ما النقد؟ ولماذا ننقد؟ وكيف ننقد؟ هذه هي الأسئلة الرئيسية التي يمكن في ضوء الإجابة عنها، أن نحكم على مشروع الناقد بأنه ذاتي أناني أو أنه غيري تنويري؛ فلم يعد سرًا القول بأن الممارسة النقدية بوصفها فعلًا إبداعيًا متقدمًا، تمثّل شكلًا من أشكال تحويل المعرفة إلى قوة، ثم تحويل القوة إلى سلطة، ثم تحويل السلطة إلى خطاب معنوي ومادي، له آلياته وأدواته وسلوكيّاته وتجليّاته. وبهذا المعنى فإن الممارسة النقدية؛ إما أن تكون فعلًا نرجسيًا مشغولًا بتأمل الذات في مرآة الذات، وإما أن تكون فعلًا تنويريًا تواصليًا مدفوعًا بالرغبة في تعليم الآخرين وتثقيفهم ومحاورتهم. ولن أجانب الصواب إذا زعمت بأن أحد أبرز أسباب انغلاق الخطابات النقدية العربية المعاصرة، يتمثل في التراجع المؤسف للدافع التنويري، وإلى الحد الذي يمكنني الزعم معه أيضًا، بأن المتلقي في المدوّنة النقدية العربية المعاصرة قد حُكم عليه بالموت، جرّاء إصرار كثير من النقاد العرب على محاورة أنفسهم بدلًا من محاورة القارئ، وعلى استعراض ما يعرفون بدلًا من العمل على استطلاع ما يحتاج القارئ إلى معرفته، وعلى القفز إلى النتائج والاستطراد في بسطها وتحليلها قبل إنضاج المقدمات. وأما بخصوص التعيّش على فُتات الخطابات النقدية الغربية، واختطاف ما يمكن اختطافه من مصطلحاتها ثم علكها بلا كلل أو ملل، دون الاعتناء بالسياقات الموضوعية التي أفرزت هذه المصطلحات؛ فحدّث ولا حرج! هذه مقدمة ضرورة لإدراك قيمة المنجز النقدي التنويري الذي اضطلع به الناقد الدكتور شكري الماضي في كتابه الموسوعي (مناهج النقد الأدبي؛ مقدمات ونصوص وتطبيقات)، الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مؤخّرًا، في (455) صفحة من القطع الكبير. وعلى نحو يذكّرنا بالجهود النقدية التنويرية لنّقاد أعلام مثل الدكتور إحسان عبّاس في كتابه الموسوعي (تاريخ النقد الأدبي عند العرب). مع ذلك؛ فما زلنا نسمع من يقول: وما وجه الصعوبة أو التميّز في أن تضع كتابًا في تاريخ النقد العربي القديم أو في تاريخ الأدب العربي أو في مناهج النقد الأدبي الحديث؟ ولو غامرتَ وطلبتَ منه – على سبيل المثال لا الحصر – إنجاز بحث واحد فقط في حقل الأسلوبية لرأيت العَجب العُجاب! وخلافًا لما قد يتوقعه القارئ الذي اعتاد العروض الأفقية للنصوص الإبداعية والجهود النقدية، فسوف أعمد لتقديم ومراجعة وتقييم مُنجز الدكتور شكري الماضي (مناهج النقد الأدبي)، وفق المنهجية النقدية التي اتبعها هو في هذا الكتاب. وهي منهجية (المخطّط التنفيذي العمودي) التي ما زالت معطّلة أو شبه معطّلة في الدرس النقدي العربي المعاصر، لأسباب كثيرة يقف على رأسها: الميل الشديد إلى الإنشاء الأفقي على حساب الرصد المباشر للمؤشرات القابلة للقياس، والتخّوف من التماهي مع أدوات التقرير العلمي، والتخوّف من عدم القدرة على التعليل والتفسير والاستنباط والاستنتاج والمقارنة والتعميم النسبي. وفقًا لجوهر وأدوات ولغة هذه المنهجية إذن، يمكنني أن ألاحظ ما يأتي: أولًا: التسلسل؛ فالكتاب/ الموسوعة يمكن أن يُعد مرجعًا موثوقًا في تاريخ المناهج النقدية، بدءًا من أفلاطون وليس انتهاء بإدوارد سعيد. ثانيًا: الشّمول؛ فهذا الكتاب/ الموسوعة، أبعد ما يكون عن الادعاء، على الرغم من عنوانه الموضوعي الهادئ؛ لأن بعض المؤلّفين لم يتجاوزا في مؤلفاتهم حدود الحديث عن تيار واحد أو منهج واحد. وقد اضطلع مؤلفه برصد ومعاينة عشرين منهجًا نقديًا؛ بدءًا من الكلاسيكية