كثيرة هي الأشياء التي نفقدها في مسيرة حياتنا، وكثيراً ما ننسى ما نفقده، لأننا دائما نهتمّ بما هو بين أيدينا، لكن الشاعرة مريم شريف تظل متشبثة بأشيائها، وأشخاصها، ولا تريد أن تنساهم، لمجرد أنهم غابوا، فظلالهم التي لا تستطيع الإمساك بها باقية، تعيش إلى جوارها.
إبراهيم الذي هو زوجها، والذي غاب، جعلته يقف بباب مجموعتها الشعرية "ما لا يستعاد" الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، عنواناً لقصيدة، وعتبة للمجموعة الشعرية، ومحتوى القصيدة ذاتها، فكان الإهداء إليه، فكأنها تثبت حضوره، وتستعيده في الشعر، ويأتي بعده الأب الذي لم يعد من الحرب.
الشاعرة في هذه القصيدة، كما في مجمل قصائد الديوان تبقي الطريق مفتوحاً أمام عودة المفقودين أو الغائبين:
"كلُّ الطرقات التي تعرفنا/ لن تستطيعَ أنْ تسحبَ تلك الليلةَ/ من تحت ذلك الجبل/ ليعرفَ أبي البيتَ إنْ عاد/ أو لتمحو منها الحرب/ التي لم تُعِده".
تأتي قوة نصوص مريم من عفويتها وهي تعبّر عن ذاتها، وتفاصيل حياتها، وعن العزلة التي تنطق بكل شيء، بصور فائقة الجمال، ولغة عادية، شفافة، تتراءى الأشياء العادية بالنسبة لعامة الناس من خلف تلك اللغة، ملونة، نابضة بالمشاعر، وهي تؤثث الفراغ الثقيل، فتجعله محتملا، معطية لبقايا الحياة المتسربة من بين الأصابع، قيمة عالية.
القصائد لا تنطق بكلماتها وتعابيرها فقط، بل بما تولِّده من صور وأفكار مدهشة لا تنتهي.
"ما زالت هناك أغنيات جميلة، ما زال هناك غرباء، أريد أن أبادلهم حديثاً عابراً، عميقا وعابراً...".
"كنت سأكتب عنك، لكنني لا أقوى على رؤية نهايات اللغة...".
"نضيف للظلِّ وهو ينمحي، شكل امرأةٍ وطاولة..".
"لم يكن الضوء هو كل ما أريد، ولكن، أن يظلَّ في قلبي مكانٌ صغير لا يعتم..".
"حياتي هي ما استطعته، وما لم أستطعه هو أنا...".
"الليل يصغي لخطواتكَ منذ أوَّل الحياة...".
"نقاء حزين مثل ابتسامتك، غيمٌ من طمأنينة يجتاز البنايات المرتفعة وقيعان الليل، ويهبط في البحر نقياً وخفيفاً، كما لو أنه محا العذاب العالق...".
 "أنا الحبيسة خارج أغنيةٍ تصنع أيامي، ماذا أفعل بسيل الأمكنة...".
تقلب مريم شريف المألوف في صورها الفنية محدثة مفارقة مدهشة "نقاء حزين مثل ابتسامتك... من علّقت رنين المفاتيح على الجدار؟ من صادفت وجهها في المرآة، وهي تلقي الحقيبة، قاطعة التخاطر الصامت بين الحائط المقابل والمرآة؟...أو لتبصر ظلّها يشيخ بين الظلال، للطريق التي تحملني عينان لا عمرَ لهما، وللطريق التي أحملها عين من صدى...ما أن ينقضي الليل حتى يعود الضوء في هيئة صباح... يدخل الوقت في هيئة نهار... يصير النهار شيئاً من أشياء المنزل، كالمقاعد، أو السقف، كوقفة النافذة خلف خفق الستارة، كالرفوف وما ينسى فوقها، وكالغبار أحياناً...".
يغيب الإنسان ولا يغيب صوته، وتارة لا تغيب صورته، وتارة لا تغيب روحه، تقول الشاعرة:
"سأكلِّم صوتك/ ظلَّ هنا حين ذهبتَ/ الأشياء الصامتةُ هي صوتكَ/ الأشياء المألوفة/ صوتك الذي لا تخفتُ أجراسهُ/ صوتك الذي لا يذهب كالأيَّام".
وفي مقطع آخر تقول في ذات الموضوع:
"هنالك صوتٌ لكلماتك/ وصوتٌ لصوتكَ/ صوتٌ عميقٌ/ وبعيد/ كآخر الأرض/ تَعرفهُ روحي/ تذهبُ إليه أحياناً/ تحيا هناك/ مثلما تحيا الروح/ في جسد".
وتقول أيضاً:
"يخيَّل إلي أحيانا/ أن صوتك هو الظلُّ في كل طريق".
وفي ذات السياق يتحول صمت الغائب إلى أثر:
"حتى صمتك/ ذلك الصمت/ كيف كان يسير خلال السنين/ مخلِّفًا ذلك الأثر".
ورغم فداحة الفقد، ورغم العزلة التي تعيشها، إلا أنها تجعل من كل الأشياء المحيطة بها كائنات حيّة، أليفة، تولِّد الحياة من السّراب، كما تستعيد أحبتها من خلال أثر أصواتهم، وأرواحهم التي لم تغادر المكان، تقول:
"في كلماتهِ القليلةِ/ أبحثُ عن قطرة ماءٍ/ عَلِقَتْ بسَقفِ إحدى الكلمات/ أبحثُ في قطرة الماءِ عن نهر/ أبحثُ في النَّهرِ/ عن كأسي التي أضعْتُها منذ سنين/ أُلَمْلمُ الرؤى التي أحاطتِ السَّرابَ منذ الأزل/ أُشاهدها تلوي عُنقَ السِّنين/ وتُعَبئُ النَّهرَ في كأسي/ أشاهد الكون/ يتبادلُ الدَّورَ/ مع الكأس التي شَربْتُها للتَّو".
يقول الشاعر السوري علي جازو في عبقرية شعر مريم شريف: "بسبب نسيج كلماتها البسيط، الأقرب إلى التكلم منه إلى التأليف، نبقى معلقين وسط كلام لا يعرف نهاية، رغم بحثه المرير عن شفاء عبر الكلمات نفسها. قصائد الشاعرة مندغمة، وممتزجة بموضوعها حد التماهي الخالص، والتطابق الصرف".
أما الشاعر الفلسطيني جميل شعث، فكتب يقول: "شاعرة في قصائدها زهد وتمسّك، زهد بأي إضافة ترهق القول الشعري، وتمسّك بالعمق للإضافة عليه، لملئه، لمراكمة وضوح القصيدة؛ لتظل الأخيرة نابضة بالماء المعاش، منبّها معنويا، ومطهراً لأعماق الإنسان".
يذكر أن الشاعرة عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، صدر لها من قبل مجموعتان شعريتان، هما: "صلاة الغياب"، 2003، و"أباريق الغروب"، 2007.