مهدي نصير «تلك الأزمنة» لمحمود شقير كتابٌ في السيرة الذاتية وهو واحدٌ من أكثر من ستين كتاباً في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والرواية والسيرة الذاتية والمقالة والبحث والدراسة والمسرحية والسيناريو وأدب الطفل والذي شكَّل حيزاً هاماً من نتاج وإبداعات محمود شقير الأدبية والتي يصرُّ على أنها من أهم ما كتب لأنها تحتفي بالبراعم والأشتال القادمة الطرية والجميلة والبريئة والناصعة الجمال والتي ستصبح يوماً ثماراً وأشجاراً ثابتةً عميقةَ الجذور في معظم قصص الأطفال تكون مدينةُ القدس فضاءها ومكانها ويكون بعضُ أحفادهِ أبطالاً لها وخصوصاً الحفيد مهدي وهو الأثير لجدِّه محمود شقير. هذا الكتاب والصادر عام 2022 عن دار نوفل في بيروت والواقع في 288 صفحة هو سيرةٌ ذاتيةٌ متوترةٌ أحياناً ومتصالحةٌ أحياناً ومتفائلةٌ دائماً بالزمن القادم، هو سيرةٌ، السردُ فيها حرٌ ويتنقل فيه السارد في الأزمنة والأمكنة التي عاشها بدون ضوابط زمنيةٍ أو مكانيةٍ بل يتنقل من زمن لزمنٍ ومن مكانٍ لمكانٍ ومن موضوعٍ لموضوعٍ بحريةٍ عالية وبإيقاعٍ للسرد كان هو الانضباط الوحيد في هذه السردية، يتنقل السارد من بادية القدس حيث وُلد في «قرى السواحرة» ويتنقل في محطات طفولته وشبابه مع والديه وأخواته وإخوته وجدوده وأصدقائه وأترابه متنقلاً بين الدراسة والحب الأول والاعتقال والعائلة وهمومها والدراسة الجامعية في دمشق في الفلسفة والاجتماع وتخرجه عام 1965، يتحدث عن الرفاق الذين أثَّروا في انتمائه للفكر الماركسي والذين شجعوا موهبته في كتابة القصة القصيرة والمقالة والتي كانت تُنشر في صحف تلك الأيام، ويتنقل أيضاً بين منافيه في بيروت وعمان وبراغ وعودته للقدس وجبل المكبِّر عام 1993 مستذكراً الناس والأصدقاء والرفاق والأدباء والمفكرين الذين عاش معهم والتقاهم وكان له ذكرياتٌ معهم، كلُّ ذلك كان عبر انثيالاتٍ سرديةٍ لا تلتزم بخطية الزمن بل كان يتنقل عبر منحنياتٍ متعرجةٍ تصعد وتهبط وتتقدم وتتأخر دون انتظامٍ يربطها سوى تلك اللوازم الإيقاعية للسرد التي كانت المايسترو لحركة النص وتنقلاته في الزمان والمكان. سأقرأ معكم هذه السردية الحرَّة عبر الملاحظات التالية: أولاً: تتكون هذه السردية من تسع فقرات تمَّ ترقيمها من 1-9 يتنقل فيها الساردُ بحريةٍ دون الالتزام بخط سير الزمن بل يتذبذبُ صعوداً وهبوطاً ويتنقل بين السنوات ذهاباً وإياباً عبر كتلٍ نصيةٍ متوترةٍ في داخلها وعندما كان التوتر يصلُ مداه أو يصلُ السرد لنهايةٍ مؤقتةٍ كانت تتدخل الفواصل الإيقاعية بين الكتل النصية لتعيد ترتيب النص وتمهد للانتقال لزمانٍ آخر أو مكانٍ آخر أو موضوعٍ آخر، تنقَّل السرد بين تفاصيل حياة محمود شقير اليومية وحياة أسرته الصغيرة المكونة من أبنائه وأحفاده وطبائعهم وشخصياتهم وذكائهم ودراستهم ومشاكلهم ونجاحهم وفشلهم ومرضهم وتعافيهم وزواجهم وأعمالهم وبعضاً من شقاواتهم وذكرياتهم وبساطتهم وتأثر كثيرٍ منهم بأفكاره دون تدخلاتِ الأب السارد بتوجهاتهم