|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
امرأة رأسها مخزن من الأفكار
عبد الغني صدوق/ كاتب جزائري لقد بات جليًّا أنّ السردية المعاصرة أصبحت مصابة بحُمى الطوفان، طبيعي جدًا أنّ المسودات المهيأة في الذاكرة قبله استنفرت معه فور بروزه لتقول كلمتها بلسانه، كأن الطوفان ألزم السردية مرافقته كيفما شاء إذا أرادت النجاح، لقد أودع ذلك السابع من أكتوبر المشهود قوّة في النّصوص المسايرة له وإن صنّفناها في خانة الأدب الاستعجالي؛ وهو ظاهرة سابقة في المنجزات الروائية مقتولة نقدًا، فإذا كان النص كائنًا حيًا ووهِبتْ له الأنوار قبل أوانه، مثله مثل الوليد الموضوع في الحاضنة، فإنّ هناك دومًا في الأفق ترقبًا منتظَرًا، إنّ المتلقين لأدب زينب السعود، يلمسون أنّ ثمة مشروعًا لا يعدو أنْ يخرج عن نطاق المقاومة، مقاومة الذات البشرية لنفسها بُغية التمتّع بالفطرة الإنسانية في يحموم الوجود، بعد ذاك تلين مقاومة الاحتلال، لذا نسمع نبرة الأسى مع مطلع الرواية. (إذا كان لا بدّ من إهداء فليكن لنا نحن الأموات أمّا هم ... فإنّهم يبنون في الجنّة غزّة أخرى بلا حصار أو زنانة). نطفة في قلب غسان كنفاني، عنوان مستفز، مركّب أيضًا، يأخذنا إلى متاهات يصعب تكهن ما وراءها، برغم بساطة الألفاظ، برغم الترجمة السريعة لمعانيها في معجم الذاكرة، النطفة، ماء مهين، ثم في؛ حرف الجر الذي أدّى دورين أوضحهما جرّ القلب أو كسره أو قُل حياته، أغمضهما الغوص في مضغة مغلّفة وراء قفص صدري لكاتب مناضل يعرفه جلّ القراء والأدباء، هذا الذي سندركه للوهلة الأولى، ثمّ يتأهب السؤال التالي: ما علاقة النطفة بقلب غسان كنفاني؟ تُعَدُّ تقنية الاستباق والاسترجاع تقنيتان رائعتان للذين يعرفون كيف يستعملون أدواتهم السردية لتطويع حقائق التراث والتاريخ، ثمّ أنّ الأحداث تستلزم عقلًا يديرها مستحضرًا أسبابها المهمَلة التي غابت عن مختلف الرواة، كأنّ لحظات الحكي الآنية مدعاة للحظات ميلاد الحدث، حالة انشطار الوجدان إلى قسمين؛ قسم مع الحدث وآخر مبعثر مع معمار النّص، ترقبٌ يعترينا مَن يتكلم؟ كأننا منصتون إلى راوٍ نستعذب قوله، نجهل هويّته، لقد تعمّدت المبدعة حجب الشخوص إلى حين، ريثما تدرك أنّ النافذة الكبرى موصدة بسبب القفز الذي مارسناه بسرعة، حينئذ تبهجنا بفتح إحدى دفّتيها، تبعثُ ندى في فضاء مغلق، مستشفى الشفاء، الجرحى، أثار الدماء على الأسِرّة، غزّة الحبيبة ثكلى بالزمن من عهد النكبة إلى مستقبل الأجيال، إننا نُقابل مشهدًا يُهيئ القلب لاستقبال باقي الآلام، وكأن الجسم المخدّر هو جسم كلّ متلقٍ للنص لا جسم ندى، ثم في هنيهة تطل بطلة يستقيم بحضورها المبني بأناة، اسمها سارة، تركّبت الصورة كما نرى. )ما إن سمعتُ صوت الممرضة يناديني ندى ندى صحصحي...