|
|
||
|
الخيال وشعرية المقدس في نص"المجدلية" للشاعر فائز الحداد الناقدة والباحثة: خيرة مباركي
الخيال وشعرية المقدس في نص"المجدلية"
للشاعر فائز الحداد
الناقدة والباحثة: خيرة مباركي - تونس
واكبت أعمال الشاعر العراقي فائز الحداد الشعرية موجة التطور والنهل من منابع فنية مختلفة، لتعلن عن انبلاج مرحلة إبداعية استحدثت شكلا متجددا، مثل عصارة مسيرة فنية ومخاض تجربة مطولة، حاول التملص من قيود النظم المألوف والسائد وإحداث أسس رائدة، ولعل ما اصطلح عليه بقصيدة النثر يمثل محطة هامة يحط فيها رحاله، باعتبارها أبرز ما صدر عن يقين التخلص من النمطية على مستوى الشكل والمضمون، فتجاوز الأسس الإيقاعية الخليلية ونظام الشطرين واستبدالها بقصيدة التفعيلة والسطر الشعري لم يمنع نهم الشاعر الفني في المضي قدما نحو آفاق إبداعية لا حدود لها، قصد إنشاء صرح أدبي ومحاولة إحداث نموذج فني في الشعر الحديث ممزوج بفلسفة خاصة ورؤية جمالية متفردة، تنشدّ إلى لغة جديدة متحرّرة من عقال المنطوق والمألوف و تستدعي الرموز والأساطير، ترتدي الأقنعة وتستشرف طرائق في الأداء حديثةً، فتخترق الواقع من رحم الشعر برؤيا عاشقة لامتلاك الأشياء واستيعاب الوجود.كل ذلك في سبيل إرضاء ذات قلقة ونفس تواقة إلى التميز، تمارس التأمل وتنطق بالمأمول، مترنّحة للمنشود بروح حالمة، تنشد الفجر البعيد على عتبات أبجديّة يطلقها دون قيد لتحلق في عوالم الترميز، فتنشئ لغة مختلفة في قوانينها، مجددة في علاقاتها السياقية، وموحية بما تكنّه الذات الشاعرة من توق إلى إعادة تشكيل الواقع وفق فلسفتها الخاصة، وتفاعلها مع الوجود في إطار رغبة في إعادة بناء سيكولوجية هذه الذات. وهذا ما يجعل اللحظة الشعرية محاولة واعية لإعادة ترتيب هذا التفاعل الكيميائي داخل اللاشعور وحبكه في قالب فني صوري وسيكولوجي يمكّنه من التذاوت مع العالم وإعادة صياغته من جديد، للظفر بلحظة عشق تملك عليه اللحظة الإبداعيّة. فيترنح للجمال ويسبّح للدهشة. ولعل الخيال سبيله إلى هذا الكون اللامتناهي في الشعر، حين يطلق العنان للقريحة، فيقتحم فضاءات المقدس في لحظة جنون، أو لعلها نوبة من نوبات الشعر وحالة من حالاته المتقلبة و"الثلاثية المقدسة" نموذج جيد وخاصة منها هذا النص الذي يمثل واحدا من هذا الثالوث، وهو قصيدة "المجدلية".
