منها القطاعات الثقافية المختلفة، وما يحفّز تلك القريحة، هو حضور وزارة الثقافة، التي هي بنظرهم -وهذا واقع موضوعي- الجهة المعنية بإيجاد حلول لتلك المشاكل، إذ إنها تمثل الحكومة. وهنا نلمس أن أغلب ممثلي القطاعات الثقافية ما يزالون يعتقدون -وهم محقون- أن «الحكومة هي الدولة».
لقد أثار الاجتماع التحضيري للمؤتمر الثقافي الوطني الذي نظمته وزارة الثقافة بتاريخ 10/2/2011، وما انبثق عنه من توصيات، الرغبة بالكتابة بهذا الموضوع.
فقد تحدث وزير الثقافة مفتتحا الاجتماع عن مبررات عقد المؤتمر، مقسّما تقييم المتابعين للشأن الثقافي إلى ثلاثة آراء: فريق يرى أن وزارة الثقافة تقوم بمهماتها على أفضل وجه، وفريق يراها لا تقوم بمهماتها، وثالث يراها نجحت في بعض المهمات وأخفقت في أخرى. وهذا هو واقع الموقف النقدي من عمل وزارة الثقافة ونشاطها.
والمواقف الثلاثة، بما فيها الموقف الوسطي، لا تستند إلى تقييم موضوعي. أولا، لأن معظم الأحكام التي تصدر، أحكام عامة، تحتكم إلى الانطباعات المحكومة بدرجة متابعة هذا المقيّم أو ذاك للنشاط الثقافي، ولعمل وزارة الثقافة بشكل خاص، ولا تستند إلى دراسة منهجية علمية للواقع الثقافي تبدأ بمطابقة نتائج العمل مع الأهداف الاستراتيجية. فالمطابقة أو المقارنة، تكون ما بين نتائج العمل وافتراضات المقيّم لأهداف العمل الثقافي. ويتحدث بعضهم عن عدم قيام الوزارة بمهماتها (أيّ مهمات؟ لا ندري)، ومخالفة السياسات (أي سياسات؟ لا ندري)، والأهداف الاستراتيجية (أي استراتيجية؟ لا ندري)، وقليل منهم من هو مطلع على مهمات وزارة الثقافة من خلال وثائقها الرسمية، وقليل منهم من هو مطلع على استراتيجية الدولة في المجال الثقافي، وفي أي وثائق هي موجودة، وقليلون من يقيّمون السياسات الحكومية في الشأن الثقافي، من خلال البرامج الحكومية عند تشكيلها.. وبالتالي لا تكون تقييماتهم علمية أو موضوعية، وبالطبع فإن هذا الرأي لا يلغي قيام وزارة الثقافة بأدوار مهمة.
قد يكون وزير الثقافة أثار من الأسئلة أكثر مما قدم من الأجوبة، لأنه بحكم خبرته وتجربته (فقد عمل أمينا عاما للوزارة في مرحلة سابقة، وظل مشاركا في العديد من اللجان والنشاطات الثقافية المختلفة)، يدرك أن الإجابات عن تلك الأسئلة ليست سهلة، وأنها تحتاج إلى حوارات ونقاشات مطولة ومعمقة، يشارك فيها كل الأطراف والأشخاص المعنيين بالشأن الثقافي، وأولهم المثقفون أنفسهم. فمن الأسئلة التي أثارها الوزير: ما مسؤولية الثقافة تجاه قضايا المجتمع؟ وما دور الثقافة في التغييرات التي تحدث في المجتمع في هذه المرحلة التي يمر بها العالم العربي؟ وما دور الثقافة في التأثير في القيم المجتمعية؟
من الواضح أن الأسئلة كبيرة ومهمة، وهي تفضي إلى أسئلة وقضايا أخرى مهمة، أيضا، ويبدو أن هذا هو المطلوب من المؤتمر: أن يثير، أو يفجر الأسئلة التي تفرضها المرحلة، التي تستعيد أهمية الثقافة ودورها في التغيير. فلا شكّ في أن ثقافة جديدة كانت قد نشأت، وغيّرت في تفكير جيل كامل من الشباب، استطاعوا إحداث تغييرات في العديد من البلدان العربية -العملية التي لم تنته بعد- ما دفع جميع القوى الاجتماعية لإيلاء الموضوع الثقافي أهمية استثنائية.
