|
عرار:
خديجة مسروق/ الجزائر الكتابة تذكرة عبور إلى قلوب القراء، بواسطتها يخرج الكاتب من دهاليز الصمت ليباشر مهمته التي خلق لأجلها، وهي التعبير عن أوجاع الناس، وتصوير الآلام التي تنهب أرواحهم في هذا العالم المليء بالوحشة. الروائي قاسم توفيق أراد من خلال روايته ليلة واحدة تكفي الصادرة العام 2022 عن دار (الآن ناشرون وموزعون)، أن ينقل للقارئ صورة عن القلق الوجودي الذي يعتري الإنسان العربي في العصر الحديث. نحن لا نعرف ماذا نحب وماذا نكره، وما الذي نريده من الحياة. قاسم توفيق اختار لروايته شخصيات قلقة، تمضي في البحث عن أناها وسط هذا العالم الموحش. فالقلق كما تقول الرواية حالة ملازمة للبشر في كل ما يفعلونه، ولولاه لما أنجز الإنسان شيئا في حياته. زمن الرواية ليلة واحدة تصادفت مع اندلاع حرب 67. ومكان الحدث الرئيس حانة الريفيرا بعمان بالقرب من مقر السفارة الأمريكية. شخصيتان رئيستان تصنع الحدث الروائي. شخصية وجدان وشخصية ذيب، كلاهما من أصل فلسطيني. ليلة واحدة كانت كافية للروائي بأن يصف الوضع السياسي والأمني في المنطقة العربية آنذاك، وينقل صورة عن حالة القلق التي تعتري شخصيات الرواية. ويلامس مشاعر شخصيتي وجدان وذيب وينقل تفاصيل حياتهما. وجدان من عائلة فلسطينية كانت هاجرت خلال الحرب على فلسطين إلى عمان وهي طفلة صغيرة. تحطمت أحلامها بموت والدها، ولم يعد بإمكانها تحقيق رغبتها في الدراسة بمصر بسبب وضعهم المادي والاجتماعي السيء. كانت والدتها قابلة قانونية. مختصة في توليد النساء تسكن إحدى قرى عمان. استأنست وجدان لعمل أمها التي أصبحت تعرفه جيدا. من خلال ملازمتها لها وهي تقوم بعملها. لما كبرت توظفت كممرضة في أحد مستشفيات الولادات بعمان. وجدان عاشت قصة حبّ جميلة مع شاب يدعى عيسى من عمان، كان يعمل أستاذا مدرسا بالكويت. يلتقيان في العطل الموسمية. لا ينقطعان عن التراسل حين يعود عيسى لعمله بالكويت. وفي أحد الأيام يأتيها صديقا له ليخبرها بموته ويسلمها رسالة أخيرة من عيسى. وقع الصدمة على وجدان كان قاسيا. مات حبيبها وتركها تعاني عشقها الذي لم يمت. تعجز على تخطي أزمتها. ركن قلبها وعقلها لآلام الذكرى. وجدان تقتل وقتها في مستشفى الولادات. كل يوم يتكرر أمامها مشهد الميلاد. بكاء المواليد، وصراخ النساء اللواتي يتألمن من وجع المخاض، أوامر الأطباء وضجيج المستشفى، كل هاته الأشياء ملأت قلبها فانطأ، ولم يبق لديها مكانا لوجدانها. في ليلة الخامس من حزيران 67 كانت وجدان في طريقها إلى البيت بعد انتهائها من دوام العمل. كان المكان بالخارج ممتلئا بالانفجارات التي تصدرها طائرات العدو المحلقة على سماء عمان. في تلك الليلة يشهد العالم العربي حرب النكسة. تدخل وجدان حانة الريفيرا. تجد ذيب الذي يعمل بالخمارة يستقبلها كعادته بابتسامته المتصنعة. تقضي تلك الليلة بالخمارة لأن حظر التجول كان قائما، ولا تجد مخرجا يوصلها إلى البيت. لم تشغل نفسها بما يجري في الخارج من انفجارات ولا بما كان يقوله لها ذيب عن اندلاع الحرب. وجدان كانت تأتي إلى الحانة لتلتقط لحظة فرح في زمن مفقود. المترددون على الحانة يبحثون داخلها عن لحظة فرح، يجدونها في كؤوس الخمر التي تنسيهم وجع الحياة. وجدان رغم الوجع الذي بداخلها لم تنكسر، عصية عن الاستسلام للفشل. مثقفة مولعة بالسؤال، كانت كلما مدت يدها لتحمل مولودا جديدا تفكر بمسألة الخلق، وكيف يتشكل الطفل نطفة في رحم الأم، ثم ينمو ويخرج للوجود، كل ذلك لحكمة سامية. تبدي استغرابها من أولائك الذين لا يملكون الإرادة. أولئك الذين هاجروا أحلامهم، استسلموا لليأس وفضلوا العيش على هامش الحياة. شخصية ذيب الشاب الذي هاجر إلى بيروت، ثم عاد إلى عمان ليعمل بخمارة الريفيرا. كان جديا