وعزيمة ماضية لإدراك ما يصعب إدراكه ولمِّ شتاته وترتيبِ أوصاله وبلوغ مرماه.
فنحن أمام رواية إشكالية ذات بناء معقّد تقوم على إعادة «مَنْتَجة» لوحة سيرورة الحياة في عهد الانتداب البريطاني لفلسطين واستعمارها، ومقاومة المشروع الصهيوني المدمّر، ورسم الوقائع الغريبة والغرائبية في السيرة الفلسطينية، كما تسعى إلى تمجيد عظمة الإنسان البسيط في مواجهة التحديات العاتية التي نتجت جَرّاء دوّامة التحولات التي أحاطت به، بينما واقعه وحياته نأت عن إدراك مغزى هذه التحولات ومحمولاتها الثقيلة؛ فظل يعيش أوهام ماضيه المتخيل بلا طائل أو نتيجة، رغم ما قدّم من تفانٍ وتضحيات غير مدروسة في سبيل قضيته ودفاعاً عن مصيره.
ومن هذه المتاهة نبعت صعوبة اقتحام أعماق هذه الرواية التي تداخلت فيها الحكايات والوقائع وتشابكت، بحيث بدت ضبابية في معظم الحالات، وأضافت الحبكة المشوشة والمخفية مزيداً من التضليل والغموض، مع أنها لم تمنع الاقتراب من الأهداف المعرفية التي أراد المؤلف توصيلها إلى المتلقي، وذلك لأنه ورغم إفادته من مفاهيم المدرسة الحداثوية القائلة إن الفن أوهام وأساطير، إلا أنه لم يقع في حبائلها ولم يصبح شريكاً في إفراغ الفن من إنسانيته وتأطيره كظاهرة مرضية مغلقة في ذاتها.
لقد ظل يستجمع في صور أبطاله وشخوصه بين القوة المعرفية لأعضاء الحس في ارتباطها بالواقع المادي وبين ما يدور في أذهانها من أوهام وهذيانات، مع أن واقع الشخوص الفعلي يرتقي إلى مستوى الأساطير. ومن هنا كان ارتكازه على عدد من الأساطير المتداولة والمتعلقة بحياة البشر ودروب عيشهم المتكررة. وقد جاء استقراء اللوحة الحياتية ترجمةً ذاتية لإحساس المؤلف بالعالم المحيط، وكان التحليق المختلق يحوم حول الإشكالية المطروحة, ويصّاعد إلى درجة اهتزاز الأفق، وذلك حينما تنغلق على الإنسان الأبواب والنوافذ، ويقبع في زاوية ضيقة أو مغارة نتنة خانقة.
وفي الوقت الذي يسعى فيه إلى الخروج من عنق الزجاجة، والتغلب على أعقد المصادفات، تحل في هذا الحيز المكاني الضيق ساعة التأمل والتفكير التي تتعالق فيها برهة الخلاص والتخلص من الورطة التي يقيم فيها والاشتباك بمجرى الحياة، وفي هذه اللحظات العصيبة تستعيد الصورة خصوصيتها الفنية وتستنطق لغتها المجازية، وتوسّع من محدوديتها لتبتعد عن لغة المنطق، وبهذه الصورة يتحول الإنسان البسيط إلى إنسان خارق وغير عادي.
هذا ما نستحضره في شخص سليم الموسى الذي كان دوماً يكسر الحواجز ويتحدى العقبات الكؤود، وفي تخيلات يوسف الذئب وأفعاله التي ترتقي إلى مستوى الحكايات الأسطورية، وفي اندفاع الصبي إبراهيم وقوة حدوساته، وفي لوحات محمد الظاهر وتصديه للأفكار والطروحات المجانية المجافية لروح العصر.
إن التحام الفعل الخارق بعظمة الإنسان العادي البسيط يكشف مدى فعل القوى الروحية التي يتمتع بها شخوص الرواية، ويسعف المتلقي على تطويع شعرية التناظر، حيث تتبدى حيوات هذه الشخوص أحياناً في بساطتها، وأخرى في قوتها وصلابة شكيمتها وتعدد جوانبها، وتتجلى لوحة الشخوص في متاعبها وتصرفاتها.. في عنفها وقسوتها وكذلك في ضعفها ولينها... أي في واصفاتها الأخلاقية.
لقد جاهد المؤلف في سبيل ربط أفعال الشخوص بالتدبر والتأمل، وهذه هي الطريق التي اختارها المستندة إلى مقولة إن العيش لا يساوي شيئاً إذا افترق عن الهاجس الدافع للفعل والتمرد على واقع الأمر... أي أن معظم شخوص الرواية كانوا على علاقة إبداعية مع واقعهم ومع الحياة كل بقدر فهمه وإدراكه لمغزى هذه الحياة، التي كانت تسير وفق تعددية التوجهات -مع مخلفات المعتقدات الماضية والصراع مع الانتداب والغزو الصهيوني، ومع كل ما كان يعيق حراك الجماهير الشعبية.
وفي ظل هذه التحديات تبدى زخم العواطف والنوازع لدى معظم شخصيات الرواية، وبانت قوة شكيمتهم وعنادهم إلى جانب مصيرهم المأساوي، وجاء تشابك خيوط السياق، وتأصيل السرد ومطّه ليخدم هذه الحالات من الاندهاش أمام هذه المتاهة العمياء، ومع أن بعض المعتقدات حضر لتثبيط الوعي وتقديس الغرابة، إلا أن مجرى الحياة الفعلي علّم الكثيرين منهم عدم التوقف أمام الإخفاقات والمعيقات ولو أدى ذلك إلى الهلاك.
