وترسيم دقيق للمشاعر العاطفية المبثوثة في ثناياها، بحس تأملي عاطفي يستغرق الصور، بإيحاءات تعبّر عن الباطن الشعوري، كما في المجموعة القصصية «هذيان ميت» للقاص والناقد زياد أبو لبن.
ويبدو لنا أن هذه القصص تنطوي على التحفيز العاطفي الشمولي، والبراعة النسقية التصويرية، بحنكة تجسيدية تعتمد الابتكارات التصويرية ومزاوجاتها الصوتية ميداناً خصباً لتفعيل إيقاعها الحسي الشعوري، كما في قصة «قبل عشرين عاماً»: «كانت كرات البصل تسقط من فوق أسطح العمارات، وكان الأطفال والعجائز يلقون بها إلى المتظاهرين كي تمسح دموعهم وتخفف اختناقاتهم» (ص 9).
إن الفن القصصي الشوري لا يقف على دلالات اللغة الوضعية، بل إنه يقوم بعملية خلق جديد للأشياء، معتمداً على تركيباته اللغوية، إذ يبتعد عن فكرة البعد الواحد، فنستطيع أن نرى أبعاداً متعددة تلوح من خلال القصة، وعلى ذلك، فاللغة في القصة تعتمد على شفاهية حدسية، وعلى لمعان خاطف يتموج خلف الكلمات. ومن هنا ندرك أنَّ القصة لا تحتمل معنى محدَّداً، بل إن معانيها تتخلق في السياق العام: «لا يعرف من أين جاءوا جميعاً، نظرت إليه في ارتياب مدهش، ظنّت أنه أصيب بشيء، عادت معه سريعاً، وقال لها: الآن أدركت لماذا نحن شعب الهزيمة؟!» (ص 10).
قارئ هذا المقطع القصصي، عليه أن يتبنى فكرة الاحتمالات في نظرته بعمق إلى داخل الأشياء، ليستشف أسرارها، ويستكشف غاياتها المجهولة حيث يعتمد البناء اللغوي للقصة على شفافية حدسية لدى المتلقي أيضاً، إذ طرحت القصة موقف الرصد الآلي للأشياء، وفيها استكشاف متوتر يتجاوز السطح الخارجي وحدود المسلمات اللغوية والمضامين الجاهزة، للقبض على عصب الوجود في علاقته بالذات.
ويُعد التلاعب النسقي من أبرز مثيرات القصص الحداثية. وقد امتازت قصة «بيت آخر»، بقوتها النسقية، وحرصها على خلق نسق قصصي متآلف، يفاعل الصور الجزئية في مسارها النصي: «فقد يتنقل من بيت إلى بيت، كالقطة التي تنقل أولادها الصغار، هذا ما كان يظنّه، فقد ألف تلك القطة التي جاءته عمياء فأبصرت الرحيل، بيت حلم به منذ الصغر، ورسمه عندما تلاقت يداه مع يد فاطمة» (ص 15).
إن ما يثيرنا في هذا المقطع القصصي، تلوين النسق القصصي بالتشكيلات المراوغة التي تخفي حركة نسقية تفاعلية، تعزز إيقاع القص، وتسهم في بث الإيقاع الاجتماعي، واللافت أن القاص يعتمد التشكيلات الاجتماعية التي تباغت القارئ بمنحاها الاجتماعي وحسها التأملي وصورها الصوتية الإيقاعية العالية. هذا النسق الاجتماعي الانسيابي يمتاز بتآلف اجتماعي، وانسياب صوري جماليّ يدل على ترسيم شعوري، وتكثيف إيقاعي فاعل على المستويات كلها.
يعتمد القاص المثيرات التصويرية التي تمازج بين الانساق الاجتماعية المتضادة، لتفصيل مثيرات الصورة، وبث حركتها الدلالية، بإيقاع عاطفي خصب: «كثيرون من وقفوا إلى جانبه، وظن أن المحبين أكثر إخلاصاً من الغرباء، لكنه لم يفاجأ بالأمر، فقد جرب الحب كثيراً وفشل أكثر من تجاربه، بل أكثر من مغامراته الضائعة» (ص 15).