في معاملته للآخرين. يضع حاجزا بينه وبين زبائنه، يوزع عليهم ابتسامته الكاذبة في صمت. يقرأ كثيرا ويتكلم قليلا. يتخذ من خلف جدار الريفيرا مكانا يركن فيه حين ينتهي من عمله. عاش ثلاث مراحل من حياته. سماها الروائي العمر الأول وهو مرحلة الطفولة التي عرف فيها ذيب أنواع البؤس، والعمر الثاني متعلق بولوجه مرحلة الشباب وخيبته في الحياة، عمل خلالها قهوجي بعد وفاة والدته ووالده. والعمر الثالث يتعلق برحيله إلى بيروت والتعرف إلى السيدة جوزيت، العجوز الخبيرة بالحياة التي أخذ عنها حب القراءة، وتعلم منها الحكمة والقوة في مواجهة صعاب الحياة. وكم تمنى أن يقبض على تلك المرحلة، لكنه عاد إلى عمان ليبدأ عمرا جديدا يمكن القول بأنه العمر الناضج في حياة ذيب. ذيب لا يعترف بالأحلام، الغرق في الأحلام بالنسبة له استسلام للوهم. تعلم من زبائنه الذين يترددون على الحانة أن نشوة شارب الخمر لا تكتمل بما يشربه بل بما يرسمه في ذاته من عوالم يجملها الخمر. أما هو فيشرب قليلا ليظل على وعي بحقيقة عالمه بكل ما يحمله من بؤس. مقتنع بحياته ‹ لا يتطلع بأن يكون مكان هذا أو ذاك.. جرب في يوما من الأيام أن يحلم مثلما يفعل الناس لكنه فشل. لأنه حاول البحث عن بشر تحققت أحلامهم فتوصل إلى أنها عصية على التحقق فتوقف عن الحلم. في ليلة الخامس من حزيران التي شهدت نكسة 67 كانت ليلة تختلف عن بقية لياليه، أخرجت ذيب من صمته. استطاعت وجدان بذكاء الأنثى أن تدخل إلى أعماقه وتحرره من سجن الصمت الذي أعتق ذاته فيه مدة طويلة. فقد كان يضع حاجزا بينه وبين الآخرين، لا يسمح لأحد بالاقتراب من حياته أو النبش في تفاصيلها. وجدان في تلك الليلة استطاعت تعريته. انزلق لسانه وكشف لها عن تفاصيل حيواته التي لم يلتق فيها بلحظة من السعادة. وجدان وذيب في تلك الليلة تقاسما وحشة المكان الذي جمعهما. أخرجهما الحدث من صمتهما. اكتشفا بأنهما يتشابهان في الجرج، يتحسسان لحظات الفرح في كأس الشراب. ويختلفان في فلسفتهما للحياة. وجدان تسخر من الذين تخلوا عن أحلامهم، وذيب لا يؤمن بالأحلام ويرفض الخضوع لها، أو لأي شيء يمكن أن يسلب منه إرادته. فذائقة الجمال مثل ايراها تخصه وحده، لا يرضى بأي ذائقة وضعها الآخرون. فالناس اقتنعوا بما جمّله غيرهم فرضوا به، وسمحوا لذائقتهم للخضوع لذائقة ليست من صنعهم. ذيب استطاع أن يبقي على ذائقته التي تخصه. وجدان اكتشفت أنها تتحاور مع فيلسوف، وليس مع ذيب الذي كان يقضي يومه صامتا وكأنه لا يعرف من الحياة غير توزيع شراب الخمر على الزبائن. ليلة واحدة كانت كافية، عرض فيها ذيب شريط ذكرياته، وتصفح دروسه التي تعلمها من الحياة. ذيب مقتنع بحياته يحبها بكل ما فيها ‹ أحب حياتي بكل ما فيها، على الرغم من أني نادم عليها، ما بين هذا الحب والندم تقبع مأساتي، حياتي لم لم تكن سيئة لكنها خذلتني ‹ الرواية رغم قصر زمن الرواية إلا أن قاسم توفيق استطاع أن يتوسع في الحدث الروائي. وصف أجواء ليلة النكسة، والحديث عن حياة شخصياته والاقتراب من مشاعرهم. ليلة واحدة تكفي هي رواية الخيبات، رواية عن الجرح العربي تعود بالقارئ للزمن الماضي. التقط فيها الروائي الحدث وصاغه بسردية باذخة. يمكن القول إن حياة ذيب ووجدان التي تتصف بالقلق والضياع ماهي إلا وصف لحالة الإنسان العربي الممزق بوحشية الحرب، هذا الإنسان المشتت الذي يبحث عن لحظة فرح تضخ في وريده جرعة أمل. واختياره وظيفة الممرضة في مسشتشفى الولادات لشخصية وجدان كان عن ذكاء. فمستشفى الولادات يشهد كل يوم ميلاد طفل أو أطفال جدد، والطفل رمز الحياة، ومع ميلاد كل طفل جديد يلوح الأمل بعودة الحياة.. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 12-06-2023 08:30 مساء
الزوار: 346 التعليقات: 0
|