عبد الكريم الغازي: قراءة في ديوان “إبحار في الضوء”
عرار:
قراءة في ديوان “إبحار في الضوء”
للشاعرتين:
حبيبة حيواش (المغرب) / سامية بن أحمد (الجزائر)
******
المشهد اللغوي الصوفي و السيكولوجي في “الإبحار”
قراءة:
عبد الكريم الغازي
في ظل الأزمة التي تطغى على المشهد السياسي العربي، يأتي المشهـــد الأدبــي ليفند عقم التواصل المغربي- الجزائري و يُعلنَها مرحلةً متقدمة في الروابط بين البلدين الشقيقين رغم المخاض العسير الذي تعيشه المرحلة الراهنة. هذا التواصل الأدبي يشكل نموذجا مصغرا لعلاقة لم تكن لتُخمَدَ جذوتُها عبثا حتى و إن خمد رمادُها و خفتت شعلتها. و قد تجلى ذلك في ولادة ديوان مشترك بين شاعرتين جمعت بينهما الكلمة الراقية و الحرف البديع و الغوص في قيعان الروح. إنه اشتراك بين الشاعرة المغربية حبيبة حيواش و الشاعرة الجزائرية سامية بن أحمد.
وقد صدر هذا الديوان الشعري حديثا (يناير 2015) عن مطبعة وراقة بلال بالعاصمة العلمية و الروحية فاس تحت عنوان “إبحار في الضوء”، و يقع في اثنتين و ثمانين (82) صفحة من الحجم المتوسط و يتضمن أكثرَ من خمسين (50) قصيدةً تتوزع بين الشاعرتين بشكل تناوبي، و هي قصائد لا يشتكي قصر منها و لا طول. كما تضمن الديوان ترجمات لبعض القصائد.
و قد تَزَيَّنَ الغلاف الخارجي للديوان الشعري بلوحة تتنفس ألوانا و تفيض أضواءً و تفسح مجال التأويل و الربط بين الريشة و الحرف بشكل بديع راقٍ، و اللوحة من عمل الفنانة و الشاعرة السعودية زهور المناديل. و قد قام الأستاذ الباحث الدكتور محمد ربيع بالتقديم للديوان، في حين وضع الشاعر أمجد مجدوب رشيد هذا الديوانَ بين يدي القارئ، إذ سلط الضوء على بعض المقاطع منه للشاعرتين معا، وهي مقاطع ترسم الملامح البارزة التي عليها ينبني العمل الشعري المشترك من لغة و أسلوب و تصوير يغري بشهوة القراءة و السفر في غياهب الضوء.
من خلال عناوين القصائد و مع القراءة الأولية للديوان، تتبدى للقارئ الخطوط العريضة التي تشكل نسقه البنيوي على مستويات متعددة. و من ثَمَّ ارتأتْ هذه القراءة المتواضعة أن تُفرِدَ هذا العملَ الشعريَّ المشترك بـالغوص في “المشهد اللغوي الصوفي و السيكولوجي” و سبر بعض أغواره من خلال شواهد نصية.
بعد نَصَّي التقديم تطالعنا مباشرة “لـذة الفقـد” الموحية بلذةٍ مُنتظَرَةٍ تفتح آفاق التشوق و الانتظار و التأويل، و تُفتِّـقُ شهوةَ القراءة عند المتلقي.. بعدها يُصابُ القارئ بِـ “نـوبة راهب” تعتليه بعد قضاءِ لذةٍ لم تفقدْ شراراتِها إلا في المتن، دون أن تمس مضاعفاتُها الجماليةُ منها شيئا. إن هذه “اللذة” و هذا “الفقد” يجعلان القراء يختلفون بعدهما إلى الإدمان/ “أدمتنــك” لإشفاء الغليل و تضميد آهات الروح المكلومة. إنه الإدمان على الكلمة و القصيدة “الحسناء”التي تتراءى بعدها “شمعةً متوهجةً” في ربيع إنتاجِها الشعري الذي لا يشيخ أو يهرم مع “خريف العمر”. هذا الخريف يرخي بظلال ألوانه الجمالية المختلفة على أجساد النصوص، فأخذ يزركشها بـ“ريشة بيكاسو” الفنية، و يرسم البحرَ في بياضه المتوهج الحالم/ “بياض الموج” و يجعلنا نتحسسُ بين سطوره “صدأَ البحر” في كامل عنفوانه الجمالي.
