شُرْطَة الأفكَار في الثَّقافَةِ العَرَبيَّة: الخُرُوج مِنَ التَّيه
عرار:
مُحمَّد عبد الفتَّاح حليقاوي لا يَخْفَى، إذا أردنا التَّدقيق في وَاقِعِ تعدُّديَّة الانْتِمَاءَات المُكوِّنَة للهُوِيَّة العَرَبيَّة في ثقافتنا، أنْ نَجِد ازدواجيَّة ثُلاثيَّة تُمثِّل هذه الهُوِيَّة: انتِمَاءٌ للشَّريعَةِ الإسْلَاميَّة والثَّقافَة العَرَبيَّة، وانْتِمَاءٌ مُجْتَمعيٌّ تُحدِّدْهُ القَبيلة أو الطَّائِفَة أو المَكَان، وانتماءٌ للكِيَان السياسيّ، وفي ظلِّ السِّيَادَة النَّظريَّة لمفاهيم الحُريَّة والتشارُكيَّة، وما تتضمَّنه هذه السِّيَادَة مِنْ إمكانيَّة الحِوَار، والاختِلَاف، والمُعَارَضَة، إلَّا أنَّ وجود المُعَارَضة في الواقع السياسيّ والثَّقافيّ العربيّ لم يَكْتَسِب أيَّ صِفَةٍ شَرْعيَّة، وكانَت ظَاهِرَة التَّصْفِيَة هيَ العُنْوَان الأبْرَز لكُلِّ اتجاهٍ يُمثِّل مَوْقِفَاً مُغَايِرَاً للسُّلْطَة السياسيَّة القائمة، حتَّى لو كانَ مِنَ الاتِّجَاه الدِّينيّ أو التجمُّع القَبَليّ أو العَائليّ ذاته، وهذا ما دَفَعَ الدكتور مُحمَّد جابر الأنصاريّ في كتابه:» تكوين العَرَب السياسيّ « أنْ يقول:» مُنْذُ بِدَاية نُشوءِ السُّلْطَة السياسيَّة في الإسْلَام وبعد وفاة الرَّسُولِ عَليه الصَّلاة والسَّلام، كانَ السُّؤَالُ المُتَقَدِّم والمُلحّ: مَنْ يَحْكُم؟، وتأخَّرَ السُّؤَال الأكثر موضوعيَّة وأهميَّة: كيْفَ يكون الحُكْمُ في الدَّوْلَة الجَديدة ؟». وهكذا حَوَّلَتْ «ذاتيَّة» القَبيلة مَسْأَلة الحُكْمِ في تاريخنا الحضاريّ مِنْ مَوْضُوع: الحُكْم وكيْفَ يُؤسَّسْ، إلى «ذاتيَّة» الحَاكِمِين: مَنْ يكونون؟، وانْجَرَفَ الفِكْرُ السياسيُّ والدِّينيُّ العربيّ والإسْلَاميّ في هَذهِ المُفَاضَلَةِ العَقيمةِ التي سَيْطَرَت على العَقْلِ العَرَبيّ حتَّى يومنا هذا، وتَرَاجَعَت بالمُقَابِل قَضَايا الفِكْرِ السياسيّ الأكثر إلْحَاحَاً مثل: بِنَاء الدَّوْلَة، وتَقْنين السُّلْطَة، وتَنْظيم الحُكُومَة، وتحديد أُصُولِ المُشَارَكَةِ السِّياسيَّة، ومِنْ هُنَا، كانَ الخِيَار في واقِعِ الحياة السياسيَّة بيْنَ القَبُولِ بالاسْتِبْدَادِ أو التعرُّض للفِتْنَة، وليْسَ بيْنَ الاسْتِبْدَادِ والحُريَّة، والنَّتيجة العَجيبة لهذا التَّنَاقُض القَاتِل أنَّ تاريخَنا كانَ عِبَارَة عن تَسَابُقٍ تراجيديٍّ بيْنَ بِنَاءٍ حَضَاريّ وصِرَاعٍ سياسيٍّ انتحاريّ، بيْنَ بِنَاءٍ حَضَاريٍّ في العِلْم، والأدَب، والفِكْر، والثَّقَافَة، والفُنون، والعَمَارَة، وصِرَاعٍ انتحاريٍّ في السِّيَاسَةِ، والسُّلْطَة، والدَّوْلَة، والتعدُّدِيَّة. وأَظْهَرُ الأدلَّة على هذا التَّنَاقُض، أنَّه بيْنَمَا كانت الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة تَنْتَشِرُ وتتعمَّق، وحَضَارَتُنَا تنمو وتترسَّخ، والفتوحات الإسلاميّة للبلاد والقلوب تُمثِّل بشكلٍ مُدْهِشٍ أعْظَم وأسْرَع ظَاهِرَة انتشار في تاريخ الإنسانيَّة، بيْنَمَا هَذهِ المُعْجِزَة الحَضَاريَّة تَحْدُث، كانَ الصِّرَاعُ الأهليّ الانتحاريّ يتزايد، ليْسَ فقط بيْنَ التيَّارَات المُخْتَلِفَة وَحْدَهَا، وإنَّما دَاخِل السُّلْطَة القائمة ذاتها، وهو مَا حَدَثَ مع قريش أوَّلاً بيْنَ فُرُوعِهَا المُتعدِّدَة، ثمَّ دَاخِل البيْتِ الأُمَويّ نَفْسه، ولمَّا جَاءَ العَبَّاسيُّون إلى الحُكْمِ كرَّسُوا فِكْرَة التَّعَامُل الدَّمَويّ مع جميع المُعَارضين داخل السُّلْطَة وخارجها، ثمَّ دَخَلَ الأتْرَاك والفُرْس في إطار السُّلْطَة السياسيَّة كيما يُكْمِلوا دَوْرَة العُنْفِ بصورةٍ أشدُّ فَتْكَاً، وظَلَّت هَذهِ الفَوْضَى القَاتِلَة تُحقِّق آثارَها السلبيَّة على الحَيَاة العَرَبيَّة أكثر مِنْ ألْفِ عَام حتَّى أواخِرِ الحُكْمِ العُثْمَانيّ، وهِيَ ذاتُهَا عُمْر التركيبة السياسيَّة التي وَرِثْنَاهَا وتَجَاهَلْنَاهَا وأغْفَلْنَاهَا على الرغم مِنْ مُؤثِّرَاتها الواضِحَة حتَّى يومنا هذا. وعلى الشَّاطِئ ذَاته، فإنَّ التَّفْسير المنطقيّ لِبَقَاءِ واستمرارِ كُلِّ هذا البِنَاء الحَضَاريّ على قَاعِدَة هذا الصِّرَاع السياسيّ الانتحاريّ، ما كَتَبَهُ يَوْمَاً الدكتور مُحمَّد عَمَارَة عن كَوْنِ نِطَاق الدَّوْلَة الإسلاميَّة وآفاق تأثيراتها في تلك الفترات التاريخيَّة لَمْ يَكُن على النَّحو القائم الآنَ في الدَّوْلَة الحَديثة التي نَعيشُ في ظِلَالها الشُّمُوليَّة، كما أنَّ الأُمَّة، ومُؤسَّساتها الأهْلِيَّة، ونُخْبتها الثَّقافيَّة، ومَذَاهبها، ومَدَارسها، وتيَّاراتها الفِكْريَّة ظلَّت خَارِج هَيْمَنَة الدولة نِسْبيَّاً، حيث لَمْ تُعطِّل الانْحِرَافَات السياسيَّة طَاقَات الفِكْرِ والابداع، ذلكم أنَّ الأُمَّة العَرَبيَّة والإسلاميَّة لا الدَّوْلَة الإسلاميَّة هِيَ التي أبْدَعَت حَضَارَتنا وثقافتنا، هذا إلى جَانِبِ حَقيقةٍ أُخْرَى لاحَظَها الدكتور مُحمَّد عابد الجَابريّ وهيَ أنَّ السياسَة تسرَّبت إلى كَثيرٍ مِنْ جَوَانِبِ الفِكْرِ العَرَبيّ والإسلاميّ الدِّينيّ والفَلْسَفيّ ولوَّنَتْهُ بألوانها، ووظَّفتهُ لأغرَاضِهَا، وصَرَفتهُ عن اهتماماتهِ الفِكْريَّة الخَالِصَة، بينما ظلَّ هذا الفِكْرُ السياسيُّ الاجتهاديُّ العَرَبيُّ والإسْلَاميّ ذاته دونَ المستوى المأمولِ في مُعَالَجَةِ القضايا الأساسيَّة التي وَاجَهَت الواقع السِّيَاسيّ للدولة وفِكْرَتها ومُؤسَّسَاتها. من هذا الزاوية التي تُضيئها هذهِ الأنظار تنبثقُ أهميَّة دور المُثقَّف والعَالِم والفقيه في تاريخنا وحَاضِرِنا ومُسْتَقْبلنا، ويَبْرُز الوَعْي القَاتِل بيْنَ اعتداد أبناء هذه النُّخْبَة بقيمتهم الذاتيَّة واضطرارهم إلى التكسُّب بها في سُوقِ السُّلْطَة والخُذْلَان، وعندما يَطْرَح أبو حيَّان التوحيديّ هذا التَّنَاقُض على مُعَاصِرِهِ الفَيْلَسوف مِسْكَويْه يردُّ الأخير قائلاً:» لِمَ طُلِبَتْ الدُّنيا بالعِلْم، والعِلْمُ يَنْهَى عن ذلك، ولِمَ لَمْ يُطْلَبُ العِلْمُ بالدُّنْيَا والعِلْمُ يأمُر بذلك «، وبالتالي يِكْشِفُ أبناء النُّخْبَة المُثقَّفَة عن واقعهم عندما يَنْسَحِبُون مِنْ مُوَاجَهَة الظُلْمِ والجَّهْلِ وإلغَاء الآخَر، وهم يَنْتَظِرُون مِنْ أهْلِ السُّلْطَة والجَّاه أنْ يكونوا مُحْتَاجين إلى عِلْمِهِم ورُؤَاهم، في ذَاتِ الوقت الذي يدَّعون فيهِ لِعْلْمِهِم استقلالاً هُوَ في الحَقيقةِ إلى الوَهْمِ أقْرَب، وأنَّه مَطْلُوبٌ لِذَاته، في حين أنَّه يتمَّ توظيفهُ وسيلةً لِطَرْقِ أبوابِ السُّلْطَة، إذْ كُلَّمَا ارتفعَ صَوْتُ بعض أبناء النُّخْبَة المُثقَّفَة باحتقار الدُّنْيَا ازدادَ في الواقع تَنَافسهم عليها وصِرَاعهم مِنْ أجلها. تأسيساً على ما سَبَق، فإنَّ العَالِمَ والمُفَكِّر يَكْتَشِفَان أنَّ ما اكتَسَبَاه مِنْ مَعَارِف وتجارب لم تَزِدْهُمَا إدْرَاكَاً للواقع، أو عُمْقَاً في تَحليله، ولا قُدْرَةً على تغييرهِ نحو الأفضل، والنَّتيجة الأساسيَّة هِيَ أنَّ هَذهِ النُّخْبَة ليْسَت مُحَاصَرَة فحسب بل تُحَاصِرُ نفسها بمعرفتها وإنتاجها وتجاربها، وهذا الحِصَارُ المَفْرُوضُ عليها هو حِصَارٌ مِنَ المُجْتَمَع