أشاد المؤلف أعمدة روايته على التأريخ لأسرة بنت أمجادها على سفك الدماء؛ فالجد الأول الباني فارس الفينيق الذي كانت الشهوة الدموية تغلي في عروقه، قُتل مسافراً من أجل حطّة، فأُجبر على الهروب من مسقط رأسه، والانتقال إلى مكان آخر في شمال فلسطين قبل اكثر من قرنين، وهناك تناسلت الطائفة الكلبية ذات الأنياب المشرعة والمخالب التي لا أغماد لها، وأضحت ذات سطوة وشأن في المنطقة كلها، وطار صيتها في الآفاق. لكن نجاح المشروع الصهيوني أفقدها عزّها وتألقها؛ فانهارت أحلامها (مثل جبل من الرماد).
حيث مات يوسف الذيب غرقاً في مياه الخليج، غريباً عن وطنه وهو يبحث عن لقمة العيش بعد أن انقطعت أسباب الحياة، وسار محمد الظاهر على خطاه وأُحرق حيّاً، بينما أضاع سليم الموسى عقله بحثاً عن الشيخ الميت بعد أن انهارت جميع مشاريعه، وبدا كمتسول رغم المهابة التي كان يتمتع بها والشجاعة النادرة التي كان يحظى بها، والجرأة في اقتحام المفازات الخطرة وتخطي المواقف الصعبة، أما إبراهيم الحفيد ابن يوسف الذيب آخر السلالة الكلبية الذي شاف كل شيء، وكان يروغ من أعتى المواقف الحرجة، فيصاب بالتبلّد وينضبع.
هكذا سارت الأمور، وفقد المخطوط الذي يحفظ مآثر السلالة وأمجادها أهميته، وأضحى فريسة للحشرات والطيور، حيث عششت فوقه حمامة ضالة من دون أن يثير ذلك أي انتباه أو استغراب، بعد أن ضل الجميع الدرب الصحيح، وانهارت الأحلام الجميلة والآمال العريضة في النصرة من الجيوش العربية. وتشير مسيرة الطائفة إلى أن فقدان العمل الجماعي المنظم والاعتماد على الاجتراحات الفردية، مهما فاقت التصورات، مآلها الإخفاق المريع.
ترجمة حكاية هذه الطائفة الكلبية رواها المؤلف بضمير الغائب، الذي كان يمنح من حين لآخر، في عدد من المواقف، لضمير المتكلم أن ينساق في بث أحلامه ورؤاه بحرية واسعة، وذلك لإرواء الثيمة حقها من الإنارة والتوضيح. وهذا بدوره أفضى إلى أن يشاد السياق على دعامتين أساسيتين: الأولى فعلية ترتكز على الحقائق والوقائع الموضوعية، والأخرى خرافية تقوم على اعتقادات وهمية وتخيلات جامحة واجتراحات خادعة.
في هذين المسارين تتجلى خصوصية الوسائل التعبيرية والتشكيلية التي استعان بها المؤلف لبلوغ مقصده، وإنجاز مهمته، واستكمال عمله بانسجام تام بين أدوات التشكيل وتجسيد الشخوص. عن طريق المسار الأول نتعرف على أدق تفاصيل العيش وأدواته المتنوعة التي تثير معرفة دقائقها وأسمائها الدهشة، والمرور على كارثة التشرد الفلسطيني والنوائب والأرزاء التي أصابت الفلسطيني في صميم الروح والجسد. وعن طريق المسرب الثاني نحتفي بلغة شاعرة تقترب من مناجاة الأرواح، والترنيمات الصوفية المشحونة بنضارة الطبيعة وإيقاع مشاهدها وبكارة الوجود المتعلق بآلهة السماء والأرض... بعل وعناة وموت والإله الواحد الأحد يتفقون جميعاً على الرأفة بالبشر في مواجهة عنف الطبيعة الغادر.
لكن، يحدث ألاّ يستجيب القدر لأصحاب الكرامات، فتفتر الهمم وتتنزّل المحن وتحل الكارثة، كما جرى للشعب الفلسطيني الغافل عما كان يحوكه أرباب ذلك الزمن الرهيب، لأن الفلسطيني افتقد إلى الزنبركات المحركة للفعل المقاوم.
وعلى قاعدة مضمون الرواية تجلى الشكل الذي أطّرها، وألبسها الزي المناسب لهذا المضمون، حيث جرى بناؤها وتعميم مقتضياتها بالارتكاز على منظومة من أدوات التعبير ووسائل التجسيد النابعة من طاقاتها ونواميسها لاحتضان هذه المضمون الذي أراد المؤلف إبلاغه للمتلقي.
رغم بعض التحفظات الجدية على بعض خيوط المسلك السردي، التي أثارت إشارات عدة على وجود غموض في البنية العامة للرواية، وتيهٍ في التفاصيل والحبكة الحائرة، إلا أن الكاتب عرف من أين وممّن تبدأ كتابة الرواية، وتمكّن من اصطفاء الشخوص القادرة على تجسيد روح العصر وإشكالاته، ووضعها في مراكز السرد لنرى من خلالها ملامح المرحلة، وما اكتنف آفاقها من غيوم وضباب، وما رافقها من مآسٍ وخسارات ما تزال آثارها الوخيمة قائمة حتى الآن.