أحمد الغماز
دائما ما كان هدف الرواية التقليدية، هو إشغال ذهن القارئ لفترة طويلة بالحدث وواقعيته وشخصياته وزمانه ومكانه، وتحديدا حكاية البطل أو الشخصية المركزية لمعرفة مصيرها ومدى تأثيرها على الشخصيات الثانوية وعلى الأحداث بشكل عام.
لكن الرواية الجديدة وهي أسلوب اتخذه بعض الروائيين، انقلبت على ذلك كله، فلم يعد هناك بطل تتحدث عنه وتعتبره السمة العليا في الرواية، ولا حدث يمر بمراحله الكلاسيكية من نقطة الصفر إلى الذروة ثم الانحدار نحو النهاية أو الحل، بل عمدت على تجاوز كل ذلك واتخاذ الشكل الحداثي لتقديمه للقارئ، على أمل أن يعكس القارئ مفهومه ويثير حفيظته لتجاوز العادي واليومي والمألوف، وكما قالت ناتالي ساروت: الواقع لم يعد هو الواقع.
وكما ذهب فرانز كافكا إلى أبعد من ذلك حين حرم شخصياته من الأسماء واستبدلها بأرقام، وكل ذلك بالطبع، يقرره الروائي ويقرر الأسلوب الذي سيعتمده.
عن دار وائل صدرت رواية «77 خريفا» للروائية فاطمة الهالات في مئتين وست عشرة صفحة من القطع الصغير، وبغلاف حمل دلالات كثيرة ربما لما سيجده القارئ في المتن، وأرى أن الغلاف جاء موفقا لرجل وامرأة يخرجان من كهف نحو النور ونحو الشماء المضيئة الشاسعة.
وهذا ما يعطي القارئ خارطة طريق، ليتساءل لاحقا عنهما ولماذا الكهف والضوء، وهل المرأة اشتبكت مع ذلك الرجل بكل تداعياته النفسية والاجتماعية والإنسانية ورؤيته للماضي والحاضر والمستقبل كيف سيكون؟
تأتي الإجابة مبكرة جدا وفي الفصل الأول في مشهد شاعري نادر، حتى يخيل للقارئ أن شعرية السرد طغت على اللغة القاطعة التي تحمل الإجابات والتي غالبا ما يبحث عنها القارئ.
في الحديقة التي لا يعرف أين مكانها، ينجذب الرجل الأربعيني إلى أرجوحة معلقة للأطفال، ولا يستطيع التمرجح لوزنه وثقل جسده، بالمقابل هناك سيدة صامتة، على مقعد خشبي في آخر الحديقة يلفها الأسى في الغروب المثقل بالذكريات، وحيدة، ويبدو أنها واقعة في مصيدة الذكريات، فيحاول الرجل استمالتها للحديث لكنه يفشل من أول محاولة، وهنا تمهد الروائية للقارئ حدثها اللامرئي لما سيحدث لاحقا.
تتجاوز الروائية الجانب النفسي للشخصيتين، الرجل والمرأة، وتنطلق بحوار بينهما يشبه ذلك الحوار المنسجم لقلبين ربما، يصبح الشرق وما يمر به من حروب وكوارث المادة الأولية التي سيبنى عليها كل حوار، فهي تخبره عن الحروب التي أكلتها، وقد تكون حروبها الداخلية مع ذاتها أيضا، هي الحروب التي تود التعبير عنها، لكنها لجأت إلى الوضع العام في الشرق وما يعانيه الإنسان العربي.
تستدل الروائية أثناء الحوار مع الرجل الغريب، بقصة الأسد سلطان المشهورة وكيف أنه عاقب نفسه بعد هجومه على مدربه وظل أياما لا يأكل ولا يشرب حتى مات، وهنا لا بد لنا من وقفة، وهي أن الحيوان المفترس أصبح له قلب وضمير أكثر بكثير من الإنسان الذي يعيث خرابا في القلوب، هذه الالتفاتة النفسية طغت بدلالاتها على كل ما سيقال.
في صورة روحانية مدهشة تعرضت الروائية لعلاقة البشر مع الله، وأنه معهم أين ما كانوا برحمته ولطفه وعدله وكرمه، على عكس بعض المتدينين الذين اتخذوا من الدين وسيلة لتحقيق مطامعهم على حساب الآخرين.
في مشهد سينمائي عرضت فاطمة نماذج من البشر، ولكل شخص حكايته المخفية، وهي بذلك تشرح المجتمع بكل تفاصيله وتحكي بلغة شفافة ورقيقة عن مواجعهم، أمنياتهم، تدخل إلى تلك المناطق الجانبية في الحياة، مجمع الحافلات، فتضيء تلك المناطق المعتمة من خلال الناس، بائع القهوة، بائع العصير، كنترول الباص ، سائق السرفيس، إلخ...
وكما يقول ميلان كوديرا: الرواية التي لا تقول شيئا هي عمل مجاني.
ولأن الروائية تحمل هما وطنيا ولأن الكاتب هو ضمير الأمة، وبصوت خفيض، هادئ، لخصت معاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال الغاشم بلغة روائية اقتربت من الشعر وحافظت على المضمون الهائل الذي تود قوله واللافت إنها وعلى لسان شخصيتها، لم تقحم نفسها بآراء شخصية أو بصوت عال، بل انسجم السرد مع المعنى، بذلك أبقت للقارئ مساحة من التخيل وربما مساحة أخرى من الأفكار، وأرى أن هذه تقنية مهمة عمدت إليها الروائية وهي إشراك قارئها واعتباره جزء من العملية الإبداعية.
الاشتباك مع الحياة، ظهر جليا في تداعيات جائحة كورونا التي شغلت العالم وكيف كان لها التأثير السلبي على الناس محليا وعالميا، فاشتغلت من خلال تقنية الفلاش باك، أو الاسترجاع، كيف كانت الحياة تسير وكيف أصبحت، ثم طرحت ذلك السؤال التاريخي، لماذا لم يكن البشرفي تلك اللحظات الجميلة من حياتهم دون الحظر على التواصل بالأمنيات والمحبة والورود، لِمَ لم يصنعوا من حياتهم قطعة شوكولاه فاخرة، حين كانت الحياة متاحة.
لغة فاطمة الهلالات الروائية جاءت في النهايات المليئة بالأسى، لتكمل حكاية ذلك الرجل الغريب والمرأة الشرقية، لغة مشحونة بالذكريات المؤلمة، وأرى أنها تجاوزت المألوف في الحوار الروائي، فلا يمكن أن تغلب كل تلك المشاعر العاطفية الحزينة على الحوار الذي سيشكل المعمار الروائي، كان لا بد من التوازن بين اللغة القاطعة واللغة الشاعرية، ليكون الفضاء الروائي منسجما ولو قليل بين واقعية الشخصيات وبين آلامهم الشخصية.
77 خريفا، رواية تعد ضمن أنماط الرواية الجديدة التي تقدمت بها فاطمة الهلالات لتفتتح عالمها الروائي والذي أرى أنه سيكون عالما مهما ومليئا ومنسجما بين المضمون والجمال الأدبي الذي يبحث عنه القارئ.