فكيف حضر الخيال؟ وكيف شكّل الشاعر شعرية النص من المقدس؟ وماهي حقيقة مقاصده والمسكوت عنه في هذا الخطاب الإبداعي؟
ارتبط التخييل بالشعريّة العربية منذ نشأتها، فعلا ماردا، تجاوز مفهوم الوهم عند الفلاسفة والتحرّر من سلطة العقل إلى كونه كائنا يعيش هدنة في أعطاف الشعر ليتقوّت من ميتافيزيقاه. وهو ما يجعل منه قوة وطاقة ضرورية في القول الشعري، يقنّنه أرسطو بمحاولة المصالحة بين الفعل التخييلي و العمل تحت إمرة العقل ووصايته. فكل أسلوب شعري في مستوياته التخييلية ينبغي أن يأخذ في اعتباره مبدأ الإقناع المنطقي والوضوح حتى لا ينفلت من رقابة العقل. ولكنه رأي يجانبه المتصوفة الذين يثقون بالنشوة الروحية الغامرة وبخيال محلق يسمو حتى يدنو من الحقيقة، وهذا ما يجعله عند البعض بلاغة في الانتقال من قانون الوضوح ومستلزماته التمييزية إلى قانون التحول والاندماج بين العناصر الوجودية، ومن ثمّ الانتقال إلى حال الترميز الكلي. وتتواصل مسيرة الخيال في الأدب العربي إلى الرومانسيين والشعراء المحدثين ليعلن هذا الخيال عصيانه وتمرده على دكتاتورية العقل. لكن أين فائز الحداد من ذلك ؟ وأين مجدليته ؟
قد ننظر إلى الخيال في هذا النسيج النصي وإلى صوره بوعي جديد يمكّننا من وضع اليد على الأبعاد الديناميّة لنفسية جديدة يمثل الشاعر الحداد أحد نماذجها لما يلاقيه من قهر الواقع ونزيف الوطن الممعن في التلاشي. هي المجدلية المعشوقة التي تكتسح فضاء العنوان، عتبةً هامّة اتخذ الوظيفة الاستباقية للنص، يقوم فيه مقام مبتدأ يخبر عنه المتن الشعري، لكنّه لم يخبر بل عمّق التيه في المعنى وهنا نقف إزاء أول مظهر من مظاهر التخييل في هذا النسيج النصي. وقد ورد مفردة، معرفا بالألف واللام. ومعنى المجدلية في معاجم اللغة العربية ينحدر من مادة أجدل وهو اسم فرس، وجدالة الخلق عصبه وطيه. ورجل مجدول، وامرأة مجدولة. أما معناه في قاموس المعاني فهو مجال أقدام الصليب. وأصل اسم مجدلية سرياني، وهي المنسوبة إلى "مجدل" ومريم المجدلية هي التي كانت خاطئة فتابت وتبعت المسيح ووقفت مع أمه عند أقدام الصليب. إذا فمريم المجدلية من أهم الشخصيات المسيحية في العهد الجديد حسب ما جاء في الإنجيل. وقد حضر العنوان في القصيدة تصريحا من خلال تواتر الاسم مرتين (مجدلية، مجدليتي ) ثم تلميحا عبر استحضار ما يرتبط به من مشتقات تحدد العلاقات السياقية داخل النص وتؤثث العمل التخييلي فيه (تمجدلت بك، سأتمجدل ،فمجدليني ...) إضافة إلى ما يرتبط بهذا الاسم من معاني القداسة بهذا الحضور لسجل لغوي دال عليه (الصليب، الهيكل، مسيحي، أناجيلك، محرابك، الحواري،يسوع...) بكل هذه المعطيات التي نقف عندها في علاقة العنوان بالمتن يتراءى نص ليس كبقية النصوص، نص مخاتل، مغامر، يرتاد المطلق ولا ينزل، زئبقي أينما وجهت نظرك يكسّر الشاعر أفق التوقع لديك. فمنذ الوهلة الأولى يتراءى لنا السياق الغزلي بهذا الحضور للأنثى ليتحدد السياق العاطفي، لكن الهالة القدسية التي صبغ بها الخطاب تجعلنا نعيد مراجعة قراءتنا لهذه القصيدة. فنحن لا نجد في هذا الخطاب ملامح الأنوثة وأريجها الفواح، ولا معاجم الحب والهوى ولا شكوى ولا بث لواعج الهجر والحنين.
قد ننطلق هنا من فكرة القصيدة وكيف تشكلت في ذهن صاحبها. لعله بعث هذه المرأة من أحلامه المنسية، من مفازاته النائية في لحظة قد تكون منتهى الصفاء العاطفي والأحلام الوردية أو مطلق الجموح والجنون. المهم أنه بعثها أنثى لا عنوان لها في عالم الطواغيت. تحيا في القصيدة كالرقم الضائع. فهي ليست المرأة التي أنهكها الليل والجسد وأذلتها الشهوة. وليست المادية ولا كنه الحضارة. هي أنثى يقيمها خالقها على مسافةٍ بينها وبين المرأة القديمة، تعلن عن لحظة حلم، هي بالأساس لحظة تبرّم من الواقع، انتقاها من ذاكرته التي تنزف كفرا بالحاضر الآسن، لعلّها صورة تنبجس من رحم الرومانسية، ولكن الحداد أعلن عن قدسيّتها وماهيتها وأصلها، بل انتقاها وهو بكامل إرادة التوق إلى المطلق فيه. قد تكون مثالية الحداد و حبّه الذي لا يدركه البشر. وهذا من شأنه أن يكشف عن بعض ملامح نفسه الغائرة، هذه النفس التي تحلّق في عوالم الجمال والطّهر، هي سليلة الفراديس الضائعة والفضيلة المنسية. وهو ما تظهره جملة من السجلات اللغوية عند الكشف عن ملامحها. لقد أظهرها في صورة بكر من العشق والتأليف، خلقها من نسب المقدس كما ليس من عرف الكلام:
شاهدك المقدس في الربوبية ..