وصولًا إلى نقد ما بعد الاستعمار، دون أن يغفل عن التوازي والتداخل بين المناهج أحيانًا. ثالثًا: التدرّج؛ فالكتاب يُعدّ معرضًا حقيقيًا للتدرّج من العام إلى الخاص؛ سواء على صعيد كل منهج على حدة، أم على صعيد الرشاقة في الانتقال من منهجيات المضمون إلى منهجيات الشكل. رابعًا: المقارنة؛ فالمؤلّف لا يدّخر وسعًا للمقارنة بين وجوه التشابه أو وجوه الاختلاف، كلّما تطلّب الأمر ذلك. وقد أفصحت مقارناته المفيدة عن نباهة شديدة تؤكّد رسوخ معرفته بأدق التفاصيل المنهجية. خامسًا: المرجعية؛ فقد واظب المؤلف على إبراز وبسط المرجعية الفلسفية أو الفكرية لكل منهج على حدة، فسّد بذلك ثغرة كبيرة يتجاهلها كثير من المؤلّفين، بدعوى اعتنائهم بالتركيز على الجانب الأدبي والنقدي! سادسًا: السياق؛ فقد واظب المؤلف أيضًا على إبراز وبسط السياق الحضاري أو السياسي أو الاجتماعي أو الفكري لكل منهج على حدة، بما في ذلك المناهج الشكلانية والنصيّة، انطلاقًا من قناعته التي نوافقه الرأي فيها وملخصها: أن الإلمام بالسياقات التي مهدت لظهور المنهجيات، لا يقل أهمية عن الإلمام بالمنهج نفسه. سابعًا: التواصل؛ فالمؤلّف يمتلك قدرة لافتة على الحدس بأسئلة القارئ، مهما كانت بسيطة أو بديهية، ولا يدّخر وسعًا لطرحها والإجابة عنها، ناهيك بأنه حريص على إشراك المتلقي المستهدف على نحو ذكي ودون إسفاف. ثامنًا: التبسيط؛ فالمؤلّف يمتلك أيضًا قدرة لافتة على العرض والشرح والتفسير بلغة نقدية مفهومة، ومن نافل الحديث التنويه بأن التبسيط لا يعني التساهل أو الإخلال أو الاجتزاء. تاسعًا: التوثيق؛ فالمؤلّف يحرص على توثيق كل فكرة أو ملاحظة سبق لمؤلف آخر أن أوردها في كتاب. وكأنه يضرب بذلك للمتلقي، مثلًا في الأمانة العلمية الخالصة. عاشرًا: التمثيل؛ فالمؤلّف لا يدّخر وسعًا -بعد أن يفرغ من عرض كل منهج على حدة– لإيراد نماذج أدبية عربية وأجنبية مرموقة. وعلى نحو يغني المتلقي ويسمو بذائقته الأدبية. حادي عشر: التطبيق؛ فلا يفوت المؤلّف أيضًا -بعد أن يفرغ من عرض كل منهج على حدة- إيراد نماذج نقدية تطبيقية دالّة، بهدف تدريب المتلقي والانتقال به من حيّز التنظير إلى حيز التطبيق. ثاني عشر: التقريب؛ فقد أولى المؤلّف عناية كبيرة للمصطلح النقدي الذي يمثل أبرز معضلات المدوّنة النقدية العربية المعاصرة، فجمع بين المصطلحات المختلفة بناء المتشابهة مضمونًا، ولم يدّخر وسعًا لاقتراح المصطلح الجامع. ثالث عشر: الحسم؛ فعلى الرغم من كل ما أبداه المؤلّف في مدونته، من اعتدال وصبر طويل في العرض والشرح والتفسير والتحليل والاستنتاج، فإنه لم يتردّد في الإفصاح عن رأيه الشخصي -كلّما تطلّب الأمر ذلك- وخاصة على صعيد مبالغات الأسلوبيين أو البنيويين أو ما بعد البنيويين في عزل النصوص عن سياقاتها الموضوعية. رابع عشر: المراجع؛ فقد رفد المؤلف كتابه/ موسوعته، بقائمة مرموقة من المراجع العربية والأجنبية، وهي تمثل فعلًا مكتبة متخصصة في المناهج النقدية. وحرصًا منا على أن تستوفي هذه المراجعة مطلوبها المنشود، فإننا نتمنى على ناقدنا الكبير: العمل على إصدار طبعة ثانية من هذا الكتاب، تشتمل على ملحق خاص بالمصطلحات الأجنبية وما يقابلها بالعربية، وملحق خاص بالأعلام من فلاسفة ومفكرين ونقّاد، وبحيث تحتوي الترجمة الخاصة بكل واحد منهم على ما يلي: سنة الولادة وسنة الوفاة والعنوان العريض لأطروحته وأبرز مؤلفاته. كما لا يفوتنا التنويه بضرورة التنقيح الطباعي للطبعة التالية.