لأنَّها بَعيدةٌ عن هُمُومِهِ وقَضَايَاه، وهو حِصَارٌ مِنَ السُّلْطَة بأشكالها لأنَّها تَرْفُضُ العَقْلِيَّة النَّاقِدَة، وبالتَّالي يَجْنَحُ أغْلَبُ العُلَمَاءِ والمُفكِّرين إلى خِيَار التمرُّد السَّلْبيّ مِنْ خِلَال نَقْدِ المُجْتَمَع المُتخلِّف والاسْتِبْدَاد والقَهْر بصورةٍ جَمَاعيَّة، أمَّا خِيَار التمرُّد الإيجابيّ مِنَ خَلَال المَنْهَج والعقليَّة النقديَّة والمُوَاجَهَة ضِدَّ الخطأ مهما كانَ مَصْدَره فهو خِيَارٌ يبدو صَعْبَاً لأنَّ ثقافة مُعْظَم أبناء هَذهِ النُّخْبَة « مُسْتَوْرَدَة « مِنَ خَارِج النَّمُوذَج المَعْرِفيّ الأصيل الذي يَتَمَاهَى مع ثقافتنا وحضارتنا. ولعلَّ ما يَضَع سُؤَالنا – الأمنية في مَسَارهِ القويم، استكمال المُفَارَقَة في حوار التوحيديّ ومِسْكَويه آنفاً، فالتوحيديّ الذي يَعودُ في أُصُولهِ إلى عَامَّة النَّاس الذين يُطْلِقُ عليهم «الرُّعَاع» لم يتوقَّف عند حَدِّ تنكُّرهِ لهم، بل ذَهَبَ كما يرى الدكتور علي أُومليل إلى غايةِ التحريض على أنْ يُحَال بيْنَهم وبيْنَ التعليم ما أمكن، لأنَّ في ذلك تهديداً للسُّلْطَة، فهو لا يتورَّع في كتابه: «الإمتاع والمُؤَانَسَة» عن قول: «لا تُرفِّهوا السَّفَلَة فيعتادوا الكَسَل والرَّاحَة، ولا تُجرِّئُوهم فيطلبوا السَّرَف والشَّغَب، ولا تأذَنُوا لأولادهم في تعلُّم الأدَب فيكونوا لِرَدَاءةِ أُصولهم أَذْهَن وأَغْوَص، وعلى التعلُّم أصْبَر، ولا جَرَمَ فإنَّهم إذا سَادوا في آخِر الأمر خَرَبوا بيوتَ العِلْيَة وأهل الفَضَائل»، وهكذا يُبْعِدُ التوحيديّ عامَّة النَّاس عن السِّيَاسَة والسُّلْطَة، فلا حقَّ لهم فيها، لأنَّه ببساطة طَالَبَ بحرمانهم مِنَ «العِلْم»، ولا يُمْكِن الجَزْم إذا كانت هذه النَّصَائح يتمُّ تطبيقها في مجتمعنا المُعَاصِر حتَّى انحَدَرَ التعليم إلى أدنى دَرَجَاتِه، وتلك قِصَّةٌ أُخْرَى. ثُمَّ يرتدُّ هذا التأثير وبصورةٍ مُغَايِرَة تماماً لِمَنْ تَجَاهلوا المُسْتَقْبَل، بَرَزَ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الدَّارسينَ الذينَ أهْمَلُوا الحَاضِر، واقْتَصَرَت رُؤيتهم على رَبْطِ «المَاضي» بـ»المُسْتَقْبَل»، أمَّا حَاضِرُ الإنسان العَرَبيّ فإنَّه «في حَضْرَةِ الغِيَاب»، ليْسَ لأنَّ هذا الوَاقِع مَرْفُوضٌ وهَجينٌ وَحَسْب، وإنَّما لأنَّ قوَّة