إن التداخل الأفقي للنصوص الشعرية في “الإبحار” يجسد جمالية الاتساق و الانسجام في خريطة البناء المورفولوجي للديوان، و يكرس بشكل توافقي ضمني مبدا التداخل العمودي للقصائد. و هذه خاصية جمالية قلَّمَا تحضر في بعض الدواوين الشعرية مثلما نراها تحضر في هذا الإنتاج الشعري المشترك. و هي كذلك جمالية تمتد على مساحات القصائد المترابطة فيما بينها عضويا و دلاليا، مما يدلل على قرب الذات الناصّة للشاعرتين من بعضهما البعض و مَتْحِهِمَا من ذات المَعِيـن الصافي.
مع القراءة الأولى للنصوص الشعرية تتمظهر للمتلقي أبعادٌ أسلوبية و فنية متميزة تجعل من “الإبحار” قيمةً لغوية و ثروةً بلاغيةً و كثافةً رمزيةً جديدةً تنضاف إلى المكتبة الأدبية العربية. مع بداية إبحارنا في الضوء يتلقفنا الإشعاع التقابلي الذي يجعل من اللذة سجنا نورانيا تتوله به الذات الشاعرة و تعزف على حبه جدائلَ أيقونةٍ ما كانت لتفارقها:
“حلمي الوردي
زنزانة مقفلة
ما دخلها إنس قبلك
ما زارها جان..”
عبر هذا المقطع الأولي المُنثال أريجا تتبدى طبيعة اللغة الشعرية المستعملة، و تظهر معالم الانطلاق الروحي في تقريب البعيد و فتح المنغلق و تجسيد الغائر الدفين و نقله من الإخفاء إلى الإظهار أمام المتلقي. إنه الحلم الوردي الموحي بالسعادة و الفرحة المنتظرة التي تقاسمنا إياها الذات الشاعرة، غير أنها سعادة مقيدة و زنزانة مُعتَّمَة.. ثم تواصل الشاعرة حبيبة في الوحدة الثالثة:
“لذة الفقد و الخيبات
رتلتها رابعة… الخنساء
آمنة… أسماء
فدوى.. و نازك قبلي…
(…)
مطر مجنون
يسد طرقات الوصل”
بعدها تسافر بنا الشاعرة حبيبة حيواش و تجول عوالم الروح و الكلمة المتبتلة العاشقة المتفردة، زائرة لمتصوفاتٍ و متولهات يشهد تاريخ الكلمة بضلوعهن و جمال متونهن ومنهن نلفي “رابعة” و “آمنة المريني” و “أسماء بنت صقر القاسمي” المطبوعة نصوصها بالجمال الفلسفي و الانطلاق الروحي في ملكوت النور الأعلى و ارتيادها لمجالس الوحدة و مؤانسة الغسق و مناجاة الليل و السحَر و الإرواء من مَعِين الصفاء و النقاء الروحي.
“هو الراهب.. يعتزل التجلي
(…)
عند الشجرة المباركة غرس أصابعه العشرة
أنبتت طلاسم
النوبة تأتيه
هائم في المنتهى
يقطف برتقالة الجسد المنتهى”
إننا إزاء ذاتٍ تتعلق بأعتاب الهمس المتدفق و قد ألبسته لغة شعرية ذات طابع سيكولوجيٍّ صِرفٍ يحرك الوجدان و يسقي الذات الشاعرة من فيوضات التصوف و ينهل من معاجم أهل السلوك و التزكية و مراقبة النفس المرتقية معارجَ الصفاء و الخشوع في محراب الكلمة و الدالة و السطر المفتول سيكولوجيا و المُعتَّق روحانيا. و هو الأمر الذي نجد له حجةً في “أدمنتك”، إذ تخرج الشاعرة “حبيبة” من لهجة الكناية إلى نور التصريح:
“سيدي..
في حضرتك أدمنت كاس الحب
(…)
سيدي
و انت تتخطى مملكتي..
أقرأ سورة الناس
تطهرك
من زلات العين
بعدي..”
