إبراهيم خليل فجع الأدب العراقي في الفاتح من أيلول الحالي بواحد من فرسانه الأشاوس، وبلغائه المفوهين، الذين تصدوا للاحتلال الأميركي بشعرهم الرصين، سامي مهدي (1940- 2022) وسامي مهدي، فضلا عن أنه شاعر، مفكرٌ، وباحث أدبي، وناقد موسوعيٌ، ومترجم، وإعلامي ترأس تحرير صحيفة الجمهورية اليومية لمدة غير قصيرة.. وقد ترجم للعربية مختارات من الشعر الإسباني، وأخرى من الشعر العالمي. وتناول في واحد من كتبه وعنوانه «أفق الحداثة وحداثة النمط» 1988 ظروف مجلة شعر، ودورها الريادي في الشعر العربي، ونقده. وفي آخر تناول الثقافة العربية من الشفاهية إلى الكتابة 1993 وفي مصنف ثالث توقف إزاء ظاهرة «الريادة ووعي التجديد في الشعر العراقي 1993 . وفي مؤلف نقدي آخر يقف بنا إزاء علم من أعلام الأدب العراقي نهاد التكرلي بصفته «رائد النقد الأدبي الحديث في العراق». وكان رحمه الله قد توقف في دراسة له ممتعة حيالَ تجربة الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ (1923- 1971) صاحب القصيدة ك . وثلاثون قصيدة. ومعلقة توفيق صايغ. و أضواء جديدة على جبران، ورئيس تحرير مجلة حوار التي لم تدم طويلا وأحيطت بشُبُهات. أما دواوين الشعر فله الكثير، نذكر منها على سبيل المثال: رماد الفجيعة 1966 وأسفار الملك العاشق 1971 والأسئلة 1979 وسعادة عوليس 1987 وحنجرة طرية 1993 ومراثي الألف السابع 1997 والخطأ الأول 1997 وديوان لو كنت حكيما 2019، وقصائد في الظل 2019،وغيره. وهو علاوة على ما سبق أحد شعراء المقاومة العراقية الذين لفتوا الأنظار بعيد الاحتلال الأنكلو ـ أمريكي بما عرف به شعره، وكتاباته النقدية، والفكرية، وسواهما من الفنون الأدبية النثرية، بالتصدي لأوجه القصور في حياتنا المعاصِرة، إن كان ذلك على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، أو الثقافي. وهو لا يتصدى لهذه السلبيات بأسلوب مباشر يؤدي إلى إضعاف القصيدة، وإفساد الشعر، ولكنه يلجأ مثلما نلاحظ في ديواوينه الأخيرة لابتكار الصور التي تتضمن عددا من العناصر التي ترمزُ في تفاعلها لما يسلط الشاعر عليه، وعلى سخريته منه، الضوء. ففي إحدى قصائده التي اختار لها عنوان «حديث خاص» وهو عنوان يدفع بنا وبالقارئ للتساؤل مع من يجري هذا الحديث الخاص؟ لكن الشاعر لا ينتظر طويلا قبل أن يضيف للعنوان عبارة أخرى تعرفنا بمن يجري معه هذا الحوار وهي، إلى كل مقاتل عراقي حرّ في الجبهات. وإذ يتضح أن الحديث الخاص يجري بين الشاعر أو المتكلم في القصيدة ومقاتل عراقي حر، فإننا نتوقع أن يحتوي النص على شعارات يصاغ منها خطاب تحريضي، أو حماسي، أو دعوة لذلك المقاتل كي يتصدى للأعداء ببسالة وشجاعة، بيد أن الشاعر يخالف توقعنا هذا، مشيرا إلى أن ذلك المقاتل الحر لا يقرأ الشعر، وأن وقته لا يتسع لمثل هذه الأشياء، فما الشعر في نظر المتكلم بأكثر من كلمات رنانة، لا تُعدّ شيئًا إذا قيست بما يقوم به هذا المقاتل في رحاب الموت، وساحات الفداء والشرف. صحيحٌ أن الشعر شيءٌ لا غنى عنه، ولا بديل له، لاسيما في زمن الحرب، بيد أن الشعر لا يظفر منه صاحبه الشاعر بغير الضجيج: لستُ مثلك، لا لست أكثر من شاعر في الضجيج وما كلماتي سوى