وأمزجتهم المتشعبة. طاف السارد طويلاً في ذكرياته مع أصدقائه ورفاقه الذين عاش معهم وعمل معهم وسُجن واعتُقل معهم وكتب معهم وعنهم مستذكراً عدداً كبيراً من المثقفين والسياسيين والأدباء العرب وغير العرب الذين التقاهم في سفراته الكثيرة حول العالم، من هؤلاء الذين تناولتهم هذه السردية: يعقوب زيادين وعيسى مدانات وفائق ورَّاد وسليمان النجَّاب وبشير البرغوثي ونعيم الأشهب ومحمد البطراوي وفليتسيا لانغر وصموئيل شمعون ومؤنس الرزاز وعدي مدانات وغسان كنفاني وناجي العلي وليلى الأطرش وايفيلين الأطرش وفايز الصيَّاغ وهاشم غرايبة وغسان عبد الخالق وتهاني سليمان داوود وغالب هلسا وسالم النحَّاس وتوفيق زيَّاد وعز الدين المناصرة وإبراهيم تصرالله واميل حبيبي وغيرهم الكثير من المبدعين الذين تركوا أثراً في سيرة حياة محمود شقير الثرية بالتفاصيل اليومية والثرية في الأماكن الكثيرة التي زارها والشخصيات الحقيقية التي التقاها وعايشها، يقول محمود شقير في فقرةٍ من سرديته المتوترة أنه لم يتوقع أن يزور أكثر من أربعين بلداً ومدينةً في قارات العالم: في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، وتأخذه انثيالات الذاكرة لعضويته في رابطة الكتَّاب الأردنيين وانتخابه عضواً في الهيئة الإدارية للرابطة بدوراتٍ متتاليةٍ من عام 1977 وحتى عام 1987 عندما رحل لبراغ ممثلاً لحزب الشعب الفلسطيني في مجلة « قضايا السلم والاشتراكية «، ويواصل سرديته بالحديث عن الندوات والمؤتمرات والمهرجانات التي شارك بها أو احتفت بتجربته في أمكنةٍ وأزمنةٍ مختلفة، ويعود عبر لازمات الإيقاع السردية للحديث عن عاداته اليومية في بيته في جبل المكبِّر في القدس وعنايته بأبنائه وأحفاده وخصوصاً ابنته « أمينة « التي تُصاب في سن العشرين بمرض ضمور العضلات وحفيديه محمود ومهدي وباقي أبنائه وبناته وأحفاده، تأخذه الذكريات لموسم تقليم أشجار البستان الصغير المحيط ببيته في القدس بمساعدة حفيده الصغير مهدي ومحاولته تركيب شجرة التوت في البستان بطعوم من شجرة الليمون والتي تفشل: هل كان يدرك أنه تركيبٌ مستحيل كما بيَّن له ابنُ عمه الدكتور في الزراعة عدنان شقير؟؟ ثانياً: الفاصلة السردية الإيقاعية الأولى التي تكررت أكثر من عشرين مرة والتي أعطت انثيالات الذاكرة نقاطها المرجعية حيث يعود إليها السرد دائماً بعد تجواله الطويل في الزمان والمكان والإنسان، كانت هذه الفاصلة هي وصول السارد لعمر الثمانين، نقرأ تكرار هذه الفاصلة الإيقاعية للسرد في مواقع مختلفة من هذه السردية: «أغذ الخُطى نحو الثمانين ص33، بعد سنتين وشهرين أي في الخامس عشر من شهر أذار 2021 أبلغ الثمانين ص109، وأنا على مشارف الثمانين ص137، أنتظر الثمانين بفضول ص159، حدث هذا وأنا على أبواب الثمانين ص180، اليوم بلغت التاسعة والسبعين من العمر وبعد عام أبلغ الثمانين ص181، أواصل الذهاب إلى الثمانين وأنا أحمل على كتفي صخرة سيزيف، سأحلُّ ضيفاً على الثمانين بعد وقتٍ لن يطول، حين حلَّ الصيف لم يعد يفصلني عن