إذاً، فالمستجدات لم تضِفْ أهمية جديدة لدور الثقافة، بقدر ما نبهت مجددا إلى أهمية الدور الثقافي وخطورته، بعد أن كان هذا الدور مهمَلاً، مؤجَّلاً، مؤخَّراً إلى آخر سلّم أولويات الدولة.
لقد ظلت الثقافة تقع في ذيل اهتمام الحكومات المتعاقبة في برامجها، ولم يكن ذلك نابعاً من تقدم القضايا المعيشية والخدمية الأخرى -التعليم والصحة بشكل خاص- على الموضوع الثقافي، على أهمية تلك القضايا، بل لغياب الوعي بأهمية الثقافة في تحقيق الأهداف الوطنية لدى هذه الحكومات.
وحتى نكون منصفين، فإن المثقفين غير معفيين من المسؤولية في هذا الباب، فالقطاع الأوسع من المثقفين، لا يتفقون -مثلهم مثل الحكومات- على دور الثقافة وأهمية هذا الدور، وبالتالي فإهم غير قادرين، لا على تشكيل ضغط على الحكومات، ولا على إقناعها بدور الثقافة.
كلا الطرفين، يغيب عنهما أهمية التخطيط الاستراتيجي في المجال الثقافي، الغائب موضوعيا. ويبدو أن الكثيرين لا يعتقدون بأهمية التخطيط الاستراتيجي وجدواه، وحتى بإمكانية وجوده في المجال الثقافي. هناك أهمية للتخطيط الاستراتيجي على مستوى الدولة وفي المجالات كافة، بما فيها المجال الثقافي، لأنه لا سبيل إلى إحداث تنمية للمجتمع من دون ذلك.
إن النموذج المتقدم في الإدارة والتخطيط الثقافي، الذي يمكن أن يشكّل المثل للآخرين، أو يستطيع أن يضبط إيقاع الحراك الثقافي، وينقله إلى مستويات وحالة نوعية، تشكل ذخيرة للوطن، تسهم في بنائه، ورفعته، وتحصين إنسانه أمام التهديدات التي تستهدف هويته وشخصيته الوطنية والقومية، ما يزال غائبا في الأردن.
نحن نقصد بالاستراتيجية الثقافية، تلك العملية التي تحدد العلاقة ما بين حاضر الثقافة ومستقبلها، وحاضر ثقافة الإنسان، والمجتمع ككل، وما نطمح أن تكون عليه مستقبلا، وهي الأداة التي تساعد على تحقيق الأهداف المنبثقة عن المصالح الوطنية في المجال الثقافي، وهي، في الوقت نفسه، تلك العملية التي تحدد الوسائل والبدائل اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، وفيها تتحدد النظرة الفلسفية للأهداف، والمناهج والأدوات لتحقيقها.
ومن شأن وجود استراتيجية ثقافية للدولة دمج الفئات الاجتماعية (مختلف مكونات المجتمع) وتعزيز اللحمة الوطنية، من خلال إيجاد جوامع ثقافية، والتقليل من القواسم، وتوحيد الجهود وتنظيمها، وتوفير الموارد وتجميعها، وبالتالي إعادة توزيعها بشكل عادل ومجدٍ. وهو لا يعني، بأي شكل من الأشكال، إلغاء التمايز الثقافي بين مكونات المجتمع وفئاته المختلفة.

