|
عرار:
أحمد الكواملة إن ما يبدعه الشاعر علي البتيري يمكن أن نسمه بالسهل الممتنع عندما يكتب للأطفال، يجد الكبار لهم مكانا في ما يكتب، وإذا كتب للكبار، لم يكن لينقطع عن إرسال رسائله المؤثرة العذبة حتى للفتيان والأطفال، وهذه ميزة لا يبلغها إلا القليل من الشعراء. وإنا أقارب مجموعته الشعرية الجديدة الصادرة عام 2021 عن دار الخليج للنشر والتوزيع، بدعم من وزارة الثقافة، التفت إلى العنوان: نهر لشجر العاشق، أتوقف عند الملاحظات الآتية: حين تلتقي لفظة (نهر) مع ما فيه من نزق واندفاع، تدمير، إخصاب، حياة وموت، مع لفظة (شجر) التي تشي بمعنى النماء والعطاء والحاجة إلى خصيصة الرواء التي يمنحها النهر، ثم تأتي لفظة (عاشق) لتكشف خصيصة الشجر، إنه شجر وظل، حاجة، تواشج اندغام بالعاشق المحب الضارع إلى ديمومة العشق وخلوده ونقائه، كما هو ماء النهر. والشاعر يظهر مذهبه في العشق هو يترك لها أن تفعل ما تريد، ولكن..: «كوني كما تهوين لكن دعك من لغة بها بين العيون خصام». وتتكرر لفظة التخيير (كوني) أربع مرات، غير أن لفظة لكن، بما تحمل من حدود مانعة لطلاقة التخيير، في سياقات تعمق الطريق إلى مذهبه في العشق الذي هو متصوفة وإمامه: الحب إيثار ونبع تودد الروح تعرف سرَّه الأحلام والحب عدل للقلوب وليس في قاموسه الأسياد والخدام بمذاهب العشاق هذا مذهبي وإنا له متصوف وإمام. رحل المناذرة.. رحل الغساسنة.. ولكن: في قصيدة الشاعر علي البتيري (عرس يحضره القيصر) يلخص برهافة بليغة حال العرب من قبل ومن بعد، هم في مناحرة والى يومنا هذا، وهو يقول: «بعد قليل من وقت القيصر يدخل مجلسه وجهاء غساسنة الشرق يهزون عصا الطاعة ويؤدون ولاء للحرب جماعة» هذه الحرب الخاسر الأكبر فيها قومهم من غساسنة ومناذرة، والرابح الأكبر أعداء ألأمة، شرقا وغربا: «وبصوت مرتجف بين الخجل التاريخي وبين الحب المزعوم يعلو في الأجواء هتاف (عاش القيصر... عاش الروم)». ويمعن عرب الانحناء والتخاذل في الانبطاح، وهم يؤكدون ولائهم المطلق للقيصر والروم، وإدانتهم وعدائهم لبني جلدتهم، مناذرة كسرى، حيث يقول شاعرهم على لسان شاعرنا: «يدخل غساني قصيدته العصماء يلقي شعرا يهجو في مطلعه كسرى ويدين مناذرة علفوا من قمح خوابيهم خيل الفرس ويصور أجراسا تعلن عن حب القيصر للقدس..». كل هذا الاستخذاء، والثمن المطلوب تافه وبخس: «وختاما وبأخر بيت بقصيدته شاهده من سمعوه يستجدي مهرا لأميرة عمره حتى حار الجمع بأمره». هو هذا أغلى أحلامهم، أحرار في أثواب رقيق، بل هم أرقاء في ثياب أحرار، هم على غير ثقة أن هذا الحلم التافه يمكن أن يتحقق: «ما بين التكذيب يتحقق الحلم مابين التصديق يصدر أمر القيصر يعلن عن عرس لعريس الغفلة..». مايسترو القهر: هو يدرك أن للعالم ألان (مع الأسف) مايسترو، راعي بقر، يحرك بعصاه دولا وشخوصا بين يديه، كما يحرك فنان (الماريونيت) لعبته، العالم يحفظ نوتته عن ظهر القلب، ومن لا يعزف لحنه ويذعن لإيقاعه، يدمغ بالعصيان، ويطرد من نعيم موسيقاه وجنة رضاه، من قصيدة (المايسترو) يقول الشاعر علي البتيري: «من يحفظ في هذا العالم نوتة الحاني عن ظهر قلب وتذعن أطراف أصابعه لتعاليم عصاي هو عندي ديمقراطي جدا تحضن وتبارك طاعته العمياء يداي لكن من يخرج عن تلويحة إيقاعي ادمغه بالعصيان الموسيقيّ أعلن غضب الألحان عليه اطرده من فرقة موسيقاي على الفور مهما كان له من دور..». ذلك المايسترو، راعي البقر، يعلنها بوضوح صارخ فاضح، (أنا مع القاتل ولا يعنيني المقتول، مع المستوطن، لا يعنيني صاحب حق، الحق مع المحتل، وله أن يقتل، يسلب، يهدم، له أن يصادر حق الضحية بالكلام، وله أن يسخر الإعلام، كل الإعلام، لمحو رواية الضحية، وإظهار رواية الإجرام، وكأنه الحق الدامغ): «الحق مع المحتلين في نصب حواجز قهر وحصار وقتل وسجن الأحرار الحق مع المستوطن في استيطان أراضي الغير وإذا لم يذعن أهل الأرض لسطوته فله أن يقتل ويطارد أصحاب الحق ولا ضير أما حين يصوره احد الصحفيين فليأخذ من موسيقاي أباحة ما ليس مباحا وليكسر ويصادر كاميرات الصحفيين». انحياز فج: هكذا يصور شاعرنا (علي البتيري) واقع الانحياز الأمريكي الفج (للكيان) وليضرب العرب رؤوسهم في الجدار: «من حق الجاني أن يحكم بالإعدام على القاضي غضب الغاضب أم رضىّ الراضي». المرأة الوطن... المرأة المعشوقة: لا تكاد تخلو قصيده من قصائد الشاعر علي البتيري من غناء للمرأة في هيئة وطن، حتى وهو يبوح بعشقه للمرأة المحبوبة، يأخذه الحب إلي حبه الأكبر (المرأة الوطن أو الوطن المرأة) كل هذا في اندغام جميل يرفع وتيرة التأثير والتأثر، ولو رجعنا إلى قصيدته ( نهر لشجر العاشق) وهي القصيدة التي تشي بالمعشوقة المرأة، فان قصيدته تلك لا تخلو من ذلك الحنين الذي يحول الوطن إلى أنثى معشوقة، والأنثى المعشوقة إلى وطن يحلم به: «الحب غيم مرسل أمطاره للظامئين وبرقه البسام بشرى لنهر حالم بضفافه تتعانق الأشجار والاتسام». وها هو يظهر ذلك الحب للوطن (المعشوقة) وهو يقول من قصيدة إليها وراء النهر: «يا عابر الجسر خذ كل الحنين لها حتى ترى فيه كم اشتاق لقياها في الحلم زائرة في الصحو ماثلة كم اشتهي أن أراني في مراياها هي الربيع الذي لا ينقضي أبدا عدمت ذاكرتي إن كنت أنساها». صياغة قصصية: ملمح القصص يكاد يظهر في اغلب قصائد مجموعة الشاعر علي البتيري (نهر للشجر العاشق) بل وفي اغلب إصداراته، وفي هذا ما فيه من طاقة إيصال وتواصل مع المتلقي أو القارئ، ومن قصائده تلك على سبيل المثال، قصيدة (تكوينات في فضاء الكلام) وهي قصيدة تتكون من أربع مقاطع، في حوار وسرد داخلي وخارجي محيط: «تداخل المجهول والمعلوم في مدينة مهجورة ولم تعد هناك للوضوح صورة ... الحب لا يجيء ساعة المغيب إلا كبرق يجهض الغيوم ... وقلت يا نجوم لا أرى إلاك حارسا على دمي المنسيّ ... حبيبتي