الثمانين سوى ثمانية أشهر، لم يعد يفصلني عن الثمانين سوى سبعة شهور، وأنا على أبواب الثمانين، أنا الآن على بُعد شهر ونيف من الثمانين، هأنذا أقترب من الموعد المنتظر، أنا الآن على بُعد عشرة أيام من الثمانين، أنا الآن على بُعد خمسة أيام من الثمانين، وأنا على بُعد يومين من عيد ميلادي الثمانين، هذا الصباح 15/3/2021 بلغتُ الثمانين من العمر ص239»، هذا التكرار الإيقاعي والفواصل بين انثيالات الذاكرة وتشعبات السرد شكَّل إيقاعاً داخلياً وخيطاً خفياً يقود الكتل النصية التي تتحرك للأمام والخلف للأعلى وللأسفل ويفصل ويصل بينها، إنه توتر إيقاع العمر الذي يقترب من الثمانين، هذا العمر الذي نعده جميعاً أكثر مما نحتمل ويستعيد السارد بيت الشعر المشهور من معلقة زهير بن أبي سلمى: «سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ.. ثمانين حولاً لا أبالكِ يسأمِ» ويُشكِّك في حكمته ومضمونه. قلتُ في رسالةٍ مرَّةً لأستاذنا محمود شقير: أتمنى أن تكتب الآن نصوصاً تكون لازمتُها الإيقاعية: «وأنا أحثُّ الخُطى نحو التسعين بهارمونيته التي تجلّت في تلك الأزمنة»، أجابني: أرجو ذلك يا صديقي، ولكن من يدري! أتمنى أن نقرأ هذا التوتر الإيقاعي في الطريق نحو التسعين بإذن الله. ثالثاً: لغةُ السرد كانت لغةً فصيحةً مشرقةً عاليةً ومليئةً وطازجةً وسلسةً وتقتربُ من اللغةِ الشعرية بإيقاعاتها وتوترها الداخلي الذي يقرأه من يقرأ هذه السردية بعين المحب لتجربة محمود شقير النضالية والإبداعية. رابعاً: يمكننا قراءة هذه السيرة على أنها روايةٌ لراوٍ واحدٍ يتنقل بحريةٍ في سرديته وتجاربه وحياته ومفاصلها ونجاحاتها وإخفاقاتها وأحزانها ومراراتها وأفراحها دون الالتزام بتسلسلٍ خطيٍّ لهذه السردية، بل كان السارد يتنقل بين الأزمنة المختلفة والأمكنة المختلفة ويعود للحظته التي يحياها عبر لازمتين إيقاعيتين زمانيتين تمسكان السرد وتوجهانه، ولازمةٌ مكانيةٌ كانت هي محورَ هذه السردية: مركزية مدينة القدس كنقطةٍ تدور حولها كلُّ الأمكنة التي تنقَّل فيها السرد والسارد. خامساً: الفاصلة الإيقاعية الثانية العالية التوتر والتي شكَّلت أيضاً عبر تكرارها المتوتر فواصل إيقاعيةً لانثيالات السرد: «جرسُ أمينة» والذي يقرعُ فجأةً في أرجاء هذه السيرة ليعيد السارد للحظته الحقيقية المتوترة والقاسية والحزينة: «جرسُ أمينة يرن، جرسها يرن، بعد دقائق جرسها يرن مرةً أخرى، جرسها يرن...» ولشدة توتر هذا الإيقاع أفرد له السارد كونشرتو مستقل في ملحق السيرة رقم 1. سادساً: ولأنها سيرةٌ ذاتيةٌ ترصد التاريخ السابق للسارد ورحلته في الحياة وترصدُ أيضاً يوميات حياته في القدس وفي بيته في جبل المكبِّر مع أبنائه وأحفاده وأصدقائه في القدس ورام الله ومشاركاته في النشاطات الوطنية والثقافية التي تؤكد وتكرِّس الشخصية والهوية الفلسطينية أمام هذا الاحتلال الصهيوني الاقتلاعي الذي يعمل على طمس هذه الهوية وقتل مكوناتها، الكورونا وعزلتها وحضورها القاسي والجديد على نمط الحياة اليومية