كلمات ماؤها عسلٌ ونبيذٌ ولكنها كلمات وأنت يباركك الله أنتَ معلقة الشعراء وفاتحةُ الصلوات وفي هذه القصيدة تلتقي صورتان، أولاهما للمقاتل، وللشهيد، الذي يفتدي بدمه، وروحه، الوطن، والأخرى لنموذج آخر همه الوحيد الشراكة، والمحاصصة واللصوصية التي لا تتحرج من أن تسرق الكحل من العين. فهؤلاء الذين يصفهم الشاعر سامي مهدي، أو المتكلم، محقا بالسُفهاء، لا يساوون شيئا مقابل المقاتل الحرّ في ميادين الشرف: السُفهاء لا يقيمون صرحًا ولا هم يداوون جرْحًا ولا يرحمون ولا يخجلون وإن لبسوا جُبَبَ الحُكماء ولعلهم هم الذين طغوا في الوطن وبغوا، واستحلوا الحرمات، واستولوا على حقوق العباد وخيرات البلاد، في حين أن المقاتلين الأحرار، الذين يضحُّون، لا يحظون من هذه القسمة إلا بنصيب الغريب اليتيم: فلندعْهُم إذا ولنصلِّ معا لغدٍ ولما بعده ولنغن معًا للحياة بما نتنزَّلُ للناس من أغنيات وفي قصائد سامي مهدي، التي يغلب عليها القصرُ والتكثيف، الكثير الجمُّ من السخرية، ولا ريب في أن تلك السخرية تحقق بالتهكم ما لا تحققه القصيدة إذا كانت تخلو من مثل هذا الأداء الهزلي. يقول في قصيدة بعنوان «مستشارون» ما يأتي: كثر المستشارون حتى غدا كل من لا اختصاص له مستشارًا وصرنا جميعا رعايا بلاد من المستشارين يحكمُها ملكٌ بالوكالة عن ملكٍ بالوكالة فالوكالاتُ والاستشاراتُ من سنَّة الله فينا فعشْ رغدًا وتمتَّعْ بما شئتَ أو نلتَ نم رغَدًا سيِّدي المستشار وقد تقوم القصيدة لدى سامي مهدي على مفارقة ساخرة يختتم بها الشاعر النص، فكأن تلك الخاتمة تعود بالقارئ إلى المصدر الذي انطلقت منه القصيدة، أو الرؤية، بكلمة أدقّ، على الرغم من اطراد أجزاء القصيدة اطرادًا تبتعد به تدريجيًا عن ذلك المصدر، يقول الشاعر في قصيدة «المفتاح»: كم كنتُ بحثتُ عن المفتاح في كلِّ الأزمَات وكلِّ الصَحَوات بحثتُ بحثتُ عن المفتاح فالإلحاحُ على البحث يتخذ صورًا من التداعي، لا يترك فيها الشاعر موقعًا يمكن العثور فيه على المفتاح إلا ويذكره؛ في الجيب، في الدرج، في البئر، في القبر، في كل مكان، وكل طريق، بيد أن ما يفاجئ القارئ هو أن العثور على المفتاح لا يؤدي بالضرورة إلى ما يسعى المتكلم لتحقيقه: لكنْ حين عثرتُ على المفتاح لم يفتحْ لي بابًا حتى أرتاح وعلى الرغم من كثافة القصيدة، والعدَد المحدود للكلمات فيها، أو الأبيات، إلا أنها في الغالبِ والأعمِّ والأرْجح، تستوعب رؤية يتجاوز فيها الشاعر الواقع المحدود إلى العام والمطلق. ومن هذه القصائد، وهي كثيرة في الديوان الموسوم بعنوان «لو كنت حكيمًا» قصيدة «الطريق»، فعلاوة على أن هذه الطريق محفوفة بالمخاطر، منذورة للمزالق، لا تُعرف لها نهاية، ولا تؤدي لغاية، ولا بد فيها مع ذلك من استرضاء الدليل، ترسم لنا- بوصفها رؤيا – مشهدًا لحياتنا محبِطًا، فكل ما فيها، وما قيل فيه، تبين، بل ثبت، زيفُه في نهاية المطاف، وخاتمة الأمور: كل ما قيل لنا كان هراء فالأغاني لم تكن إلا ثغاء والدمُ المطلولُ ما كان سوى حفنة ماء ووصايا الأنبياء نفرٌ خُصَّ بها من عِلْيَة القوم وليس الفقراء. ويغالي سامي مهدي في التعبير عن الخيبة التي يحظى بها هذا الجيل ـ جيلنا- حتى إنَّ باب