المجتمع من معنى وحضور، بما هي ملْح المكونات الأساس للعقل الجمعي وبالمعنى نفسه، فإن المؤتمر لا ينبغي أن تقتصر المشاركة فيه وتقف على "المثقف" بالمعنى الكلاسيكي، بل يحتاج الأمر وتحديداً في ما نشهد اليوم من تحولات الراهن العربي، أن ينفتح على كل قنوات المجتمع وشرايينه وأذرعه التي تكوّن نسيجه.
وفي تلك المراجعة، فإن أول مقتضياتها أن يتم تنظيم الجهاز المفاهيمي في إطار علمية النشاط ومنهجيته، وهو ما يدعو إلى اختبار ما طرأ على الثقافة في ظل انفتاح العالم على الوجه الكوني، وتأثير الفضائيات والصور، وتداعيات النزعات الفكرية والنقدية العالمية.
إن سؤال المعنى الذي ينطوي عليه المفهوم يشير إلى مراجعة تاريخية تتوقف عند النقاء/ الصفاء الثقافي الذي يلفت إلى أن ثقافتنا تحتاج لإعادة السؤال بالمعنى الذي ينطوي عليه النقاء من جهة، والمتغيرات التي توصف مفهوم ثقافتنا، من جهة أخرى، وهو ما يفتح المدى على التاريخ من زاوية أنه بوتقة الثقافة ومختبرها.
حيث تعرضت الثقافة العربية منذ أكثر من قرن ونصف القرن إلى نوع من التدخل السافر، وأحياناً الجراحة أو التمزيق، فالثقافة العربية تعرضت للمؤثرات الطبيعية التي استوعبت معها نتائج التواصل في الحقبتين الأموية والعباسية، لكنها بعد ذلك تعرضت لنوع من التواصل القهري مربك، وتحديداً منذ الغزو المغولي، ثم السيطرة العثمانية، فالاستعمار الأوروبي.
حلال ذلك ظلت الثقافة العربية في كل مكوناتها وتجلياتها تدافع عن جسدها، وحاجاتها الأولية، وغريزتها الحياتية والإنسانية، ولم يتح لها أن تعبّر عن ذاتها، وهو ما ترك في جانب تلك التأثيرات نوعاً من الاستلاب القهري، وانعكس على الجهاز المفاهيمي الذي انتقل من النظر الكلي للوجود بحكم الرسالة الإسلامية إلى النظر الانكماشي بحكم التقسيمات الاستعمارية، مؤدياً إلى تحولات في العقل الذي تعادله اللغة، والمتخيَّل الذي يوازي المكان، والوجدان الذي يضارع الزمان الحقيقي والنفسي.
هذه التحولات انعكست على اللسان والعقل الكلي والوجدان وتركت أثرها في الجهاز المفاهيمي، بتنوع معنى الثقافة، وهو أمر إيجابي، غير أن اللاإيجابي أن غالبية التعريفات لا تتساوق مع الجهاز المفاهيمي الذي يحدد الأدوار والوظائف، وبالتالي يغيب دور المثقف ومكانته وفاعليته، بل يغيب عن التصنيف الاجتماعي، وهو ما يؤدي إلى خلخلة في خطاب المؤسسات بإزاء ضرورة الثقافة كحاضن ومختبر للتحولات والتغيير والنهضة، وتغيب مفاهيم التنوير والعقل، ويغيب دور المقولات وتغيب الفلسفة، ويغيب الإصلاح بالمعنى الاجتماعي.
ثمة تغيير على مفهوم الثقافة ساهمت في صنعه وسائل الإنتاج وقواه، وتحولات التلقي، والتكنولوجيا، والتحالفات الجديدة بين المال والميديا والسلطة ينبغي أن يُلتفت لها عند عقد مؤتمر للثقافة يجيء في ظل قلق عالمي، واهتزازات إقليمية.
وبالتوالي على ما سبق، فإن معنى الثقافة لا ينبغي أن يسهو عن التأثيرات القهرية التي اندغمت وانسربت إلى متنوعات الثقافة العربية، بما هي ثقافة غربالية قابلة للتنافذ، وأن الثقافة العربية نتيجة لعمليات الطي والتشقق والقهر تنطوي تمتاز بمساحات واسعة لمقاومة الظلم، ونزعات كثيرة للانعتاق، ربما لم تجد لها مثيلاً في اللغات الأخرى، كما حمل كتاب "طبائع الاستبداد" للكواكبي، وما حمل "ديوان العرب" من معانٍ، وما تجرحت به مدونات التاريخ منذ "البداية والنهاية"، مروراً بتاريخ ابن خلدون، إلى ما طرز المؤرخون في راهن أيامنا.
ثمة مساحة واسعة في الثقافة العربية تحمل نوعاً من الاستلاب والتعبير عن القهر ومعاني الانعتاق والحرية، وثمة دوران حول الهوية، والتنوع  غير أنها لم تجترح رمزيات تشير لدلالة المثقف أو الثقافة في المعرفة المجتمعية ومؤسساتها. وهو ما يحتاج إلى المراجعة.
إن نجاح المؤتمر الثقافي لا يتحدد بالمشاركة، فقط، بل يُختبر بمقدار ما يترك من أثر في المؤسسات، والأجهزة المفاهمية وارتقاء الخطاب الثقافي.

نقلا عن الزميلة الرأي