|
|
||
|
تحليل وقراءة أدبية بقلم الصحفي الشاعر الناقد محمد الوداني لقصيدة "بائع الخبز"
تحليل وقراءة أدبية بقلم الصحفي الشاعر الناقد محمد الوداني لقصيدة "بائع الخبز" للشاعر عبد الرزاق البحري
في قصيدة "بائعة الخبز" للشاعر عبد الرزاق البحري، يختزل الشاعر عالمًا من الألم الإنساني في مشهد صغير، عابر لكنه بالغ التعبير. يُصور فتاة تُدعى "مهى" وهي جالسة على الرصيف، تبيع الخبز في مشهدٍ يحمل من الرمزية ما يفوق بساطته الظاهرة.
"جلست مهى..." بداية تضع القارئ مباشرة في الصورة دون تمهيد، ما يعكس حتمية المشهد وقدره. "فوق الرصيف بخبزها" جملة قصيرة لكنها مكثفة: الرصيف يدل على الهامش، على التهميش، على الفقر. والخبز – وهو رمز الحياة – يتحول هنا إلى وسيلة بقاء لا أكثر. لا رغيف للتقاسم، بل للبيع، من أجل الاستمرار.
"الخريف وشاحها" جملة نابضة بالدلالة الشعرية. الخريف ليس فصلًا فقط، بل رمز لانطفاء الحياة، لتساقط الأحلام، وللذبول الهادئ. عندما يكون الخريف وشاحًا، فهو يغلف الجسد والفكر بمناخ الحزن والانطفاء. وغياب الوجه عن الوجه، أو تشوه الهوية في عبارتي: "لا وجهها في وجهها لا وجهها من وجهها" يدفعنا إلى إدراك أن مهى لم تعد تعرف نفسها. أو ربما لم تعش ما يجعل لها وجهًا، هوية، أو حضورًا فعليًا في هذا العالم. هي صورة تمحو ذاتها في صمت الشارع.
في قوله: "زيتونة سمراء... جائعة... مهى" ينقل الشاعر رمزية عميقة. فالزيتونة رمز للخصب، للسلام، للأرض. ولكنها هنا "جائعة"، كأن الأرض جاعت، كأن السلام بهت، وكأن الخصب نضب. وفي ذلك تناقض صارخ بين ما تمثله الزيتونة وما تعانيه مهى – وكأن الوطن نفسه أصبح جائعًا، ومهمشًا.
ثم يجلسنا الشاعر من جديد أمام هذا الكائن الصغير: "تتأمل الأطفال"، لنتساءل معها "تسأل... عن مهى"، تسأل نفسها عنها، تسأل من تكون، وأين هي من طفولتها؟ من عالم الطفولة الذي تشاهده ولا تشاركه؟ هذا السؤال الوجودي هو ذروة الألم الداخلي في القصيدة، سؤال يُفجر لحظة البكاء: "فبكت... مهى...؟"
تأتي علامة الاستفهام هنا لتجعل البكاء مفتوحًا على احتمالاته، وكأننا لا نعلم إن كانت قد بكت فعلًا، أم أن دموعها كانت صامتة، محتبسة، أو أنها – وهذا أفظع – فقدت حتى القدرة على البكاء.
عبد الرزاق البحري في هذا النص القصير ينحت صورة عميقة للمعاناة الاجتماعية والإنسانية عبر مشهد شعري نقي، مشحون بدلالات الاغتراب والفقد والهامشية. استخدامه للتكرار، وللصور المفتوحة على التأويل، يجعل النص محمّلًا بطاقة وجدانية صامتة لكنها جارحة، تجعلك تقف طويلًا أمام صورة "مهى"... تسأل، من هي مهى؟ بل من نكون نحن؟ الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الجمعة 23-05-2025 06:39 مساء الزوار: 80 التعليقات: 0
|
|