ما تأله بذات يمينك ..الشفاعة والكتاب
(...)
لأنك وتر النبوءات ...)
تمثل القناعة والتعالي والصدق في الحب والمشاعر النبيلة فهي عاشقة دون حساب :
تبصمين بروح الإله على صدر القناعة ...
بأن الحب رقيمك الأوحد ..
طاهرة ، تتسربل بالنقاء :
لك أن تطهري محرابك برماد دمي..
لأكمل طقسك بالقبل ..
تهب الحياة وتضيء سراديب الوجود بالحكمة والتبصر :
فالعروش دونك موتى
لا توضىء العاشق بضياء الحكمة ..
ولا تشفع لمن مروا كراما بملك عظيم
لقد ملكت ودعك والخرز والمسامات...
هي الفاعلة والمحرّكة لمصير عاشقها. تحيي وتميت وتترنح على عرش المطلق وتفتّش في خبايا ميتافيزيقاه لتكون أول شاهدة على قيامته :
" فأنت أول شاهدة على قيامتي ..وأول
زائرة لقبري الحي "
بهذه الصورة التخييلية يظهر مشهد بعث وانبعاث لعاشق خلق من وجودها، من ضلعها، ولكنها تميته عشقا، لتطرح جدلية المقدّس والمدنّس في صورة هذه المرأة وعلاقتها بعاشقها، وفي لقائها انفتاح على ملحمة الخلق الأولى وصورة التجلي في عالم الأرض. فتحضر التفاحة كعنصر مهم في طقوس النزول وهي التي صورت الخلود لآدم..وقد تلتحم في هذا السياق صورة المجدلية بصورة التفاحة كلتاهما فاعل وكلتاهما تتقمّص العشق شرعةً. وتتحول بمقتضى ذلك الصورة التخييلية وتتحول معها رمزية التفاحة في الذاكرة العربية، من صورة للخطيئة الأولى و مصدر الإغواء والخروج من الجنة إلى رمز للقداسة في علاقتها بالمرأة المقدسة فتغدو هذه الأخيرة وجها من وجوهها . فالمجدلية فاعلة في عاشقها. ينتشلها من عالم مقدس يعرج إليه، وتبعثه في عوالم الحس تنحدر إلي شعابها، فتنبجس في النص دينامية حسّية تتأرجح بين الصعود والنزول لتتشكل صورة أخرى للانبعاث، هو انبعاث المدنس من المقدس. خطيئة أخرى ولكن ليست كالخطيئة. هي البعث في عوالم الأحاسيس والملذات، لتتشكل صورة أنثى تلبس ثوب الواقع، تبعث الدفء والاطمئنان، تطرد الجوع العاطفي وتُشعِرعاشقها بذاته، فتحقق بوجودها الاستقرار، تحيا له وحده ولا يشاركه فيها أحد، وهو ما يحتاجه وهو يجوب المدائن ويواجه السفر والرحيل، نازح بين الموت واللحود. مظلوم ، مصلوب على جلجثة التاريخ الآسن، لتطرح بذلك جدلية المقدس والمدنس في هذه الصورة التخيلية، هي من الخطيئة وإلى الخطيئة:
ويقيني: لن أبلغ التاج، ولا معراجك
سيدركني
فلك أسباب آدم في دم التفاحة ..