المشهد العاطفي المبثوث في هذه اللوحة القصصية، يشي بجو تشكيلي غزلي للحياة، يبث إيحاءات المشهد بكثافة شعورية، وإيحاء قصصي عميق من خلال تبلور الأنساق القصصية وتفعيلها في حيزات نسقية متماوجة تشي بالعمق والتفعيل الشعوري، كما في المقطع التالي: «كي يغادر الدنيا إلى عالم كان يسكنه ما بين الشك واليقين، بكى طويلاً وسار نحو مغيب الشمس، وصورة فاطمة وأولادها الثلاثة ترتسم على أفق بعيد» (ص 17).
كأن أبو لبن يدفعنا للقول: ماذا سيبقى في حدائق صمتنا الفضيّ؟ ماذا بعد أن رحل الكلام؟ وهكذا تؤدي المتقابلات الاجتماعية من خلال ثنائية المتضادات دوراً تحفيزياً في إثارة المشاهد القصصية المشتملة على نسيج صوري اجتماعي ينساب مع رنين الكلمات وإيحائها الاجتماعي.
يلعب القاص دور المحرك الفني، في تحريك الصور القصصية إيقاعياً ودلالياً ونبضاً شعورياً جمالياً، يرسم منعرجات الذات وتأملاتها بأنساق اجتماعية تشكيلية مفاجئة، كما جاء في قصة «الأوغاد أيضاً»: «ما يزال يذكرها وهي تقرأ المقالات الهجومية، ويزداد غيظاً أكثر، زاد من كرة البصاق بدفعة ثانية تتشكل في سقف حلقه» (ص 28).
يفاجئنا القاص بالأنساق الصورية الاجتماعية المبتكرة، التي يعزز فيها إيحاءات الجملة، فالكلمة القصصية في هذه التراكيب ليست غائبة الدلالة أو محدودة المداليل، وإنما هي ذات فاعلية قصوى في توصيف الحالة الشعورية، وتعميق محفزاتها الداخلية التي ترصد وجع الذات وأنينها واحتراقها: «سار باتجاه بوابة الجامعة، وهو مطاطئ الرأس، كان الباب الحديدي قائماً، فجأة ظهرت أمامه، احمرّ وجهه خجلاً، نظرت إليه لأوّل مرة بطرفة عين خضراء، وقالت: وغد» (ص 29).
وينحو القاص إلى الإيقاع السريالي في الصورة القصصية النصية، التي تشي بتكثيف النسق السردي الممنطق بالصور الكابوسية المرعبة بجو مأزوم يعج بالضبابية والغيوم السوداء القاتمة، وهذا الأسلوب يشي بتأزم اغترابي يرصد الحالة الراهنة التي يعيشها القاص إزاء ما يحدث أمامه من أحداث ومفاجآت وجودية مؤلمة كما في قصته «الصعود إلى أسفل»: «قال وهو يطوي ورقة وجدها في جيبه مكتوباً عليها: (أنت ميت منذ ألف عام وعام). (نعم أنا ميت)، وتنهد، ثم قال: (هذه وثيق تثبت موتي)» (ص 39).
إن الإيقاع السريالي في الصور الاجتماعية السردية، يلون حركة النسق القصصي تلويناتٍ ممزوجة بإيقاع عبثي مشوب بالصور الكابوسية المرعبة والإحساس بالاغتراب، فالموت ليس كما الموت الذي نعرفه برائحته السوداء، إنه رائحة الخراب واليباب.. والعام ليس عاماً خصباً وديعاً مع أحلام القاص وأمنياته، وإنما هو زمن كابوسي خانق يجري إلى التية والضياع.. فالزمن خائف مرتبك يضج بالقلق والتنافر، وهنا تصبح الكلمات مطاردة في حلق القاص تغص بالألم والعقم والتصحر الوجودي.
هذه القصص ليست ترنيمة للقارئ، وإنما هي قصص ذهنية تأملية استغراقية في باطن الأشياء. فالقصص الحقيقية هي التي تقوم على رؤى تخييلية عميق تستطبن الداخل أكثر مما تستبطن الخارج، وهذا ما عمل عليه أبو لبن في «هذيان ميت».

عن الرأي