إن للشطحات الروحية لوعة، و إن للارتقاء جهد يتطلب راحة القلب و الفؤاد، وهذا ما يطالع المتلقي بعد “الإدمان”، حيث تناوب حرفُ “الإبحار” بين الشاعرتين في أريحية تكاملية و اختلفَ بينهما في اختلاطٍ مُتفرِّق، و تجمَّلَ في تكامُلٍ مُتداخِل، فزمزمَ بين الشاعرتين في صيد الخواطر و لملمة الرقائق و رحلة النفس في شساعة الأفق الكوني، و تصوير الكون في بياض الذات و صفائها، و من ثَمَّ جاء المعجم الشعري عند الشاعرة “سامية” ليشكل في “الحسناء” ارتباطا عضويا و لغويا يثبت و يؤكد طبيعة اللغة المستعملة في الديوان، الشئ الذي أطاح بشكل فني بالفوارق التعبيرية بينهما و كرس الدلالات المركزية التي تؤثث للمشهد اللغوي السيكولوجي الصوفي لكلية النصوص الشعرية. تقول الشاعرة “سامية” في (الحسناء):
في جمال الروح
موت أزرق
تنبهر الاناقة بدفئه
وشاح يتملك القلب
في خجله..
إنه التصريح الممزوج بماء التضمين، و الإشارة و التلميح الذي يغافل الذات الشاعرة و يزج بالمتلقي في غياهب إعادة القراءة للذات الذاتية و الذات الشاعرة. بعدها تقول الشاعرة “سامية” في “خريف العمر”:
“السماء ضوضاء
حشرجة ملبدة
بالصوت المبحوح
المجنون
و نار الغربة
جبال ثلج
لا تنتهي”
إسقاط الكون الواسع (العالم) على الكون الأوسع (الذات) تيمة من تيمات الشاعرة سامية التي تبرز من خلالها سيكولوجية اللغة و مراودتها للمعجم الدلالي الباطني الذي يتحين الفُرصَ للبوح و الهمس. إنه البحث عن لذة الانفجار لتحقيق الرعشة التواصلية بين الروحي/ الفطري و بين المتلقي (بين الأنا / الآخر).
و تستمر رحلة العشق الروحي و قراءات الأنا السيكولوجية بالتناوب عبر أرخبيلات الديوان، فتارة ترقى المتون بالمتلقي إلى العلياء و مداعبة سدرة الصفاء الصوفي، و تارة أخرى تزج به إلى قيعان الجمال الذاتي و تجبره على قراءة الدواخل و المكنونات، فتراه يتقلب بين الظاهر و الباطن، فلا يلبث أن يتراوح بين ارتقاء و صعود و نزول.. إنه الاشتراك الشعري القائم على الدينامية و التوهج الحركي و التفاعل و الانسجام. و إنه السطر الشعري الحائر في باطنه، المتيقن في عليائه، المتمثل للصفاء الأعلى و المؤمن بقضاءٍ مكفول.
من خلال المقاطع المستعرضة سابقا و باستقراء باقي النصوص من خلال معجمها المتحكم في أسلوبية الديوان و بنائه اللغوي نستطيع القول إنه معجم تطغى عليه لمساتُ الانفراد و العزلة و محاسبة الماضي و ترقب المستقبل و مشاكسة الحاضر و مساءلته.. إنه معجمٌ يتلون بألوان الليل و الغسق، بالأسود و الأبيض باعتبارهذه الاخيرين وعاءٌ يحوي كل الألوان بشكل ضمني. و هذا التلوين في المضامين يعكسه بشكل واضح غلاف الديوان الملتهب نورا و لونا من طرف الشاعرة و الفنانة زهور المناديل. الأمر الذي يحيلنا علىه كذلك العنوان “إبحار في الضوء”. حيث إنه يحيل المتلقي على الغوص/ الإبحار في قيعان الضوء/ النور الروحي.
إن أي متلقٍّ يحاول دحض هذا الطرح يستطيع تفنيدَ ذاتِه بذاتِه، و إقناعَ قراءَتَهُ الأفقية/ السطحيةَ بقراءاتِه العمودية/ العميقة للديوان، و ذلك بالوقوف عند الحقل اللغوي المتضمن له الديوان الذي يمتح من مصادرَ صوفية و سيكولوجية لا غبار عليها، و قد تم توظيفها شعريا بشكل متميز و في قوالب فنية حديثة جعلت من قصيدة النثر (عند الشاعرة حبيبة) و الهايكو (عند الشاعرة سامية) لوحة فنية شعرية لا يفقه حديثها إلا من اشتعلت جوانحه حبا للنور و حاول فهم الجوهر في امتداداته المادية، و ملاحقة السر و العلن في أبعادهما الظاهرة و الباطنة.
الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الجمعة 30-09-2016 09:56 مساء
الزوار: 1577 التعليقات: 0