ولي أسبابك في دماء حواء
هاتيك التي :
تبذر حقول العبادة .. آيات بأسمائك
الحسنى
وهذه الخطيئة تعيد الاعتبار إلى الجسد المنسي فيخرج من دائرة القسوة والألم ليرتمي في عالم هذه المرأة. ويكون الجسد بذلك جسرا للوصول إلى الذات والحياة والوجود والظفر بلحظة التوحد القصوى: لحظة العشق والدهشة واللذة. وهذا لا يعني السقوط في متاهات الجسد بقدر ما يؤكد على منطق التعادلية في الوجود والالتحام بين الجسد والروح لملء الكيان. فتنشأ بذلك حساسية شعرية تتأسس على المتعة والسموّ الروحي في الآن ذاته، لتتحول بذلك اللذة إلى مقدس يستحق الطقوس، وأداة تقاوم الفناء .
بهذا فهي امرأة ليست كالنساء. لم تعد المرأة الماكرة في عرف الشعر القديم بل هي وتر النبوءات في عزف التراتيل، هي من نغم الأحلام التي تهتف بروح السماء وعذارى الجمال في نفسه التائهة بين جداول الوجود، تتهادى على عروش النخيل الباسقات. هي ارتواء الأصائل وترشّفٌ من تخميرة المطلق:
والنساء اللواتي جرين بين كفي كخرز
المسابح
وسبحت بهن دون شهادة..
فطلقت صلاتهن..بعيون الحدائق العطشة
بهذا تتشكل هذه الأنثى من السرمد والأمد، تفاصيلها دينية وعالمها غيبي، وجذورها مسيحية، ولكن يجسدها الواقع. امرأة تعتصم بذاتها وتتقوى على الفناء، بل هي ربة تسجد للغيب الأوحد، يصلي عاشقها في محرابها ويرتل تسابيحه بالتمني والدعاء، وهو ما يكشف عنه الخطاب المباشر في دلالته على التضرّع والمناجاة، تحلق بهذه الربة في عالم مثالي، لتتحول القصيدة بهذه الصور وهذه المناجاة إلى عمل صلاة وتبتل لامرأة معبود وحبها عبادة، عابدها ساجد لها يصلي، يجوب عوالم من الأوثان ويرتل تسابيح الإيمان:
ولن أسبح بعدك لطبول ، لاتقرعها الأعالي !؟
ثم تتحول هذه المناجاة شيئا فشيئا في لحظة من الشعور بالوحدة والاغتراب إلى مشاعر عنيفة تكشف منتهى الشوق إلى الآخر. هو ضرب من التهادي كشطح الصوفي في الحضرات قبل التخميرة الأخيرة، يعبر عنه ترجيعٌ لأصوات وجد فيها طاقة شعورية ودلالية قد تستوعب عصارة روحانيته وكثافة عاطفته وهي الميم والجيم والدال. وهذا الترجيع إنما هو أصداء التماهي بهذه المعشوقة الربة، والفناء في روحها، لعلّها مرحلة الحلول التي يتحقق فيها الاتحاد وميلاد جديد ليجعل منه كائنا آخر يقيم داخله. هو نقر على الحروف لا البنادير والدفوف، ولا وتيرة إلا وتيرة الصوت، فالصلوات والحب خيال والحقيقة لغة تنفلت من عقالها، هونظم من الكلام له هدهدة الأحلام (مجدلية ،تمجدلت ، فمجدليني ،مجدلات ،سأتمجدل ،جدائلهن ،جدلت ،مجدليتي ،يا مجدليتي ) يحلق بنا الخطاب فوق الواقع ، في جو طقوسي من عالم الديانات على أنغام يوقعها في أنفسنا حلما فـ"الميم" صوت الشدو له طاقة هوائية عالية ينطق بانفتاح المجرى الأنفي والمجرى الفموي معا مما يولد طاقة صوتية يصدح بها الشاعر ليفصح عن منتهى عشق ليس كالعشق. أما "الجيم" فهو رخو مجهور يقرع بضرب اللسان ، فيه قدرة على توصيل النغم حد التماهي. ويحضر اللام وفيه لين يخطر في الأحلام ، له سيولة الحنين في نفس المصلي إلى الفناء في روح هذه المقدسة. أما الدال فهي صوت انحباسي انفجاري يوحي في سياق تجربة الشاعر بانحباس المعاناة في صدره واتجاهه في مستوى التلفظ بشكل من أشكال التعويض. بهذه الولادة الاضطرارية للغة حدادية جديدة تُخلق عوالم دلالية تخييلية عجيبة تتركز على سحر المسموع، ومعانٍ تتوارى خلف المنطوق تصل بالنسيج إلى مستوى الارتواء والانتشاء العاطفي:
وارتويتك ، وارتويت
مجدليتي..