( قليل من السرد في سبيل توضيح الحدث، ثمّ يلي. )ضربتْ سارة على وجهي بخفة...) التقينا بشخصيتين تحت سقف واحد، أصبحنا في علاقة جيدة معهما، ولكن النطفة في قلب شخصية شبه مغيّبة لا تزال قائمة وغير مفهومة! يستمر التيه مع زيادة التركيز على كلّ كلمة تقال، لأنّ المعنى لم يتحقق برغم كثافة الآلام، يعلم السارد ذلك فيضغط قليلا على مخيّلة المتلقي لكيلا ينفصل عن النّص، يراوغه باستحداث صوت جديد يظهر كالنشاز، ثم يقحم جريحة جديدة ذات ساق مهددة بالبتر، فقدتْ عائلتها في قصف جبان، وكأن التقديم هنا جاء صدمة حتمية لا مجال لإبقاء بطل يخدم المشهد وراء الستار، فأنت عندما يصلك خبر حادث مرور – مثلًا – لعائلة تعرفها، لا يسعك انتظارًا إلّا الدراية بمن مات ومن عاش، بل أنك في لهفة لجمع كلّ التفاصيل ولو من مصدر آخر، لذا ما فتئ السارد أن يبرز لنا روح الائتلاف والتلاحم عندما يكون الهمُّ مشتركًا. )جارتي في البناية المجاورة، خديجة وزوجها عاصم وولداهما، بقيَتْ طفلتهما نور، التي كانت تكبر هاشمًا بعام، شاهدة على أنهم كانوا أحياء ذات يوم(. إنّ اشتغال الذاكرة في الحكي الروائي عملية مرهقة، لأنها رافدة لتراكمات وقائع أصبحت مُعدَمة، لكن المخيّلة تتحرك مجتهدة في استرجاعها وبعثها متحايلة عن أي لوثة ترهّلُ الرواية، تتحرى صدق الأقوال بأشكال لا يشوبها ريب، مخبرة حينًا بومضات من الوقائع تعجز اللغة عن حملها وطارحة حينًا لأسئلة لم تجد الصياغة المناسبة في غير أرواح المبدعين. في النّص إذًا تتزاوج الأفكار لتلد أفكارًا بعد حين لا أحد يعلم متى؟ لعلّ مهمة الكاتب تنبري في اكتفائه بتقاعد متجدد من كل نصّ أنتجه، لأنه ترك نشاطًا فكريًا في صفحات الكتاب والزمن. قُدّم غسان الحاضر المتلبس لجبّة غسان الغائب في بلاغة موزّعة بين طيات السرد، رُعيَت أذهان التلقي، ورُهن على أثقلها قراءة، أُثيرت عواطف اعتراها التحسر، لكن الذاكرة البطلة لم تتلاش خلال العرض. (يرقص قلبي منتشيًا عندما يحكم غسان قبضته(...)قلبي الآن يبحث عن كتف غسان ولا يجده). والحق أنّ الكتابة الإبداعية تغزوها ظاهرة جديدة، جلبها العصر، بل جلبها الابتكار الذي يبحث عن روايات يتزوجها بعدما طلّق روايات نفدت خصوبتها، ألسنا نرى كيف انتصبت الأقلام الشريفة لتحاكي كلّ ما وقع وسيقع بعد الطوفان؟ الكتابة داخل الكتابة قد تعيد للنقد توهجه، قد تجيب عن أسئلة كثيرة ظلّت حبيسة في العقل الناقد ربما لعدم الجرأة على طرحها أو خوفًا من الرّد اللاذع، قد تبيد المتطفلين عليها، إبادة الطوفان لفكرة إسرائيل. إنّ غياب ذكر مصطلح الطوفان عن نص السعود يشبه إلى حد ما غياب غسان الأديب عن دنيانا كجسم وحضوره زوجًا تارة وفكرًا تارة، إنّها دعوة لافتعال القراءة وجعل التفكير فريضة إسلامية على قول العقّاد، تقول ندى عن غسان في مثل هذا الصدد: (كلما رآني شاردة الذهن افتعل عبارة تضحكني، أو أخرى تبكيني حسب مزاجه ونفسيتي). لم أكن يومًا شارحًا لرواية أو متعصبًا لمعنى واحد داخل الرواية، ولكنّي أحاول أن أقتنص من النصوص ما تستسيغه الأذواق السليمة، ولستُ أرى في هذا مشكلة مثلما سنرى أنه ليس في الابتكار مشكلة، ولكن مشاكل خانقة في النّص تقوده للفرقعة قيادة. (مشكلتي أنني تزوجت امرأة رأسها مخزن من الأفكار والشعارات والهتافات..) (ومشكلتي أني تزوجت غسان كنفاني، ولكنني أسمع دائمًا صوت غسان، ولا أسمع صوت كنفاني أبدًا). لقد انجلى أنّ هذه الرواية سايرت زمانها، استنطقت الهوية في بعض مفاهيمها الممددة، حلحلت القضية بتكرار النوتة التي يقدسها الصهاينة، العرق الأنقى أو شعب الله المختار، الذين يحق لهم العيش فوق الأرض المقدسة بأكذوبة السلام. حيث يظهر في نقطة تفتيش عسكرية اضطراب الجندي الإسرائيلي المقهور نفسيًا في حوار عفوي أجراه مع زميله بشأن غسان الفلسطيني الأصل، الذي يحمل جنسية كندية. (لماذا لا يذهبون إلى كندا بدلًا من البقاء في مكان لم يعد لهم)؟ ثمّ يأتي تفكيك السؤال المطروح في العنوان في وسط المتن، تخفيفًا من عناء التلقي وكأن ميثاقًا أبرم حينئذ مفاده أنّ ما بقي من الرواية أسهل استيعابًا مما فات، يتجلى الوضوح على لسان ندى كما يلي: (جئت إلى هذه الحياة من نطفة مهربة؛ فوالدي سجين إداري). خاضت ندى المتحدية لجبروت المحتل، معركة مع المحتل من جهة انتصرت فيها باستمرار العرق الفلسطيني، الذي يأبى الانقراض مهما مارست آلة الإبادة من وحشية، ومن جهة أخرى تماهت مع لعبة سرد جعلتنا يقظين كل الوقت تحت سقف معمار هوى علينا فجأة فقرّرنا البقاء حتى النفس الأخير، كما قرّر أهل غزة وصالها. قبل الدخول إلى الفصل الثاني تمت القطيعة، غسان الكتف، غسان السند لندى؛ يخرج وحده من غزة باحثًا عن الأمان. لعلني إذا استرسلتُ في بعث باقي الشخوص الذين هم ملح الرواية -في الأصل- سأكون مثبطًا للأحبّة عن قراءتها، برغم الآلام المبثوثة في كلّ فكرة مسرودة، ولكنّي أضم صوتي إلى الصوت الأول الذي ما لك منه من دافع؛ لأنه يدعوك لمشاهدة الوجود بنعمة الخيال. في هذه الحكاية لا تحاول أن تبحث عن شيء منطقي، لا تحاول أن تكتشف الحلقات المفرغة، هذه ليست كل القصة... هناك جزء مفقود من القلب عالق في حاجز طيار. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 28-02-2025 10:00 مساء الزوار: 61
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
مدونات امرأة عايفة حالها للأديبة سلّامة ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 16-09-2024 |
«امرأةُ الوقتِ» لمها العتوم جدل الشِّعر ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 02-08-2024 |
«زهوة تلتقي طيفا» للكاتبة ميسون عوني | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 09-03-2024 |
قراءة في كتاب «حكايات شعبية من الرمثا» ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 25-03-2022 |
ميسون الدبوبي: لم تخْلُ حقبة في تاريخنا ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 16-10-2020 |
“بماذا يفكر العالم”.. تقبّل الأفكار ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 02-10-2020 |
قراءة في قصيدة ياامرأة ساحرة للشاعر موسى ... | النقد والتحليل الادبي | إدارة النشر والتحرير | 0 | السبت 31-08-2019 |
مروة عبدالمحسن تقدم قراءة ثقافية للحِجاج ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 24-05-2019 |
( المد والجزر في مقامات الإحتراق ) ... | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 29-03-2019 |
ظاهرة الحزن في ديوان «مغناة الليلك» | النقد والتحليل الادبي | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 23-11-2018 |
حروف الشاعرة الموريتانية..ضمير مستتر ... | النقد والتحليل الادبي | اسرة التحرير | 0 | الأربعاء 09-05-2018 |