|
|
||
|
الشعر في حالته الأيونية تأملات في ديوان "ومضات...كِ" للشاعر عدنان الصائغ
ناظم ناصر القريشي
مقدمة
الشعر هو الحالة الأيونية للغة، فهو لا يستقر في شكل ثابت، ولا يقبل القيود التي تحكم البنية النحوية والتراكيب التقليدية، بل يدخل في حالة من التفاعل الدائم، تمامًا كما تفعل المادة حينما تصل إلى حالتها الأيونية، حيث تفقد الذرات أو تكتسب إلكترونات، فتتحول إلى كيان أكثر نشاطاً، غير مكتمل، لكنه ممتلئ بالطاقة وإمكانيات التحول.
في هذا السياق، تتحول اللغة الشعرية في ديوان) ومضات...كِ (للشاعر عدنان الصائغ إلى كيان متحرك، ينبض بالحياة، لا يقدم معاني جاهزة، بل يتغير مع كل قراءة، إنها لغة متحررة من الثبات، تعيد تشكيل نفسها باستمرار، مما يجعلها لا تقرأ فقط، بل تعاد قراءتها وتأويلها بطرق غير محدودة، هذا التفاعل اللغوي هو ما يمنح النصوص بعداً ديناميكياً، حيث تتجاوز اللغة كونها مجرد أداة تعبيرية لتصبح طاقة بصرية وصوتية، تتداخل فيها الموسيقى مع التشكيل، والصورة السينمائية مع التأمل الفلسفي، مما يجعل النص فضاءً حياً يتخطى المفهوم التقليدي للقصيدة.
ديوان) ومضات...كِ (، الصادر عن دار لندن للطباعة والنشر – لندن، بالاشتراك مع دار سطور للنشر والتوزيع – بغداد، لا يقدم القصيدة بوصفها نصاً مغلقاً، بل بوصفها حالة لغوية متحركة، تفاعلية، غير مستقرة، حيث تظل في حركة دائمة بين الشاعر والنص والقارئ، وكما أن الأيونات تظل في حالة تغير مستمر، فإن اللغة في هذا الديوان لا تمنح نفسها بسهولة، بل تظل مفتوحة على احتمالات لا نهائية، مما يجعلها شعراً في حالته الأكثر تجريباً، الأكثر تحرراً، والأكثر اتصالاً بجوهره الأصيل.
الموسيقى الشعرية – لغة تنبض بالإيقاع
الموسيقى في ومضات...كِ ليست مجرد إيقاع خارجي تقليدي، بل هي نبض داخلي يخلق إحساساً بالحركة المستمرة، الشاعر يستخدم التكرار، الإيقاع الداخلي، والسجع الخفي لخلق تناغم صوتي يتغير من قصيدة إلى أخرى، فتبدو النصوص وكأنها تتنفس بإيقاعها الخاص، فتأخذ القارئ في دوامة من الأصوات المتشابكة.
التكرار الموسيقي والتدوير الإيقاعي يظهران بوضوح في المقطع التالي:
"وكما الأرضُ؛ مُقْفِرَةٌ، تتضرَّعُ للغيمِ أن يهطلا
وكما الغيمُ؛ يحتاجُ حقلَ السماواتِ، يركضُ والهيولي جَذِلا
كما والسماواتُ؛ مثقلةٌ بالنجوم، وتحتاجُ ربّاً ليرفعَها للعُلا"
يتحرك الإيقاع عبر تكرار "وكما"، مما يخلق تدفقاً صوتياً يشبه التموجات الموسيقية المتصاعدة. الإيقاع الدائري يشعر القارئ وكأنه في حركة لولبية لا تتوقف، بل تعيد إنتاج نفسها، التناغم بين الأفعال "تتضرع"، "يحتاج"، "يركض"، "يثقل" يساهم في خلق إحساس بالحركة التصاعدية، وبهذا تتحول اللغة إلى سيمفونية متدرجة، حيث تتعاقب الصور كما تتعاقب النغمات في مقطوعة موسيقية.