سأمسك بك كرتاج القدس
لينهال الشعر على خدك سلسل شهد..
وتأخذني القبلة للخفايا
والمجاهييييييييييل
سأدون عشقك بدم الحبر والبياض
وأفرط خرز مسبحتك على جسدي
انحري غيرتي البريئة ،ولا تغاري ..
فالعروش دونك موتى
لا توضئ العاشق بضياء الحكمة ..
ولا تشفع لمن مروا كراما بملك عظيم
لقد ملكت ودعك والخرز والمسامات..
وما تبقى من سر النبوءة والملاذ
واصطفيتك نبيذا(...)
ليتحول الخطاب بعدئذ إلى التحام وذوبان في الآخر المعشوق يقتنص فيها الرحيق من قلب الشهوة، من شفاه القُبل ويستغيث من وهج اللذة -الخلود:
يا نبيهة التعاويذ المتأخرة
يا دم البرتقال في لمظة الملح
يا دغدغة الناب على خوخك المشتهى ..
ورب عشقك المبين ، وآلهة القبل :
من شفاهك ،سبرت نسغ الشهد ملحا
وعرفت النحل عمالك في اقتناص الرحيق
فهل تقانصنا في القبلة القاتلة ؟؟؟
رحمااااااااااااااك يا مجدليتي ..
فقد شئت الحب ..خلوووودا
في هذا السياق النصي يتكثف النداء، مما يولد طاقة شعورية، تحول النسق الشعري نحو لحظة انفعالية، فيها من الارتخاء ما يقرب التلاشي وفيها من طول النفس ما يضارع الإعياء. هذه الأصوات للنداء يرجّعها صدى أماني الشاعر المشتهاة، وتنشدها ظلمات جاثمة على وجوده. ليصل بالحدث الشعري إلى مستوى التماهي والانصهار. فيغدو مفتاحا من مفاتيح الدنيا المحجبة، وفي عنف التجلّي تتشكل لحظة شعريّة تقوم على أساس التناقض في الشعور وهو مطلق المعاناة. إنها لحظة يعيش فيها المتلفظ اللذة من خلال الألم ويستعذب فيها الألم أثناء التوحد باللذة. لعلّه الحلول الذي يحقق وجودا جديدا أو ما يسمى الفناء في الآخر. ومن ثمّ فهذه المجدلية بوابة عبور إلى عالم المطلق للذوبان في السرمد والحق الذي يستعيض به عن عالم الواقع. قد يكون مطلق الشذوذ الشعري وعصيان الخيال، ويظهر أولا من خلال أسلوب النص الذي يحاكي أسلوب الكتاب المقدس حيث تعمل اللغة فيه عمل صلاة وتبتل. وثانيا من خلال هذه المفارقة لعالم الواقع والعروج إلى عوالم مقدسة وفي هذا السياق يطرح الإشكال عن هوية هذا العاشق وكيف تشكلت صورته ؟
هو عاشق متفرد لمعشوقة فريدة، هي معراجه إلى عالم النبوّة والصفاء الروحي، وقد أعلن ذلك صراحة حين أكد على المشابهة بينه وبين المسيح:
تبصمين بروح الإله على صدر القناعة ..
بأن الحب رقيمك الأوحد
وإن لك مسيحا يشبه مسيحي بعلامته
الفارقة..
لكنه.. أخ رضاعة عنيد
ثم يتدرج شيئا فشيئا نحو الإعلان عبر الايحاء عن هذه النبوة، إذ يستحضر صورة النبي يوسف ولكنها تنأى عن الصورة الأصلية فلم يعد يتبرم من سلوك معشوقته بل هو العاشق الذي لا تقد قميصه امرأة من دبر:
سأتمجدل في ليلك المبتغى قسا ..