تقول لي: بيني وبينك استغاثة الزيتون والنخيل من عطش يقضقض الجذور». ولفلسطين يغني: مع أن الليالي في فلسطين حزينة مدماة، مع أنها ليالي هجرات عبر كل المواني، فانه لا يتوقف عن الأمل بالنماء والخصب والرفض، وتوق اللقاء والبشارة بغد أفضل يشرق بيد الأطفال، من قصيدة ليالي فلسطين يقول: «الليالي في فلسطين لها جمر الأغاني والقناديل المدماة الحزينة الليالي في فلسطين لها طقس الدخول الصعب في كل المواني فهي إذ تكسر أقفال المحيطات السجينة تشعل البذرة في ذاكرة الماء فتخضر الحكايا ... بيد أن النهر يبقى سيد الماء الجميل وعلى جنبيه أطفال لنا أتون من كل المداخل حملت أيديهم السمراء رفضا وحجارة رفعت أهدابهم في عتمة القمع قناديل البشارة». تناص: التناص منثور على أديم المجموعة الشعرية، حالات تناص بعضها بإحالات أسطورية، وبعضها بإحالات دينية، أو تاريخية. من ذلك إحالة أسطورية لدليلة وشمشون، التي اكتشفت سر قوته، فباحت بها،إشارة إلى اثر الخيانة والخديعة: «اشربي نار المسافات وفضي قشرة النخوة عن عار القبيلة اكشفي وجه (دليلة)». ومن الإحالات الدينية إشارته إلى حقد أخوة يوسف وكذبهم على أبيهم للخلاص من منافسهم على حبه: «والإخوة قبل دخول الشمس إلى مخدعها خذلوني تركوني لعذابي القوا بي في (الجبّ) وعادوا لأبي بدم احمر فوق ثيابي». و لقصة يوسف مع امرأة العزيز، وما فعلته بقميصه، وهي تراوده عن نفسه، في إشارة إلى جراح الخيانات المعصوبة بشهادة براءته: «يا من أنت تقومين الليل على باب البئر وحيدة من طرف الجرح المعصوب بخرقة أمي أو من طوق قميص قدَّ على ظهري من دبر». وفي تناص يشير إلى أسطورة صلب المسيح ، إشارة إلى الظلم: «الصليب بلا رحمة حيث شبهت للقاتلين». تلك نماذج من التناص المعمق لما أراده شاعرنا من تأثير ودلالة ورؤيا، وهي نماذج تغني عن الاستمرار في تقصي ما في المجموعة من نماذج التي تشير إلى سعة اطلاع شاعرنا وإحاطته بحالات إنسانية مؤثرة صور... صور: لا تكاد تخلو صفحة من المجموعة الشعرية (نهر للشجر العاشق) من صور جميلة آخذة مبهرة، ولعلي اكتفي ببعضها للدلالة المعبرة: «يصرخ الطفل يصعقه تيار الرعب فيفقد ظله ... كي ينهض جمر مرتجف من تحت رمادي ملتمسا لمسة روحك في برد الصحراء ... حين تداهمنا عربات الريح لتقلعنا». إيقاعات موسيقية: يظهر الشاعر علي البتيري في مجموعته (نهر للشجر العاشق) احتفاء كبيرا بإيقاع التفعيلة وموسيقى الشعر العمودي، فلا تكاد تخرج قصيدة عن هذه الأنساق، إضافة إلى ما في النصوص من جدة ورشاقة، مع التأكيد على ما تمتاز به اغلب إبداعاته الشعرية من البساطة المؤثرة الممتنعة كما أشرت سابقا، وهو بذلك يرفع وتيرة التفاعل والتأثير والتأثر، بين الشاعر والشعر من جهة، والمتلقي أو القارئ من جهة أخرى. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-02-2022 11:35 مساء
الزوار: 663 التعليقات: 0
|