ولا شك أن هذه المساحات العريضة الواسعة تتباين في تضاريسها ومناخها وبيئاتها، وهذا أثّر في التكوين الثقافي والديني والفكري للعرب، ويمكن أن ينظر نظرة أخرى؛ إذ كان هناك ما يسمى «الحضر»، وهم أهل القرى العربية والمراكز الحضارية كاليمن والحيرة ومكة ويثرب والشطائف ويُطلق عليهم «أهل المدر» (البيوت الطينية). وهناك البدو، وهم الذين يسكنون على أطراف الحضر. وهناك الأعراب الذين يسكنون في جوف الصحراء، ويعيشون على مصدر اقتصادي وحيد هو الإبل. ولكل بيئة من هذه البيئات ظروفها التاريخية والجغرافية، لكن ما يجمع هذه العناصر هو ذلك النظام القبلي أو العُرف القبلي الذي ينظم علاقاتهم الداخلية والخارجية.

أما من حيث الامتداد التاريخي فهناك ما يسمى «الجاهلية الأولى» التي لا نعرف عنها كثيراً، لكنها امتازت بنتاجها في فن العمارة، كثمود وعاد وسبأ وحمير ومعين. وهناك ما يسمى «الجاهلية المتأخرة»، وهذه تمتد من مائة وخمسين أو مائتين إلى مجيء الإسلام.
يُلاحَظ من ذلك أنه لم يكن هناك تاريخياً ما يسمى «الأمة العربية» وتفرعاتها من قومية أو عروبة، فقد كانت العرب قبائل لم تتوحد سياسياً في حكومة واحدة جامعة. لقد كانت هناك محاولات في اليمن والحيرة وبلاد الشام، لكنها حكومات أو ممالك لم تَسْعَ لتوحيد العرب بأي وسيلة.
كما أن النتاج الثقافي المادي وُجِدَ في أطراف البلاد العربية في الجاهلية القديمة وتمثل في فن العمارة في صنعاء وعدن وبلاد اليمن، وفي العراق وبترا حيث الأنباط، وهي مظاهر مادية تكشف عن عمق في الرؤية، وتنظيم هندسي متقدم.
وقد وُجد النتاج الثقافي الفكري في قلب البلاد العربية (نجد وما حولها) في الجاهلية المتأخرة قبيل الإسلام، وتمظهر ذلك بالشعر، وهو مظر عقلي عاطفي لغوي مموسق يشف عن عمق في الفكر والخيال، كأنه أُعدّ ليكون الحاضن الأمين للإسلام الذي نهض على معجزة لغوية بامتياز.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن مكونات الثقافة العربية هي:
- الديانات المختلفة من مسيحية ويهودية ووثنية ومجوسية وحنفية، والمظاهر الطبيعية من كواكب ونجوم، ولكل ديانة طقوسها وثقافتها ومعابدها وتاريخها، ولا شك أن التوراة بما فيها من تأريخ والإنجيل بما فيه من قيم أخلاقية كانا محمَّلين ثقافةً ماديةً تخيلية محفزة للنشاط العقلي.
- الرسيس الحضاري الذي تخلل في وجدان العربي بأنه ابن حضارة عريقة أنتجت ممالك بعضها أبيد، وبعضها ظل في الذاكرة؛ لذا نجد الشعراء قبيل الإسلام يرحلون إلى المناذرة في الحيرة والغساسنة في الشام مادحين، وكانون ينظرون إلى هاتين المملكتين نظرة إعجاب ودهشة وتأمل.
- الاختلاط بالأقوام المجاورة من خلال ثلاثة أنماط. الأول: الارتحال إليهم للعمل بالتجارة، وجلب البضاعات من بلادهم برّاً وبحراً. وقد كانت اللطائم الفارسية التي يؤتى بها من بلاد الفرس مشهورة، كما كانت التوابل والسيوف الهندية معروفة في بلاد العرب، وقد أشار القرآن الكريم إلى إيلاف قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام.
