عمان- يرى أستاذ النقد الحديث ووكيل كلية دار العلوم المصرية د. مصطفى الضبع، أن الشاعرة الأردنية الراحلة سهير الداوود تنطلق في ديوانها الأخير “للعزيز نساء”، الذي صدر بدعم من وزارة الثقافة قبل رحيلها بأيام قليلة، من منطقة “الأنا”، وهي منطقة غير ثابتة تماما.
ويضيف الضبع، في مقدمة الكتاب الذي صدر عن دار “الآن ناشرون وموزعون”، تحل “أنا”، الشاعرة متكررة في كل صوت يقرأ؛ فكل “أنا” منطوقة هي “أنا”، الشاعرة التي تستعير صوت القارئ. وفي اللحظة التي يستعير فيها القارئ كلمات الشاعرة، تعبيراً عن مشاعره، يدرك، أو يكون عليه أن يدرك، أنه يعبر بالأصل عن مشاعر “أنا” أخرى تتسلل عبر صوته.
ويشير الضبع الى أن الشاعرة اعتمدت في هذه القصائد على مجموعة من الأقطاب تتقاطع بينها الصور، ويتحرك بينها المتلقي، وتتشكل بينها مساحات التلقي وفق قدرته على الاستكشاف؛ فالمتلقي يتحرك بين مجموعة من العلامات، وكذلك بين مجموعة من البشر: الذات الناطقة بالصور، والرجل، ثم جماعة المتابعين.
ويوضح الضبع أن الجماعة هنا تشير إلى نوعين يتحققان وفق قراءتين مختلفتين: قراءة أولى ترى الجماعة تمثل المحيط للذات والآخر؛ أي هي جماعة تضم آخرين ومن بين من تضمهم الذات والآخر، لافتا الى أن قراءة ثانية تقوم على كون الذات والآخر جماعة قائمة بذاتها، وليست في حاجة للآخرين؛ أي أنها تكتفي بعالمها.. “وأنسى الوجوه الباقيات”.
ويرى الضبع أن النص أو الصورة تبدأ بالحديث عن الجماعة، فيتحرك الضمير بين الثنائية والجماعية التي تتوافق مع الفعل المشترك؛ فعل السعادة. وفي الفعل الجمعي لا يتحدد مكان معين؛ ما يوحي بأن السعادة ليس لها مكان محدد، لكن حيثما نكون فهناك سعادة؛ أي أنها تتحقق بالوجود الجماعي، وتذوب عندما ننفرد مع ذواتنا.
أما الأنوثة هنا، وفق الضبع، فهي علامة شعرية يمكن لها أن تكون معياراً لمكاشفة عالم الأنثى، كما يمكنها أن تكون وسيلةً لاكتشاف قدرات الشاعرة على رسم الصورة وتوظيف المفردة، وأن تكون كذلك طريقة للوقوف على عالم الرجل من منظور أنثوي يمتلك قدراته الخاصة بفعل المكاشفة.
ويزيد الضبع “جاءت قصائد المجموعة وكأنها في قصيدة واحدة مطولة. وهذا الشكل اصطُلح قديماً على تسميته “مُعلّقة”، وسُمّي وفق الرؤية الحديثة “جدارية”، هذه الجدارية تأخذ شكل الـمُعلّقة، وهي تقوم على مجموعة من الصور متعددة الألوان والأشخاص، وتحقق شروط عبورها إلى منطقة المطولة شكلاً واستفادتها من نظام الجدارية تقنية شعرية”.
ومن شروط هذه الجدارية، كما يوضح الضبع: الطول، وحركة الزمن، وتعدد الأمكنة، وتعدد الصور والأشخاص، والاعتماد على السردية في إقامة العالم المتواتر عبر الصور المتوالية التي لا غنى للمتلقي عن واحدة منها، ولا مجال لتجاوز بعضها على حساب كلها. وهذا هو ما حققته القصائد في تفاصيلها الـمُحكمة التي ظهرت في السطور السابقة وتؤكدها السطور اللاحقة.
وعن المكان، يبين الضبع أن الشاعرة جعلت منه وسيلة من وسائل الربط بين المقاطع تحقيقاً للإحكام الذي ينتمي بدوره إلى السرد. علماً أن السرد لا يعني الحكي أو القصّ فحسب، وإنما يعني الإحكام أيضاً. فالأماكن في تعالقها والأفعال في تسلسلها تجد صداها فيما يتوالى من أماكن. فعل السفر مثلاً، يرتبط بعدد من أماكن الحركة.
ويرى الضبع أن هناك غيره كثير من الأفعال التي تؤدي الغرض نفسه، وهو ما يعني أن الأفعال هنا تترابط نحوياً مع ما يمكن أن يكون دالاً على تحققها؛ ففعل السفر الذي يعني الحركة في المكان يرتبط بكل أنواع الأماكن التي يطرحها النص.
كما ويشير الضبع الى أنواع من الحركة القائمة في هذا الديوان على الغموض الذي تطرحه علامات نصية من خلال قدرتها على تحريك متلقيها، وهي مفردات وُضعت بعناية لأداء دورها الجمالي والدلالي. ومنها مفردة “المغطس”، التي هي علامة لها مرجعيتها الدينية كونها تشير إلى مكان له دلالته في الدين المسيحي؛ فالمغطس هو المكان الذي تعمّد فيه السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان بحسب المعتقد المسيحي، ولها مرجعيتها السياحية، والمزار هو مكان سياحي يقع في الضفة الشرقية لنهر الأردن، هذا يثري الرمز، فيضيف إلى قيمته الدينية والمقدسة قيمة وطنية وعروبية، فيأخذنا المغطس بما فيه من حمولة دينية مرتبطة بالمسيح، وما يحيط به من مجال حيوي، إلى فلسطين بما تولده من معانٍ إضافية ذات أبعاد وطنية وعروبية.
ويذكر أن الشاعرة الراحلة سهير الداوود، حاصلة على ليسانس في اللغة العربية وصدر قبل هذا الديوان مجموعات شعرية هي: “نعم أنا آخر امرأة” 1996، “فوق الماء ووحدك” 1998، “ألا تعال” 2006، “فاجأني المطر” 2013، “أنت للبيلسان ند” 2015، “أول الألف. آخر الياء”، وديوان “امطرني من لدنك”.