للناس كانت حاضرةً في هذه السردية، خلال عزلة الكورونا يُعيد محمود شقير قراءة «طاعون» البير كامو والتي كان مسرحَها مدينةُ وهران الجزائرية والتي تتشابه أجواؤها وأجواء العزل والخوف في جائحة كورونا، ويعلق السارد في انثيالات سرده على رأي الياس خوري السلبي برواية البير كامو، وكذلك رأي طه حسين السلبي بهذه الرواية ويعارضهما بعد إعادة قراءتها بأجواء الكورونا ويؤكد أنها تمثل عملاً إنسانياً فنياً عالياً. سابعاً: الأحداث السياسية والنضالية اليومية لشعبٍ مُحاصرٍ كانت حاضرةً في يوميات السرد اليومي الحي التي كانت تحضر وتختفي بين فواصل الذاكرة الإيقاعية التي أتقن محمود شقير توظيفها، وبوقفةٍ سرديةٍ داخل انثيالات الذاكرة يوثق محمود شقير رسائله للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني، رسائله كانت إلى: مروان البرغوثي وأحمد سعدات وباسم خندقجي وإبراهيم مشعل شقيرات والخال حسام زهدي شاهين والأسيرة آمنة والأسير محمد أبو طير المنتمي لحماس والأسير أيمن شرباتي ورائد السلحوت، هو انتماءُ السارد لهؤلاء الرجال والنساء الذين يواجهون بطش المحتل الصهيوني ويقاومونه. يفضح محمود شقير في سرديته زيف ما يُسمى اليسار الصهيوني وعلى رأسهم الروائي الإسرائيلي الصهيوني عاموس عوز وزميله الروائي الإسرائيلي الصهيوني يهوشواع صاحب رواية امرأة من القدس في ردهم على رسالة الأسير الفلسطيني المضرب عن الطعام في سجون الاحتلال الصهيوني سامر العيساوي وردهما عليه عبر مذكرةٍ نُشرت في هآرتس الصهيونية وطلبهم منه فكَّ إضرابه عن الطعام دون أي إدانة للاعتقال والتنكيل الصهيوني اللاإنساني!. ثامناً: تضمنت هذه السيرة ثلاثة ملاحق، الملحق الأول: أمينة يوميات الألم
والمعاناة ص241 وهو كونشرتو من حركتين في كل يومية تتبادلان النص في اليومية: الحركة الأولى الواقع المؤلم الآن لأمينة ومعاناتها مع المرض والحركة الثانية تذكُّر محمود شقير لأمينة قبل المرض في طفولتها وأول صِباها وبراءتها وذكائها وإقبالها على الحياة، الملحق الثاني كان قصةً قصيرةً لم تُنشر سابقاً وهي بعنوان «الغسيل» والمكتوبة عام 1979 في عمان وهي جزءٌ من انثيالات الذاكرة، أما الملحق الثالث فكان مقتطفات من نصوصٍ كتبها أصدقاء ومحبو محمود شقير في عيد ميلاده الثمانين. في نهاية هذه القراءة لهذه السردية الذاتية الكثيفة والعاليةُ التوتر أدعو الله أن يُطيل بعمر محمود شقير هذا المبدع المقدسي الفلسطيني الأردني العربي الأممي والذي طاف الدنيا منفياً عن بلده ووطنه وعاد إليه شامخاً مناضلاً قوياً متفائلاً أن المستقبل سيكون بالتأكيد لملح الأرض الفلسطينية وأشجارها وإنسانها الذي لا يستسلم أبداً، كتب محمود شقير في سرديته الذاتية ص 230: «أخيراً، بعد هذه الرحلة الطويلة التي عشتُها بتذمرٍ قليلٍ، ومن دون تذمرٍ في كثير من الأحيان، يكفيني سطرٌ واحدٌ في سجل التاريخ مؤداه أنني عشتُ زماني بامتلاء، وقدمتُ من دون تبجحٍ أو إدِّعاء، واجبي تجاه وطني فلسطين وتجاه الناس الطيبين أجمعين».