التشكيل البصري – اللغة كلوحة تشكيلية متحركة
تستخدم قصائد الديوان تقنيات التوزيع الطباعي، حيث تتغير مواقع الكلمات وتوزيعها على الصفحة، مما يجعل النص يتحرك بصرياً، تماماً كما تتحرك عناصر اللوحة الفنية. النصوص في (ومضات...كِ) لا تعتمد فقط على التراكيب النحوية التقليدية، بل تمتد إلى البنية الطباعية للنص، فتبدو الكلمات وكأنها تشكل لوحة تشكيلية.
نرى ذلك في المقطع التالي:
"لغوىً في إِيقاعِ مشيتِها
قطعَ خيطَ شرودي
فسقطتُ والقصيدةَ ـــــ ُ ـــــ
في شِراكِها"
في هذا المقطع أو اللوحة الشعرية، سنجد الفراغات والمساحات بين الكلمات تمثل جزءاً من المشهد، مما يجعل القارئ يراها كصورة حية، حيث أن "فسقطتُ والقصيدةَ" توحي بحركة سقوط فعلية، وكأن الكلمات نفسها تفقد توازنها أمام المشهد الذي تصفه. الفراغ في "ـــــ ُ ـــــ" يبدو وكأنه مساحة مفقودة أو انقطاع مفاجئ، مما يخلق توتراً بصرياً يجذب انتباه القارئ. الديوان لا يقدم فقط أفكاراً وشعوراً، بل يجعل الكلمات تتحرك على الصفحة وكأنها جزء من لوحة تشكيلية تتغير زواياها مع كل قراءة.
الصورة الجسدية الحسية – الجسد كفضاء شعري
رغم تجريدية الديوان، تظل بعض الصور مشبعة بالحواس، لكنها تتجاوز المباشرة، لتتحول إلى رموز فلسفية تكشف عن طبقات أعمق من المعنى:
بلادُكَ بين ذراعيكَ، تلك الأغاني، ونهدان من عسجدٍ
يتنهَّدُ بينهما البحرُ
هنا، لا يقدم الجسد باعتباره مجرد كيان مادي، بل يصبح رمزاً للوطن والمنفى، مما يمنحه أبعاداً تتجاوز الحسية المباشرة.
البناء السينمائي – اللغة كمشهد سينمائي متحرك
يستخدم الشاعر في (ومضات...كِ تقنيات) السينما مثل المونتاج، التقطيع السريع، والتضاد بين اللقطات، مما يجعل النص يبدو وكأنه فيلم شعري يتغير مع كل مشهد. الشعر هنا لا يقرأ وحسب، بل يشاهد، حيث تتغير زوايا الرؤية، ويتحول القارئ من موقع المشاهد إلى موقع المشارك في بناء الصورة.
يتجلى ذلك في المقطع التالي:
"يتجلَّى الربُّ؛ بعينيكِ،
ويَنْبَلِجُ الملكوتْ
فأراني وأنا أتدانى، أسرحُ..
أو أشطحُ..
بين اللاهوتِ
وبين الناسوتْ"
هنا سنجد أن الحركة السينمائية تتحقق عبر استخدام "يتجلّى الربُّ بعينيكِ"، حيث تبدأ اللقطة بتكبير بصري يركز على العيون، ثم يتوسع المشهد في "ويَنْبَلِجُ الملكوتْ" ليشمل فضاء أوسع، وبعد ذلك، يتغير الإيقاع عبر "فأراني وأنا أتدانى، أسرحُ.. أو أشطحُ.."، حيث تتوالى اللقطات السريعة بين التأمل والانجراف في حالة من التيه الشعري، وأخيراً، في "بين اللاهوتِ وبين الناسوتْ"، يُترك المشهد مفتوحاً، مما يمنح القارئ إحساساً بعدم اليقين، تماماً كما تفعل بعض الأفلام السينمائية عندما تنتهي على مشهد غامض يدفع المشاهد للتفكير في الاحتمالات الممكنة.