السماء لا يفتتح لنا، لا في ليلة القدر ولا في غيرها من الليالي. والرحيل الذي يتحدث عنه المتكلم في القصيدة رحيل بائسٌ ويائسٌ، إلى غير غاية منشودة، ولا إلى أهداف مقصودة. فالطريق موحلا كان، وموحشا ووْعِرا. وبدلا من أن ينتهي بمحطة هي الهدف النبيل والغاية المرجوة من الرحيل، يجد الراحلون أنفسهم بين ذئبين شرسين يقتتلان على أيٍّ منهما يفترس هذا الجيل فريسة سهلة سائغة: لا سبيل غير هذا الموت والخبز القليل واقتتال الذئب والذئب على المجد الأثيل فإذا ماتا عبرنا الهوَّة الكبرى على أقدامنا عَدْوًا، بلا راعٍ، ولا أيِّ دليل يشترط المتكلم في قصيدة الطريق لتمام هذه الرحلة موت الذئبين الشريرين، اللذين يتصارعان على افتراسنا، ومع أن الواقع الذي تصوِّره القصيدة واقع يبعث الشعور بالإحباط، إلا أن سامي مهدي لا يفتأ يبثّ الأمل في النفوس، ففي (نعم، لا) لا يخير المتكلمُ المخاطبَ بين الأمرين، بين أن يقول لا، أو نعم ، فإذا حزب الأمرُ، وضاقَ، فلا مناص من أن يقول لا، بلا تحفُّظٍ، وبلا تردد: زفرةٌ، حين تنفثها ستصادف إحداهما دون أن تتوقَّعها فتمهلْ إذن ثم قلْ لا ولا تتردَّدْ فلا.. هي ما أنتَ كنْتَ تريد! ومن اللافت الذي يشجّع على اختصار هذه المقالة عن الراحل أنَّ جل قصائد سامي مهدي «لو كنت حكيمًا» كما هي الحال في «قصائد في الظل» مكثفة، قصيرة، ساخرة، قد تولج السرور في نفوسنا، وقد نلتذ بما فيها من مفارقاتٍ مدهشة، ومُضْحكة، وساخرة، إلا أنها لا تخلو في الوقت ذاته من وخزة موجعة هنا، وطعنة مؤلمة هناك، فهو، في شعره، لا يرسم لنا صورًا براقة للواقع الذي نحياه زائفة مُبَهْرجة، بل هي صورٌ تملؤها التشوهات، ولا ينقصها ألمُ الالتباس: شجرٌ من إسمنت وحديد وجدارٌ أجرد لا نقش عليه أو ظل نشيد تجريد هذا العالم في تجريد لا شيء نؤكده فيه لا شيء أكيد لا معنى يتعين للأشياء وللأسماء وللأنواء ومعنى هذا النصّ غيومٌ تنأى تتبخر في أفق ملتبس أفق جد بعيد ولسامي مهدي شغَفٌ واضح بالإيقاع السريع للقصيدة، فالقارئُ لا يبدأ بالبيت الأول حتى يجد نفسه وقد أصبح في الأخير، نظرا لتواتر التفعيلات، والفواصل الوزنية، بعضها وراء بعض، كما لو أن دافعا قويًا يدفعُ بها لبلوغ النهاية، وهذا واضح في النموذج الآتي الذي بناه الشاعر على قافية لافتة للنظر: يقودنا الحبُّ إلى المجهول على جناحين من الخفة والدهشة والذهول إلى سمواتٍ بلا أي محطاتٍ ولا أيِّ نهاياتٍ ولا وُصولْ وكلَّما سار بنا يأخذنا الفضول إلى مزيدٍ منه حتى تخلع الأيامُ والفصولْ كلَّ أساميها فلا نعرفُ ما الأولُ ما الآخرُ في لُعْبة هذا العالم المخْبولْ ولا شكَّ في أن سرعة الإيقاع، مع وضوح الجرس الموسيقي، وحلاوة النغم، يضفيان على قصائده القصيرة خفة روح، وسلاسة نسق، نفتقر إليها، ونفتقدها، في ما ينشرهُ كثير من شعراء اليوم. ولهذا تغدو قراءة دواوين سامي مهدي، كعلي جعفر العلاق، وحميد سعيد، واحةً لا بد من الحلول فيها، والاستئناس بها، بعد الكثير من الاستياء الذي يشعر به الباحث عن الشعر الريِّق بين المتراكم السخيف والركيك، من المنظومات المنْشورة، ولا ســيَّما تلك التي تدعي أنها قصائد نثر، وهي بريئة من الشعْر براءَتَها من النثر.