|
|
||
|
قراءة في ديوان لا ريح تنبئ بالمطر لأحمد اللاوندي
أشرف قاسم/ مصر إذا كان لنا أن نضع تعريفاً جديداً للشعر بما يقتضيه العصر فهو الكتف التي يستند عليها الغريب في غربته، والكف التي تمتد لتمسح على رأس يتيم، والبسمة التي تربت على روح الخائف فيطمئن، فالشعر ليس مكملاً غذائياً نتعاطاه ليعوضنا عن نواقص غذائنا، بل هو غذاء أرواحنا، ورفقتنا الودود في وحشة الطريق. في ديوانه الجديد «لا ريح تنبئ بالمطر» يضع أحمد اللاوندي تعريفاً للشعر حين تسأله ابنته: ما القصيدة؟ أقول القصيدة شال أبي بعد عودته من بناء البيوت وأمي التي لا تموت ويعود ليعرف القصيدة قائلاً: القصيدة جند هنالك في الحرب لا يقتلون الصغار ولا يعتدون على حرمة الآخرين ألا والقصيدة نور مبين هذا التماهي مع الشعر هو بوصلة النور إلى قلب المتلقي وروحه، نحن هنا لا نضع تعريفات معلبة جاهزة لماهية الشعر، بل نقول إن الشعر هو الإنسان، هو الرئة التي يتنفس المرء من خلالها. في نصوص هذا الديوان لن تجد إلا ما يدعو إلى الخير والحق والعدل والجمال، ستجد الدعوة إلى المحبة، من خلال كادرات بصرية يصنعها الشاعر بحرفية وتكثيف يحسب له، دون ضجيج أو ثرثرة، ومن خلال لغة طيعة سلسة بعيدة عن التقعر والغلو والغرابة، لغة إنسانية بالدرجة الأولى: يا أيها النيل المسافر في دماء العاشقين وفي دروب الذاكرة حرق خرائطنا الكئيبة قل لنا من أي ناحية سنطلق صرخة كبرى لنخرج من مضيق الجرح والنبض المعنى والضفاف الحائرة؟ هذا الاتساق الواضح بين الذات والآخر هو ما يصبغ نصوص الديوان بالصبغة الإنسانية، فالإنسان لدى احمد اللاوندي هو الحصان الرابح في سباقنا مع الحياة وصراعاتها التي لا تنتهي، حتى لو انهزم أحياناً أمام سطوة الشر وبشاعة الأوضاع، لأنه الكائن الوحيد الذي يحمل داخله سر أسرار الحياة، بمثلها وقيمها العليا التي تنبني عليها حياتنا: جئت بسيفك كي تقتلني لكني جئت بسيفي كي أحميك بهذا الدرب في نصوصه بشكل عام يعلي أحمد اللاوندي من قيمة المحبة، ويضعها على رأس سلسلة القيم العليا التي ينبغي أن نغرسها في مجتمعاتنا، تلك المحبة التي تصنع وشائج بين بني البشر، وتلغي المسافات بينهم، لتقربهم من بعضهم البعض والتي على أساسها نستطيع أن نقيم معمار مجتمع سوي خال من العقد النفسية وبعيد عن الشحناء والبغضاء، قوامه تلك المحبة والتكاتف والتكامل دون النظر إلى الفروق الطبقية أو العرقية التي تشتت ولا تجمع، ومن هنا تتردد مفردة المحبة بصيغها ومرادفاتها المختلفة في ثنايا نصوصه كدعوة إلى الوئام والتصالح والتسامح، فها هو في مرثيته لأبيه يؤكد ذلك فيقول: قد قلت لي: أحبب عدوك واستظل بأصدقائك .. لا تصل متأخراً .. لا لا تشوه بالمدى خطوات من رفضوا خطاك من خلال تلك اللغة العذبة الموحية المباشرة أحياناً يرسم الشاعر لوحاته الإنسانية واضعاً نصب عينيه موروثه الثقافي، وتراثه الشعري تكأة يتكئ عليها في بناء معمار نصه الشعري، ما يدل على عمق ثقافته وتجذرها، وتمسكه بتلك الجذور دون الانسياق خلف دعاوى التغريب التي تفقد نصه الشعري هويته وخصوصيته، إيماناً منه بأن الحداثة في أبهى تجلياتها إنما تأتي من هضم تراثنا والعمل على تطوير النص مبنى ومعنى دون الدخول في تهويمات تشبه الطلاسم، ودون تحميل النص أكثر مما يحتمل من تأويل حتى يستطيع المتلقي أن يتعاطى معه ويتفاعل: «السيف أصدق» سيدي من كل ألوان العتاب ارجم تفاصيل الغياب وفي نصه عن النيل يقول: النيل يرنو في انتظار العائدين هو دائماً يلقي السلام على الأحبة أجمعين فلتدخلوا من أي أبواب المدينة آمنين ولأن الشاعر ابن بيئته يتأثر بها ويؤثر فيها فإننا نرى في نصوصه تجليات القرية والريف المصري في لغته وصوره الشعرية وموضوعاته التي يتناولها، فمن خلال لغته استطاع أن ينقل لنا معالم تلك البيئة، في مفرداته مثل «الشجرة، الثمار، الفرن الطيني، الخبيز، المصاطب، الحارة، حلقات الذكر، الطيور، الطحين، خزائن القمح، .. إلخ» وكأنه يحاول بناء يوتوبيا جديدة بمعاييره الخاصة، يملأها الخير والحب والجمال، يراها بعينيه من خلال قريته الهاجعة في أحضان النيل تسبح لإله الخصب والنماء، وترفل في ثياب الطهر والنقاء في عالم مشوه يرفضه الشاعر ولا يستطيع التكيف معه: أحب شوارع قريتنا والسواقي لما تدور هناك أحب انطفاء المصابيح إلا قليلاً بحي «الدريسة» ويطربني في الصباح غناء الجميلات وسط الحقول وأفرح لما يمر القطار بطيئاً على أهلنا الطيبين وهم يستريحون وقت الظهيرة تحت الشجر هذه لغة بعيدة عن الضجيج والطنطنة، لغة تلتصق بالروح، وتحاور الحواس الخمس بيسر وجلال، دون أن تفقد بريقها وشذاها العطر. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: السبت 28-06-2025 12:53 صباحا الزوار: 35 التعليقات: 0
|
|