عرار:

" الذئاب تصلي" كتاب ناصع على جبين الأدب ، ينثر الجمال في أروقة المعاني ويرقص الكلام على أنغام المحبة. وقد امتاز بسهولة وسلاسة في التعبير فكل قارىء له يحسّ بأنه وجد واحة سكونٍ وتشخيصٍ رمزي لتطلعاته المترفعّة. إنه كتاب حكم وعِبَرٍ وفلسفة وعلم نفس ، تعابيره العميقة تلامس عمق البحار، نتلقاها على خلاف الكلام التقليدي، فتمنحنا إحساسًا جاذبًا ينبش قسمات وجوهنا المتعبة العاكسة لمرآة الواقع.
غرّد الرحباني الموسيقى في محرابه وأتقن فن الكتابة الهادفة التي حملت أسمى المعاني في طيّات حروفها ، فحضّ النفس على العطاء بأقصى قواها دون تردد أو خمول.
وقدعالج الكاتب عذابات الانسانية التي حفرت في الوجدان بعمق أخاديد الحزن النبيل، وتعمّق في وصف الله فقال : "حتى لو لم يكن الله موجودًا وجب علينا إيجاده ، فإننا نحصّنه أولا أمام المعرفة الآتية والاكتشافات المذهلة النائمة في أدراج عباقرة الكون، وثانيًا بانصهار المفهوم الإلهي وانصهار المفهوم العلمي . فالله هو المعرفة ، والمحبة ، والفرح ، والغفران والشمولية المطلقة...
وأجزل الرحباني في وصف الموسيقى وتأثيرها في اللاوعي ، فهي لا تعادلها أية معادلة في تركيبة الكون. وقال في نصّه الذي يحمل عنوان (الغربة بين المؤلف الموسيقي والإنسان): "إن باب جهنم هو أهم بكثير من هؤلاء الذين يسكنون الجهل وسطحية الحياة. ورأى أن سرّ الموسيقى من سرّ الوجود ، فالله والموسيقى توأمان ؛ كما أكّد بعد قراءآت وأقوال لعظماء في التاريخ وبعد خمسين سنة من التأمّل ، أنه ليس من أحد استطاع دخول ملكوت الموسيقى".
" الذئاب تصلي" يأخذنا هذا العنوان الى أسئلة فلسفية تبحث في عمق الانسان وعلاقته بخالقه. وقد تجاوز الرحباني نفسه وحلّق الى سماء الشفافية حين قال في نصه (رحلة الى الماضي):"أخذت ساعة يدي ورحت أعيد عقاربها الى الوراء محاولا الخروج من الزمن الحاضر ، باحثًا عن حنين المطارح التي لا تفارقني، ولكنني أحسست أن لحظة الوجود العظيمة هي الحاضر، فوجدت أن الحنين هنا ، والطفولة هنا، والحقيقة حيث أنا".
وقد أبدع الكاتب في التعبير عن مدى سخطه للأداء الاميركي وتأثيره السلبي على العالم بأسره . كتب رسالة عتب ولوم لأميركا العظيمة التي طالما أحبها كما أحبتها كل شعوب الأرض ، فقابلت هذا الحب بالكراهية والنكران ؛ ووصفها بالخاسرة وبأنها بلا تاريخ ولا حضارة عريقة ، تستلذ بالحروب والمذابح البشرية.
وتنقّل الرحباني بحِرَفية وسلاسة عبر الزمن الميكانيكي ، وأجرى حوارًا شيّقًا بينه وبين حذاء جلدي مريح، فتفرّد بفكرة طريفة لا تخلو من الغرابة ولكنها تلامس عمق المشاعر الانسانية، وتجعلنا نفكر مليًا في الشيطان الذي يسكننا ويوجّه خطواتنا.
الياس الرحباني، شعلة منيرة خرجت عن الزمن لتبقى ضوءًا ساطعًا في حصن إنسانيّ منيع. نستنبط من كتابه هذا ثورته على الشر الكامن في النفوس البشرية ، وسعيه الحثيث عبر دلالات رمزية الى البحث في عمق الانسان وحثّه على إيجاد نور الله في قلبه، مستخدمًا كلمات نارية زاخرة بالايمان ، مفعمة بالمحبة، تشق طريقًا راقيًا الى مواكب الحرية.
وقد اتكأ الكاتب على عصا الحروف وانكبّ على هموم الناس، فسكب الجمال في قوارير الطيب وفاح عطر كلماته شهيًا بهيًا، ينشد أنشودة الحكمة والإبداع. 
"الذئاب تصلي" كتاب مختلف ، يسهل فهمه ويصعب تقليده، جعلنا نحلق في عالم الصفاء لنتنفّس الصعداء في سمو خواطره. 
الياس الرحباني، لم تأتِ صدفة الى هذا الكون ، أيها العملاق فنًا وأدبًا ، أنت فارسنا المجلّي، ولبنان يفخر بك ، فالى مزيدٍ من الإبداع..!