لا ينضو ثيابه، ولا تقد قميصه امرأة من
دبر
لكني أخشى عليك سحري في الراهبات
بهذه الصورة يستشرف الآتي وينفتح على المطلق، وكأننا بذلك أمام خيال حُلمي، أو لعلّها لحظة جنون تتصل باللاوعي تصل حد الهذيان. من هنا قد يحيلنا السياق إلى الحديث عن شعرية الصورة، وهي شعريّة تتجاوز المجازات والخيالات إلى أخرى تمثل لحظة استشرافية تنفتح على المستقبل وتتجاوز كونها مجرد نسخة نفسية تفتح على عنصريْ الدهشة والمفاجأة. قد تكون ثورة جديدة في الخيال. أو لعلّه ضرب من الحلول التخييلي النصي يتحقق به ميلاد جديد في إطار عمل ذهني، فيكون الفعل الشعري بمثابة الوحي، وهذا ما يظهر قطيعة بين الصورة الخيالية والواقع، إنه التخييل الوهمي لأنه لا يمكن أن يتحقق على مستوى المحتوى. كالحلم، ليس ممارسة واعية للواقع الموضوعي، هي فاعلية ذهنية خاضعة للتلاعب والتداعي للأفكار. ولكن هل هي النرجسية أم الجنون ومطلق الحلم؟ من خوّل له اقتحام عوالم النبوة؟ فصورة العاشق لا تنبئ إلاّ بنبوءة معلنة، فقد تحدث عن حسّية تجاوزت مرتبة البشر تولد من رحم الصليب، وله جرأة عجيبة في تغيير مقادير الأشياء. وهنا يعلن الخيال عصيانه وتمرده المطلق على دكتاتورية العقل، ليتحول التصوير إلى مقاربة جمالية تقدس جلال الخيال في عملية إدراك الحقائق، بذلك لم يكن هاجسه الدين أو الأسطورة بقدر ما هو رؤية خارج المفاهيم السائدة، يسعى إلى شحن نصه الجديد بقوة الماورائي، وهذا ما يؤكد على فرادة الشاعر واعتبار شعره محطة جديدة تنأى عن الاحراجات الكلاسيكية. وهنا تكمن شعرية الخطاب وإيقاع الصورة الشعرية. هو إيقاع شبيه بالأحلام المحلّقة التي تجوب فجاج الزمن بلا قرار. وهنا تظهر قيمة الخيال والحلم والرؤيا، وكأن التواشيح البلاغية والعروضية أصبحت غير قادرة على إشباع نهم القصيدة، لتعوضها الرمزية ولاعقلانية العبارة ويقينها وقدرتها على الاقناع. بهذا فنحن إزاء شعريّة سندباد يبحر في خضم نفسه المنفتحة على عوالم روحانية، يطوف العالم متحرّيا عن الحقيقة.
لقد تشكلت صورة العاشق في الخطاب ولكنها صورة مخاتلة لم تفصح عن إمكانية واحدة، فقد تحققت المشابهة مع المسيح ولكن مع هذه المشابهة ينحدر بنا إلى الواقع من خلال العديد من الصور التي مثلت قرائن تربط مع الواقع الراهن وما يلتبس فيه من صدمات نفسية وجروح تاريخية. لعلها السبب في هذا الاغتراب التخييلي. وما العروج إلى عالم السماء إلا تأكيد على الرغبة في تطليق الواقع وهمومه وما يحيط به من مؤثرات، وقد كشفت القصيدة معاناة شاعر تحيط به الأزمات من كل صوب. ولعل أول أزمة يواجهها تتصل بعلاقته بالشعر والقصيدة وجملة الآليات والأفانين الشعرية ورغبته في تجاوز المألوف من اللغة واضح في هذا الإحداث الجمالي لعناصر اللغة وعلاقاتها السياقية. بهذا فهذه المجدلية قد تكون في وجه من وجوهها قصيدة النثر الحدادية، ورؤاه الفنية المتميزة بهذه الرغبته الجامحة في التفرد ونسج خطاب شعري على غير نموذج .هو مريدها المتيم الذي يرنو إلى الأعالي. وقد تكون صورته الداخلية، أناه التي تتردد بين مطلق إرادته وحدود إمكانه:
ارفعي يدك المدلاة كالهيكل ..بعينين
ثاكلتين تنشدان الرؤيا
" فأنت أول شاهدة على قيامتي ..وأول
زائرة لقبري الحي "
هي صورة قائمة على أساس التقابل بين ما يحيل عليه " القبر" من موت ومعنى الصفة "حي " وفي المقابل يرتبط معنى القيامة وما يحيل عليه من فناء بمعنى الحياة والانبعاث. وهنا يمكن أن نستحضر صورة رامزة تنحدر من جذور الفلسفة الزرادشتية، ومعنى الإنسان المتأله. فيستعير الشاعر هذه الصورة ليؤكد على بعد رؤيوي يتجاوز مجرد الحلم إلى استشراف الآتي ودحض العدم. فالشاعر بهذه الصورة يتحدى كل مظاهر السلبية في الواقع ويرنو إلى البديل الأسمى خاصة ما تعلق بالوطن:
لن أسبّح بعدك لطبول،لا تقرعها
الأعالي ؟
ربما أهدروا دمي ، لأكفر عن ذنوب
حلاجي
وأتقاعد في أعين الطواسين ، مصفقا ..