والثاني: الحروب التي دارت أيامها بين العرب وبين الفرس، وأشهرها «ذو قار» التي انتصرت فيها بنو شيبان. وقد شهدت أرض العراق مناوشات دائمة بين العرب والفرس، وفي اليمن كانت الحروب مستمرة بين الأحباش والعرب حتى استطاعوا الوصول إلى الكعبة، بيد أن الله سبحانه وتعالى تكفل بردّهم وجعل كيدهم في تضليل.
والنمط الثالث: من خلال الاختلاط والتداخل بين العرب والأمم المجاورة في المناطق الحدودية في البحرين (سواحل الخليج العربي من مسقط إلى البصرة)، وفي أرض العراق وبلاد الشام مع الروم، واليمن مع الأحباش، وبحر القلزم (الأحمر) مع الأقباط في مصر، وقد كان في مكة جالية رومانية وبعض الأفراد كالعبيد والنصار.
- اللغة: فقد تعددت اللهجات بتعدد القبائل العربية، لكنها توحدت على لهجة قريش لغة الشعر الجاهلية التي تنزل بها القرآن الكريم، وقد توحدت العرب على هذه اللهجة بسبب سلطة قريش الدينية والسياسية والاقتصادية. وكان حج البيت العامل الحاسم في ذلك كله.
- الشعر: فقد شكل بلغته وصوره وإيقاعه مصدراً خصباً للثقافة الفكرية والتاريخية واللغوية؛ فالشعر محمل بالموسيقى والمعلومات التاريخية والصور المحفزة للإبداع والتأمل، وظل ذلك الشعر مصدراً لكل الشعراء من بعدُ من حيث اللغة، وقد أنجب العصر الجاهلي فحول الشعراء من أمثال أصحاب المعلقات المشهورة، وقد كان المجتمع العربي آنذاك متلقياً واعياً راوياً لذلك الشعر، فقد قال أحد الشعراء في وصف قصيدته:
ترد المياه فما تزالُ غريبةً /
في القوم بين تمثّل وسماع.
- الحركة الداخلية الدائبة التي تمثلت في حركة القبائل بحثاً عن الماء والكلأ، والقوافل التجارية والحروب الدائمة بين القبائل، وحجّ البيت الذي كانت أغلب القبائل تحرص عليه.
وقد تمثلت مظاهر الثقافة في العصر الجاهلي بما يلي:
- المظاهر المادية، وذلك من خلال العمارة العربية في اليمن والحيرة وبترا، والصناعات المختلفة ومنها الأسلحة والحديد والذهب والفضة والمنسوجات والملابس والسفن وغيرها.
- كثرة الأسواق في بلاد العرب، وهي أسواق تجارية وأدبية ومنها: عكاظ قرب مكة، وبصرى وغزة في الشام، وصنعاء وعدن والحيرة وحضرموت وهي كثيرة متنوعة.
- الشعر والخطب والرسائل والأمثال والحكم، ويبقى الشعر نتاجاً عقلياً يدل على عقل عربي نقرأه ونستمتع به ونتذوقه وندهش لما فيه من لغة انزياحية موحية مستفزة مستنفرة.
- التصوير القرآني للعقل العربي الذي اكتمل نضوجه قبيل الإسلام، واستطاع أن يستوعب هذا الدين ومعجزته اللغوية (القرآن)، وقد وصف القرآن الكريم العرب بأنهم «قوم خصمون» (أي يخاصمون عقلياً)، وقول الله سبحانه وتعالى للرسول: «وجادلهم بالتي هي أحسن»، ودعوته لهم بإعمال العقل والتأمل في آيات الله وفي أنفسهم. وقد استطاع العرب في زمن قصير بناء حضارة عظيمة كان العقل أحد أركانها المتينة.
المصدر : الرأي الاردنية