أين نحن من الاستراتيجية الثقافية؟
لقد قدمت الحكومة الأردنية استراتيجيتها للتنمية تحت عنوان «الأجندة الوطنية» للأعوام 2006-2015. لم تفرد الأجندة الوطنية محورا خاصا للثقافة، إلا أن الموضوع الثقافي أدرج في محور التعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والإبداع، وأفرد لها عنوان جاء تحته أن الأجندة حددت معالم الثقافة التي نريدها في الأردن، وهي ثقافة وطنية ذات أبعاد عربية وإنسانية تستند إلى تعاليم الإسلام السمحة، بغية بناء نموذج ثقافي وطني يستفيد من منجزات الآخر وينتج خطابا عصريا عقلانيا يؤمن بالحوار والتعددية، وينبذ التعصب والانغلاق.
وتشير الوثيقة إلى أن التنمية الثقافية ذات علاقة عضوية متكاملة مع التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأبرزت الأجندة التحديات التي تواجه القطاع الثقافي، والتي تهدد الإنتاج الثقافي والفني وتحد من الإبداع، وأهمها غياب السياسات الوطنية الواضحة، والاستراتيجيات التي من شأنها تنسيق الجهود وتوفير الموارد بشكل يكفل تحقيق الأهداف.
لذلك رأت الأجندة أن تفعيل العمل الثقافي لا يتم إلا من خلال إنشاء مجلس أعلى للثقافة والفنون برئاسة وزير الثقافة، يقوم برسم السياسات ويضع الاستراتيجيات المتعلقة بالقطاع ويشرف على تنفيذها، كما يقوم بالإشراف على صندوق دعم الثقافة، الذي يشارك في إدارته القطاعان العام والخاص، ليقدم الدعم المادي والتمويل للأفراد والمؤسسات والمراكز الفنية والثقافية والمشاريع ذات العلاقة في المجالات المختلفة وفق معايير ترتبط بالجدارة والموهبة والإبداع.
وقد أخذت «الأجندة الوطنية» بالكثير من توصيات مؤتمر الثقافة الوطني الأول 2004، فقد جاءت توجيهات الأجندة في المجال الثقافي منسجمة مع أبرز التوصيات الصادرة عن المؤتمر، بما في ذلك إنشاء المجلس الأعلى للثقافة والفنون، وصندوق دعم الثقافة، ودعم المبدعين والمؤسسات الثقافية.
وجاءت وثيقة «كلنا الأردن» -كما يفترض- لتضيف على ما ورد في الأجندة الوطنية وتؤكده، وذلك بالعمل على تحقيق التنمية الثقافية من خلال الاستمرار في توفير فرص التعليم وتعميم التعليم الأساسي وتنمية الطفولة المبكرة والاستعداد للتعليم وتنمية الثقافة الوطنية والمجتمعية والبنى الثقافية في مختلف مناطق المملكة.
فهل استطاعت وزارة الثقافة أن تترجم التوجهات العامة في الأجندة، أو في وثيقة «كلنا الأردن» إلى خطط و برامج تنفيذية فعلية؟ أين مكمن الخلل في ذلك؟
يفترض الوضع الطبيعي أن تقود الحكومة، ممثلة بوزارة الثقافة، العمل الثقافي في الأردن، وذلك من خلال إيجاد استراتيجية ثقافية شاملة، وتفصيلية للدولة، بعد أن حددت الأجندة الوطنية الخطوط الأساسية والعامة لهذه الاستراتيجية، وإيجاد مظلة تنظيمية واحدة تضم تحت لوائها مختلف القطاعات الناشطة والعاملة في المجال الثقافي.
كانت المؤسسات الثقافية طوال الحقبة الماضية، وحتى وقتنا الراهن، تعمل ضمن جزر معزولة، وبأقل درجة من التنسيق. فعلى سبيل المثال كثرت المهرجانات الثقافية والفنية التي تكرّر نفسها، وتتضارب مواعيدها، ولم تفلح كل محاولات التنسيق في ما بينها، ما أدى إلى فشلها وتوقف العديد منها.