المَاضي امتدَّت إلى المُسْتَقْبَل وجَعَلتهُ يَدورُ في فَلَكِه، وربَّمَا كانَ هذا شَكَلٌ مِنَ التَّعويضِ عن الحَاضِر الذي لا نَمْلَك منه سِوَى الهواء، وربَّمَا كانَ ذلك أيْضَاً تضخُّماً للذَّات التي لا تريد الاعتراف بالزَّمانِ الذي تَرَكَها في نِهَايَاتِ القَرْنِ الرَّابِع الهِجْريّ، ولكنَّ المؤكَّد أنَّ الإنسان العَرَبيّ يَحْيَا في مُجْتَمَعٍ استطاع أبناء النُّخْبَةِ السياسيَّة والعِلْميَّة فيه سرقة الشَّريعة والثَّقافة واللغة والجَّامِع والجَّامِعَة، وأصْبَحَ الماضي الذي أعَادَ هؤلاء صِيَاغتهُ بِهَدَفِ الارتكِازِ عليه نحو مشاريع التَّجْديد، أصْبَحَ هذا الماضي هُوَ ذاتهُ مَشْروع التَّجْديد. وبالمُسْتَطَاع أنْ نُؤكِّدَ بأنَّ الازدواجيَّة فَرَضَت نَفْسَها كإحدى مُكوِّنَات العَقْل العَرَبيّ، فثمَّة كما يقولُ الدُّكتور فهمي جَدْعَان في كتابه «أُسُس التقدُّم عند مُفكِّري الإسْلَام»: «تَقَابُلٌ بيْنَ عَقْلِيَّة سَلَفيَّة تُرَاثيَّة ثُبوتيَّة، وعَقْلِيَّة تجديديَّة تحويليَّة، وثمَّة تردُّدٌ بيْنَ المِثَاليَّة والواقعيَّة، المِثاليَّة تَشُدُّ الوَاقِع إلى مِثَالٍ تامٍّ وشَامِل، والواقعيَّة تريدُ احتِوَاءَ التَّغيير والأحْدَاث بإعَادَتِهَا إلى مبادئ عامَّة فقط، وثمَّة تَقَابُلٌ بيْنَ رَادِيكاليَّة لا تَعْرِف إلَّا الحُلُول القُصْوَى والأطْرَاف المُتَفَرِّدَة، وليبراليَّة تَوْفيقيَّة تبحثُ عن الحُلُولِ الوُسْطَى والمَوَاقِف المَرِنَة، والأنكى مِنْ كُلِّ هذا، ظُهُور المُفَارَقَة الكُبْرَى بيْنَ أخلاق «الحَرَج» التي تُوجِّهُ الأنْظَار نحو الهَاوية والخَطيئة والفَسَاد والمَعْصِيَة والإثْم، وأخلاق «الرَّحْمَة» التي تجعل كُلَّ الأخْطَاء مَغْفُورَة»،
ولعلَّ هَذهِ الثُنَائيَّة تَطُولُ قَبْلَ أنْ يُوَاجِهَ الإنسان العَرَبيّ نفسه بسؤالٍ مهزومٍ منذ ألف عام: متى يَغْدُو العَقْل العَرَبيّ وَاضِحَاً وفَاعِلَاً وعِلْميَّاً ونَاقِدَاً في ظِلِّ المُتَنَاقِضَات التي تَسْكُنه بصورةٍ قاسية في مُجْتَمَعٍ لا يَعْرِف القِسْمَة على اثنيْنِ بصورةْ مُطْلَقَة؟ إنَّ أي مَدْخَلٍ لِفَهْمِ وتفسير إشكاليَّة السِّيَاسَة وعلاقتها مع الحُريَّة في تاريخنا الثَّقافيّ، لا بُدَّ أنْ تَبْدَأ بإدرَاك واستيعاب الطَّابع الثُّلاثيّ المُركَّب لأبعاد الانْتِمَاء والوَلَاء والهُويَّة التي شَكَّلت شَخْصيَّة الإنسان العَرَبيّ عَبْرَ العُصُور، ومِنْ أبْرَز الذين عبَّروا عن هذا المُركَّب الدكتور بُرْهَان غَلْيُون في كتابه:» نظام الطائفيّة «، عندما يُشير إلى كَوْنِ الوَطَن العَرَبيّ عَاشَ مُنْذُ الفَتْحِ الإسْلَاميّ في إطَارِ إمبراطوريَّة أو سَلْطَنَة كُبْرَى كانت تضمُّ شُعُوبَاً مُتَعدِّدَة يَرْبِطُ بَيْنَها الوَلَاء للإسْلَام أكثر مِنَ الولاء للدَّوْلَة، وقد وَرِثَت هَذهِ السَّلْطَنَة عَصَبِيَّات قَبَليَّة قويَّة ذات صِلَةٍ وَثيقةٍ بطبيعةِ المُجْتَمَع الرَّعَوي الصَّحْرَاويّ أو الجَبَليّ، ولأنَّ السَّلْطَنَة أيْ الإطار السِّيَاسيّ للجَمَاعَة الوطنيَّة، كانَت تَضُمُّ خَليطَاً مِنَ الأجْنَاسِ والشُّعُوب، فَلَم تَكُنْ قَادِرَة على تقديم أكثر مِنْ مُشَارَكَةٍ وَتَمَاهٍ رَمْزيْين بِهَا ومَعَها، في حين كانَ الانْتِمَاء إلى الجَّمَاعَة المَحليَّة أو العَائليَّة أو الطَّائفيَّة هُوَ التَّعويضُ الرَّئيسُ عن سَطْحيَّة التَّمَاهي مع الدَّوْلَة أو عُمُوميَّته، إنَّ الأُمَّة العَرَبيَّة والإسلاميَّة ولَيْسَ الدَّوْلَة أو السَّلْطَنَة هِيَ مَرْكَزُ الثِّقَل في تَشْكِيلِ الوَعْي العَرَبيّ الجَمَاعيّ في مُحدِّدَاتهِ وتجلِّياته كافَّة. وفي مَلْمَحٍ آخَر، تحوَّل فريقٌ مِنْ أبناء النُّخْبَة السياسيَّة والثَّقَافيَّة الذين انْغَمَسُوا في السُّلْطَة مِنْ حَالَة القِيَادَة، والبِنَاء الحَضَاريّ، وقَبُول الآخَر، إلى شُرْطَة حَقيقيَّة للأفْكَار، تقوم رُؤَاهم واستراتيجيَّاتهم على اسْتِبَاحَةِ جميع مَنْ يُخَالِفُهُم دونَ رَادِعٍ مِنْ شَريعةٍ أو قَانُون، ومِنْ ذلك أنَّ العَرَبَ قَبْل الإسْلَام لم يحاولوا قطّ مُهَاجَمَة مكَّة المُكرَّمَة، أو التعرُّض للكَعْبَة المُشرَّفة، لكنَّ الصِرَاع السياسيّ القَاتِل في الدَّوْلَة الإسلاميَّة وعليها أدَّى إلى قِيَام جَيْش الخِلَافة الأُمَويَّة بضَرْبِ الكَعْبَة بالمَنْجَنيق، واسْتِبَاحَة مَكَّة المُكرَّمَة والمَدينة المُنوَّرة، مِنْ أجل القضاء على حَرَكَة عبد الله بن الزُبَيْر في الحِجَاز، حَدَثَ هذا في صَدْرِ الدَّوْلَة الإسْلَاميَّة تَحْتَ جُنْحِ السِّيَاسَة، وقَبْلَ أنْ يَفْعَل القَرَامِطَة ما فعلوه بالحرم المَكيّ بعد ذلك بقرون، هذا مع أنَّ الأُمَويين هم السُّلْطَة، أمَّا ابنُ الزُّبَيْر