بهذه الطريقة، تتحول اللغة إلى سينما شعرية، حيث تتغير الزوايا والمشاهد بسرعة، مما يمنح القارئ إحساساً بالتنقل البصري داخل النص.
اللغة ككيان متحول – بين العشق والتأمل الوجودي
ما يميز (ومضات...كِ) هو تحول اللغة بين العاطفة والصوفية، بين الجسد والروح، بين الحب والتجريد الفلسفي، مما يجعلها نصاً متحركًا يتبدل باستمرار بين مستويات مختلفة من المعنى.
يتضح هذا في المقطع التالي:
"أهزُّكِ إلَيَّا
فيسّاقطُ رطبُكِ جَنِيَّا
وتهزينَنِي إليكِ
فأتدَفَّقُ بين ربوتيكِ، سيلاً شهِيَّا"
في هذا النص، يبدأ المشهد بصورة جسدية حسية تعتمد على الأفعال القوية "أهزُّكِ"، "يسّاقطُ"، "تهزينَنِي"، لكنها لا تبقى في هذا المستوى، بل تتحول إلى طقس صوفي يشبه تجربة الاتحاد الصوفي مع الإله. الاستعارات القرآنية ("فيسّاقطُ رطبُكِ جَنِيَّا") تمنح النص بعداً روحانياً، لكنه يتقاطع مع الرغبة الجسدية، مما يخلق توتراً داخلياً يحرك القارئ بين التجربة الحسية والتجربة الصوفية. هذا التحول يجعل القارئ لا يستطيع تثبيت المعنى في نقطة واحدة، بل يضطر إلى التنقل بين المعاني الممكنة، مما يعكس طبيعة اللغة المتحركة في الديوان.
البناء اللغوي – لغة متغيرة لا تستقر عند معنى واحد
لا تكتفي اللغة في الديوان بوظيفة نقل الأفكار، بل تصبح ذاتها تجربة تتشكل باستمرار، وكأنها كائن يتنفس داخل فضاء من الإيقاعات المتشابكة والتشكيلات البصرية المتناثرة، فالجمل الشعرية تتسم بالحركة، حيث لا تقدم المعنى جاهزاً، بل تتركه معلقاً بين الاحتمالات، مما يجبر القارئ على التفاعل النشط مع النص، نقرأ:
الصوتُ مستقيمٌ. والصدى متكسِّرٌ
أين أنتِ بينهما أيَّتُها اللغةُ الساكنةُ في حنجرةِ الأبدية؟
تتحول اللغة هنا إلى كيان مستقل، لا تستخدم للتعبير عن شيء خارجها، بل تصبح ذاتها موضوعاً للتأمل، فالجملة لا تكتفي بوصف علاقة الصوت بالصدى، بل تسائل اللغة ذاتها، مما يخلق إحساساً بالتجريد الذهني، اللغة في الديوان لا تقدم المعنى كحقيقة جاهزة، بل تدعو القارئ إلى السفر داخلها، وإعادة تشكيلها في كل مرة يقرأ فيها النص، في بعض المقاطع، يتحرر الشاعر من الصورة الحسية، ليدخل في فضاء تجريدي قائم على التأمل الفلسفي نقرأ:
الصوتُ مستقيمٌ. والصدى متكسِّرٌ
هذه الجملة لا تقدم مشهداً بصرياً، بل تجربة ذهنية تتعلق بالعلاقة بين الصوت والصمت، التجريد هنا يفتح المجال أمام القارئ لتأويل المعنى وفقاً لقراءته الخاصة، مما يجعل النص متعدد الطبقات.
التلقي والتأويل – كيف يعيد القارئ تشكيل النص...؟
نصوص (ومضات...كِ) لا تفرض معنى واحداً، بل تترك للقارئ مساحة واسعة للمشاركة في تشكيل الدلالة، إن الطبيعة المتغيرة للغة في الديوان تجعل المعنى يتجدد مع كل قراءة، حيث يعتمد الفهم على الخلفية الثقافية والتجربة الشخصية لكل قارئ، هذا النوع من الكتابة ينتمي إلى ما يسميه الفيلسوف الفرنسي رولان بارت بـ"نص الكاتب" و"نص القارئ"، حيث لا يكون المعنى أحادي الاتجاه، بل متعدد الأوجه، مفتوحاً على احتمالات لا نهائية من التأويل.