وقد ظل التخطيط الاستراتيجي غائبا عن عمل وزارة الثقافة والمؤسسات الأخرى باستثناءات محدودة، وكانت تتسم القرارات في كثير من الأحيان بالارتجال. ومن الأمثلة على ذلك: إنشاء مديريات الثقافة في المحافظات وإلغاؤها ثم إعادتها، إنشاء صندوق دعم الثقافة ثم إلغاؤه، إنشاء متحف الحياة السياسية وإلغاؤه ثم إعادته، اتباع سياسة استئجار مرافق العمل الثقافي ثم التحول إلى إنشائها، إقامة المهرجانات الثقافية والفنية وإيقافها (مهرجان أغنية الطفل، مهرجان مسرح الطفل، مهرجان المسرح الأردني، مهرجان جرش، مهرجان الأردن...)، الأمر الذي سبب هدرا في الموارد من دون طائل، وإضاعة الكثير من الجهود. حتى السياسات تجاه وجود الوزارة نفسها، تراوحَت ما بين إلحاق «الثقافة» بوزارات أخرى، أو دمجها بها، أو حلها.. وكذلك مشروع المجلس الأعلى للثقافة، الذي صُرفت عليه جهود كثيرة، ذهبت كلها أدراج الرياح...
إلا أن خطة التنمية الثقافية في الأردن 2006-2008 -وهي الخطة اليتيمة- كانت قد جاءت تنفيذا لتوصيات المؤتمر الثقافي الوطني (2004)، وما ورد في الأجندة الوطنية، كما ورد في مقدمة الخطة، وكانت بداية طيبة لمرحلة جديدة أذنت بها الأجندة الوطنية، إلا أننا نشهد تراجعا عن البناء على هذه الخطة واستكمالها. فلم توفق الإدارة الثقافية من تجديد الخطة، ولم تنفذ العديد من المشاريع التي تضمنتها.
ومع دخولنا في أزمة اقتصادية عالمية فرضت نفسها على الأردن بطبيعة الحال، تراجع النشاط الثقافي، فقد تراجعت موازنة الثقافة من 13 مليون دينار سنوياً خلال الأعوام 2007-2009 إلى 7 ملايين دينار عام 2010، وبقيت برامج الوزارة غير واضحة، ما من شأنه أن يترك المجال للارتجال في تنفيذ البرامج.
إن افتقار الحركة الثقافية في الأردن إلى مرجعية تشكل بوصلة يهتدي بها المثقفون والمؤسسات والهيئات الثقافية، وإلى إطار تنظمي يوحد الجهود وينظمها ويوجهها، ساهم ببقاء الحالة الثقافية في الأردن تراوح في إطار المراكمة الكمية، وحالة غير ثابتة، تتراوح ما بين المد والجزر.

ما المطلوب من مؤتمر الثقافة الوطني؟
نعتقد أن مبادرة عقد مؤتمر ثقافي وطني مهمة لاعتبارات عدة:
أولا: إن ما تمر به المنطقة من تحولات وتغيرات كبيرة، تستدعي التقاء المثقفين، والمعنيين بالشأن الثقافي للتحاور عن دور الثقافة والمثقفين في هذه المرحلة.
ثانيا: لم يجرِ لقاء موسع للمثقفين وللمعنيين بالشأن الثقافي منذ مدة طويلة، وبقي الوضع في المجال الثقافي يراوح مكانه، فأصبح لزاما تقييم المرحلة السابقة من أجل تحديد ملامح التوجهات القادمة.
ثالثا: لأن العمل الثقافي في الأردن ما يزال يسير بعيدا عن التنظيم والتخطيط، أصبح لزاما أن نفكر، ونعمل جادين على إيجاد استراتيجية وطنية في المجال الثقافي تكون قادرة على تحقيق أهدافنا الوطنية في التنمية الشاملة لمجتمعنا، والحفاظ على هويته.
وإذا لم يضع المؤتمر نصب عينه هذه الاستراتيجية، التي يُفترض أن تكون معبرة عن إرادة كل مكونات المجتمع والدولة، فإنه سينتهي مثله مثل المؤتمرات السابقة، أي إلى أوراق عمل وتوصيات تُلقى في الأدراج.

نقلا عن جريدة الرأي