن العنوان لأي عمل إبداعي يسوق بالضرورة إلى فهم المضمون، فعندما اختارت الروائية اسم الطنطورية ـ نسبة إلى قرية الطنطورة ـ لروايتها فإنها ترمز إلى كل القرى الفلسطينية التي ذاقت الويلات على أيدي العصابات الصهيونية.
رمزية الإهداء:
يعتبر الإهداء من العتبات نصية المهمة والمؤثرة، ولا ينفصل عن المضمون، ويحمل من الدلالات والإيحاءات ما يحمل، وعندما جاء الإهداء خاصا للشاعر مريد البرغوثي زوج الروائية رضوى عاشور، إلا إنه يحمل دلالات وأبعاد إيحائية، فهو الذي خرج من قريته دير غسانة عام 1963 حيث التحق بجامعة القاهرة وتخرج عام 1967 وهو العام الذي احتلت فيه إسرائيل الضفة الغربية ومنعت الفلسطينيين المتواجدين خارج البلاد من العودة إلى بلادهم وقراهم مثل مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة وغيرهم، فهو رمز للعديد من الشباب الذين كانوا خارج فلسطين وقت احتلالها.
رمزية الشخصيات:
تلعب الشخصيات دورا مهما في العمل الروائي رغم اختلاف النقاد في أهميتها، فهي التي تقوم بالأحداث ومعها تكون الحوارات، وهي التي تعكس الواقع المعاش، فقد جسدت شخصيات رواية الطنطورية أحداثا واقعية في فترة زمنية معينة، فكانت أقرب منها إلى الواقع. وجاءت شخصياتها محملة بالرمزية:
رقية:
جاء ت شخصيتها ترمز إلى المرأة الفلسطينية، فهي امرأة بسيطة اجتماعية محبوبة من الجميع، تروي سيرتها الذاتية لتكون سيرة المرأة الفلسطينية المناضلة والمدافعة عن حقوقها في بلاد الشتات من خلال عملها وتواصلها ونشاطها في الأعمال الخيرية والتطوعية،
أبو الأمين:
حملت شخصية (أبو الأمين) أكثر من دلالة فقد أشارت الرواية إلى أول خلاف عائلي بين (أبو الأمين) و(أبو الصادق) عندما قرر أبو الأمين الرحيل إلى صيدا لإنقاذ الأطفال الصغار والنساء على الأقل، حمل هذا الخلاف صورة رمزية لخلافات القيادات وصراعهم في تلك الفترة. ص45 فقد بدأت المنافسة بين آل الحسيني وآل الخالدي في القرن التاسع عشر، ثم تحولت لاحقاً إلى صراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبي.
وفي صيدا جاءت شخصية أبي الأمين رمزا لاستمرارية النضال رغم محاولات عز ثني والده عن المشاركة في المظاهرات، إلا أن أبا الأمين أصر على مواصلة النضال، ولم يكتف بالمشاركة في المظاهرات التي تنطلق من ساحة باب السراي في صيدا القديمة أو من عين الحلوة بل يسافر من بلد إلى بلد لأنه واجب» ص159 هذه المظاهرات التي كانت تنطلق دعما للمقاومة، وتسليح أهل القرى الحدودية.
المفتاح:
يُمثل مفتاح الدار رمز الأمل والمستقبل وهو ينتقل من رقبة إلى رقبة، توارثته الأجيال، فحين توفّيت زينب سلّمت حليمة المفتاح لكنّتها رقيّة قائلة: «مفتاح داركم يا رقيّة»، وفعلًا «أمسكت بالحبل الدقيق بكلتا يديّ ورفعته ثم أدخلت رأسي فيه. صار المفتاح معلّقًا في رقبتي... مثل أمي سيبقى المفتاح معلّقًا في عنقي. في الصحو والمنام».(ص 92) وهكذا قدمت رقية الجدة المفتاح لرقية الحفيدة عندما فقامت بنزع المفتاح من عنقها، مفتاح دارهم في الطّنطورة الذي ورثته عن أمّها لتعليقه بدورها على رقبة الطفلة، وهي تصرخ بصوت عال: «مفتاح دارنا يا حسن. هديّتي إلى رقيّة الصغيرة». ص453. ليظل المفتاح رمزا لأملها في رجوعهم إلى بيتهم يومًا ما.
رمزية المكان:
يمثل المكان الركن الأساسي في بناء النص فهو المساحة التي تدور عليها الأحداث وتتحرك الشخصيات، ولذلك حظي باهتمام كبير في النقد المعاصر، فقد وظفت الروائية المكان بهدف الإحالة إلى أماكن أخري تحمل العديد من الإيحاءات والرموز، فقد تنوعت الأمكنة في الرواية وتعددت، حيث بدأت رحلة التهجير من قرية الطنطورة إلى قرية الفريديس القريبة، ثمّ إلى الخليل، ثمّ إلى صيدا، ثم الانتقال إلى لبنان والإقامة في صيدا ثم في بيروت القاهرة أبو ظبي ثم في مدن عربية أخرى، فتعدد الأمكنة ما هو إلا رمزا لحجم الشتات الذي يعانيه الشعب الفلسطيني.
لم تستخدم الكاتبة الرمزيّة بالكلمات والأسماء فقط وإنما بعبارات وجمل نستنتج ما وراءها من أمور كامنة.
الرقم سبعة:
الرقم 7 هو رقم الرّوح، فأي شخص يتأثر بطاقة الرقم 7 أو يعتبره رقمه المفضّل سيكون قادرًا على الوصول إلى الحكمة الداخليّة، وهو شخص يركز على الأمور المعنويّة أو الروحيّة وليست المادية. فقد تكرر الرقم سبعة فقالت «كان حديديا كبيرا أدارته أمي في القفل سبع مرات ووضعته في صدرها» ص59. كما قامت رقية بعد البيوت التي سكنتها على أصابعها فتعلن أنها تحب الرقم 7 «لعله خير» ص427، هذا التكرار يوحي بالأمل وحلم العودة الأكيدة إلى الطنطورة.
سرقة التراث:
كما عبّرت عن محاولات الصهيونية بسرقة التراث الفلسطيني عندما أمسكت وصال بقبة ثوبها وهي تقول للأجنبي: هذا (نو ازرائيل) هذا ثوب فلسطيني طرَّزته بيدي. ترجمي يا مريم ص322. ترمز بهذه الجمل إلى سرقة الإسرائيليين إلى التراث الفلسطيني.
وعندما وقفت عاجزة أمام بشاعة مجزرة صبرا وشاتيلا اكتفت برمز الذباب الذي انتشر فوق الجثث في المخيمين الذي يحمل دلالة الموت.
وهناك العديد من الرموز في الرواية لا يتسع ذكرها في هذه العجالة.
وفي الختام أقول إن الرواية كُتبت بأحاسيس مرهفة توجع القلب، أبطالها من لحم ودم، يتحركون أمام المتلقي، يتألم، يبكي لأجلهم.

جريدة الدستور الاردنية