قد يراه قارئ معين بوصفه نصاً غنائياً يستند إلى العاطفة والتجربة الذاتية، بينما يراه آخر كبحث فلسفي في طبيعة اللغة والوجود، هذا التعدد في التفسير يعزز من ديناميكية النص، مما يجعله نصاً حياً، لا ينغلق على معنى واحد، بل يظل دائم الحركة، مثل أمواج البحر التي لا تستقر على شكل محدد.
تأثير الديوان في سياق الشعر العربي المعاصر
يمثل ديوان (ومضات...كِ) امتداداً لتجارب الحداثة الشعرية العربية، لكنه في الوقت ذاته يقدم إضافة جديدة تتجاوز الاتجاهات التقليدية في كتابة القصيدة الحديثة. فهو لا يكتفي بالتحرر من الإيقاع الخليلي، بل يعيد التفكير في مفهوم اللغة الشعرية، جاعلاً منها حركة لا نهائية تنبع من الداخل بدل أن تُفرض من الخارج.
يتقاطع هذا الديوان مع تجارب أدونيس في تفكيك المعنى وإعادة تشكيله، كما تتجلى فيه بعض ملامح محمود درويش في التلاعب بالإيقاع الداخلي والفراغات النصية. لكن على الرغم من هذه التقاطعات، فإن تجربة الصائغ تتخذ مساراً مختلفاً من حيث المزج بين التجربة الحسية والتأمل الفلسفي العميق، مما يضعه في سياق أكثر انفتاحًا على تأثيرات عالمية.
على المستوى العالمي، نجد تأثيرات واضحة من تي. إس. إليوت ومالارميه، اللذين استخدما التوزيع البصري والتعدد الصوتي في نصوصهما، مما يجعل الديوان جزءاً من حركة شعرية عالمية تتعامل مع اللغة بوصفها فضاءً ديناميكياً يتجاوز المعنى الأحادي. وفي سياق تطور قصيدة النثر العربية، يضيف الديوان بعداً جديداً لهذه الحركة، إذ يختلف عن تجارب أنسي الحاج ومحمد الماغوط في أنه لا يكتفي بتكسير الوزن، بل يعمل على تفكيك اللغة وإعادة بنائها بطرائق متعددة تتجاوز البعد السردي التقليدي لقصيدة النثر.
الخاتمة
ديوان (ومضات...كِ) ليس مجرد مجموعة شعرية، بل هو عمل فني متعدد الوسائط، حيث تتحول اللغة إلى سيمفونية موسيقية، ولوحة تشكيلية، ومشهد سينمائي، وتجربة فلسفية في آن واحد. القارئ لا يتلقى النص بشكل مباشر، بل يتفاعل معه ويتنقل بين مستوياته المختلفة، مما يجعله نصاً حياً متجدداً في كل قراءة.
بهذا، تصبح اللغة في الديوان كائناً متحركاً، يرفض الجمود، يدعو القارئ للسفر داخله، ويمنحه تجربة أدبية وفنية لا تتكرر بنفس الشكل مرتين. إنها لغة تحيا عبر الحركة، تستمد قوتها من قدرتها على التحول المستمر، وتظل قادرة على إعادة اختراع ذاتها مع كل قراءة جديدة. وإذا كان الشعر دائمًا مرآة للتحولات الفكرية والفنية، فإن (ومضات...كِ) يقدم نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه الشعر في عصر تتداخل فيه الفنون واللغات، حيث لا شيء ثابت، وكل شيء يتحرك .
الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: السبت 28-06-2025 11:33 مساء الزوار: 46 التعليقات: 0
|
|