وقد تكون المفارقة أشد وربما أدعى للطرافة حين يحكم ناقدان على عمل واحد بما يشبه التناقض؛ فينبري أحدهما للحكم عليه بأنه شعر الفكرة، ويصفه الناقد الآخر بأنه شعر صافٍ. وقد يجري الحكم من الناقدين في مكان واحد وزمان واحد وفي موقف واحد، ما يدعو إلى الحيرة بل الدهشة.
إن تعريف الشعر في الأساس يقتضي أن ينطلق في البداية من صفته الأساسية وهو الشعرية، ولن يكون الشعر شعراً إذا خلا من هذه الصفة، والشعر أقرب الأنواع الأدبية إلى الخصائص الجمالية التي تنهض بالحالة الجمالية من دون تفسير أو تعليل أو خلق لحالة ذهنية تُقبل أو تُرفض من اللحظة الأولى، بل هو تجربة تتقطر في اللغة والصورة والإيقاع، وهذه التجربة لا تنفصل بحال عن المعنى الذي يظل الوتر الرئيس في القصيدة، بل هو العمود الذي تنشد إليه أطنابها.
وقد يتوهم بعض القراء أن القصيدة التي تسعى لامتلاك اسمها الحقيقي يجب أن تمعن في نقائها وصفائها بعيداً عن المعنى المتعين في الذهن؛ فكلما ارتحلتْ بعيداً نحو فضاءات أثيرية بعيداً عن الأفكار والمعاني استطاعت أن تحجز لها مكانة في عالم الشعر الصافي النقي المنشود. وأحسب أن هذا من الأوهام الكبيرة التي تلامس أفكار بعض القراء حول معنى الشعر ومفهومه، وكأن الشعر الخالص قادر على أن ينطلق من «كبسولته» الفضائية بعيداً عن الجاذبية في الفراغ الرهيب.
إن الشعر، أيّ شعر، هو مزاج من الفكرة واللغة، وليس من الممكن نزع أيّ منهما عن الأخرى، فهما شيء واحد، وإذا أردنا أن نخفف من غلواء حضور الفكرة في جسد النص فلنقل المعنى أو الدلالة، فليس من الممكن أن ننزع المعنى من السياق اللغوي، وكأننا نقشر ثمرة من مضمونها.
على أن وجود المعنى شيء وطغيان الفكرة أو تقديمها على نحو مباشر شيء آخر، فللشعر لغة خاصة، والبحث عن شعر صافٍ أو لغة صافية أمر ممكن في حال انطلقنا من مسلمات أساسية، وهي أن الشعر لا يحيا باللغة أياً كانت اللغة؛ فالمعنى هو روح الشعر، والتعبير عنه يستدعي اصطناع أدوات الشعرية من لغة وصورة وإيقاع، ويحتاج إلى ثقافة شعرية تجد معادلها الموضوعي في عناصر حداثية مختلفة تناولها الشعراء الأفذاذ في العصر الحديث.
ولعل الحديث عن الشعر الصافي يقود إلى قضايا من مثل المباشرة والغموض، فاقتران الشعر الصافي بالغموض شيء ومعارضة الشعر الصافي بشعر الفكرة شيء آخر، فقد تؤدي الكثافة الشعرية وعمق الصورة وربما بعد آفاقها إلى شيء من الغموض الشفيف أو الأقل شفافية، ولكن الفكرة تظل تغوص في عمق يتراوح في الطبقات التي يستقر فيها أو حولها، لكن خلو الشعر الصافي من الفكرة أمر مشكوك فيه. فالشعر الحقيقي لا يخلو من الفكر الذي يضمن له القيمة الحقيقية التي يكتسب بها الخلود.
فليست الشاعرية نقيض الفكرة؛ فثمة معادلة دقيقة يفهمها على وجهها الصحيح الشعراء والنقاد معاً بين الفكرة والشعرية تتحقق دائماً في شعر كبار الشعراء، إذ إن المحاولات المفتعلة لدى بعض الشعراء لتحطيم العلاقات اللغوية قصداً بغية تنقيتها من المألوف لا يجب أن تجعل الشعراء يبالغون في الحؤولة دون وصول أي معنى إلى القارئ حتى لو ركب لجة التأويل والتفسير، فالشعر يظل في انتظار قارئ يتفاعل معه، ليس بإيحاء اللغة كما يرى الرمزيون، وليس بالدهشة من الإيقاع أو الصورة، بل بما يتأتى من ذلك كله؛ من فكرة عميقة أو مدهشة تتلبس اللغة ولا تنفصل عنها بحال.
المصدر جريدة الرأي