والقَرَامِطَة فَهُم المُعَارَضَة، وقد أَفْقَدَ هذا الأمْرُ حَضَارتنا وثقافتنا فُرْصَة بِنَاء نظريَّة سِيَاسيَّة مُحدَّدَة ومُتَكَامِلَة، وإنِّما كانت في مُعْظَم حالاتها تنظيراً، أو تبريراً، أو رَفْضَاً مِثَاليَّاً للسُّلْطَة. وإذا كَانَت الحَقيقة التَّاريخيَّة تُؤكِّد أنَّ العَقْلَ العَرَبيّ المُجرَّد قد تكوَّن إبَّان عَصْرِ التدوين، وهو العَصْر العَبَّاسيّ الأوَّل 334 - 132 هِجْرِيَّة، والذي اشتُهِرَ بأنَّه مَرْحَلَة تبويب العِلْم وتدوينه وإنتاجه، فإنَّ الحَقيقة أيْضَاً تَسْتَلْزِمُ القول بأنَّ هذا العَقْلَ سَيْطَرَت عليه أثْقَالٌ كثيرة مِنَ العَصَبيَّات، والهُرُوب الدينيّ، وسَيْطَرَة الاقتصاد الرَّيْعيّ، وهيَ ثَلاثَة مَفَاتيح يَعْتَقِدُ الدُّكتور مُحمَّد عابد الجابريّ أنَّها كفيلة بِحَلِّ ألغاز الحَضَارة العَرَبيَّة والإسلاميَّة، وقد حَاوَلَ ابنُ خَلْدُون الإشارة إلى تلكم الثُّلاثيَّة في مَقَارَبتهِ لتجربتنا الحَضَاريَّة، ولكنَّ الأمر بعد ابنِ خَلْدُون بِسَبْعَةِ قُرُونٍ يبدو عسيراً جدَّاً علينا، لأنَّ الإنسان العَرَبيّ المُعَاصِر لا يَمْلك سِوَى مِفْتَاح واحد عند دراسة حضارته وهو المِفْتَاح الذي أعطاه إيَّاه سَرِقَة الشَّريعة واستباحة الثَّقافة: الجهل وإلغاء الآخَر. مِنْ هَذهِ الرُّؤَى والخَلْفيَّات التَّاريخيَّة يَرُومُ الإنْسَانُ العَرَبيّ أنْ يَسْتَأنِفَ تجربته مع النُّخْبَة السياسيَّة والثَّقافيَّة التي أطْبَقَت على السُّلْطَة، وظَاهِرٌ أنَّه إرْثٌ مُثْقَلٌ بالإشكاليَّات والتهميش والإقصاء، حيث ما زَالت الحَيْرَة السياسيَّة والثَّقافيَّة تتوزَّع هذا العَرَبيّ بيْنَ انتماءٍ وآخَر، وكأنَّ العمل مِنْ أجل المُسْتَقْبَل قد تجمَّد عند مستوى الحَمَاسَة المعنوية، والتمرُّد اللفظيّ، والرَّفض السَّلْبيّ، أمَّا العمل الثَّقافيّ اليوميّ بوصفهِ استراتيجيَّة بِنَاء، ومَسيرة وَعْي، وقَبول للآخَر، فما زالَ شِبْه غَائِبٍ عن الإنسان العَرَبيّ المُعَاصِر الذي تُطَارِدُه شُرْطَة الأفكار وتَحْرِمُه مِنَ التفكيرِ بالإجَابَةِ عن السُّؤَالِ المَهْزُوم تاريخيَّاً: كيف الحُريَّة في الثَّقافة والدَّوْلة، والثَّقافة والدَّوْلَة بالحُريَّة؟
جريدة الدستور ردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-10-2024 07:05 مساء
الزوار: 108 التعليقات: 0