لمزالق الدجل ، وأرباب تنك الدفوف ؟
صورة تنزف بمرارة الواقع وكل معاني الرفض، يطلّ من خلالها الحداد شامخا متعاليا كافرا بمظاهر الزيف والتملق لتكون المجدلية نفسه العزيزة ا التي ترنو إلى العيش بامتلاء وتتطلع إلى الأفق البعيد، إلى الفردوس المفقود، توقظ الأحلام وتطارحها الهوى. وهنا يشرق معنى الحنين إلى زمن البراءة، تحضر قسرا في الخطاب من خلال صورة الطفولة :
أكنت منبوذا، بتهمة الشعر والنساء..
وبعض غوى الطفولة ، ونذور الصحراء
فاستحالت أسبابك ..وحيا لجسد ما
أعشق ؟
ولعل الطفولة في هذا السياق صورة للينابيع الجميلة حين يرفل الوطن في نعمائه، وما ارتبط بها من غواية إنما يبطن معنى الانطلاقة والتملّص من قيود الواقع. لعل كيمياء الزمن مسّت براءته وجعلت منها غواية. أولعلها لعنة الفكر والريبة والتشكك في القيم، وهنا يفلسف الموقف و يستقصي الصورة، لكنه يمسّها مسا رقيقا كأنه يوقظها من نعاس خفيف ظلت به في عرف الكلام. ويربط هذا الموقف باستحضار معنى البراءة ويربطه بمعنى الجناية ضمن مقابلة بين الفعل والحال في إطار علاقة جدلية يثبت من خلالها عبثية الواقع الذي يحتله الليل:
أعرف أني قد تجنيت بريئا ، وتبرأت جانيا
(...)
أنحري غيرتي البريئة ، ولا تغاري ..
فالعروش دونك موتى
قد نكون أنهينا هذا العمل درسا لشعرية المقدس في قصيدة المجدلية ولكن لم تنتهي مشغلا.نص المجدلية نصّ محيّر، متفجّر تتفجر فيه ينابيع القراءة وتفتح على التأويل. بمجرد أن نفجّر ينبوعا تنبثق ينابيع أخرى. هي إرادة التوق عند فائز الحداد، له بذخ الأحلام . لم يشأ أن يحقق ذاته في حدود مكان فيزيائي وإنما تاقت نفسه إلى نوع آخر من المكان بعث فيه أنثاه وسربلها بالطهر ولونها بالقداسة. بعثها من ذاته نغما سماويّا كأنه الخلود أو الروح المنطلقة إلى قدسها الماورائي. إنها الروح المنطلقة في الطبيعة تبدي حسنها وتحجب سرّها ولن يستطيع الحداد أن يدرك حبيبته إلا إذا استطاع أن يكون فكرا وإبداعا، جعلته مجدليته يرنو إلى عاطفة لا متناهية كأنه هجَر الأرض ولم يبلغ السماء، فهو معلق بين السماء والأرض، وكأنها رحلة الشاعر في عالم المطلقات فلن تكون هذه المجدلية إلا دياجير ذاته الغامضة يعشقها حينا فيغازلها، ويتبرم منها حينا آخر. هي إشراقات الإبداع يرتّل بوجودها تسابيحه ويعلن عن الكلام المباح. إنها الكسب وإرادة التوق لحرية الانطلاق في عالم اللانهاية، والرغبة في الخلاص من طغيان أفعاله والرنو إلى الوجود الكامل حيث فضيلة الشعر وتحرّر اللغة.
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 11-09-2020 10:37 صباحا الزوار: 783 التعليقات: 0
|
|