اللوحة الأيقونة «جمل المحامل» لسليمان منصور وأثر الفوتوغراف
عرار:
محمد حنُّون* في بحثي اليومي في تاريخ الفوتوغراف، من حيث النشأة والأدوات والكاميرات؛ بالإضافة للصور الفوتوغرافية القديمة، أتحرى الدقة في المعلومة وما يمر بي، فأستفيض بالبحث عن تاريخ صورة أو صناعة كاميرا. كما أن جزءا من اهتمامي البحثي يصب في خانة الفوتوغراف العربي وتاريخ الصورة في منطقتنا العربية، حيث اطلعت على آلاف الصور عبر السنوات في أرشيفات المتاحف والمكتبات الأوروبية والأمريكية، سواء بشكل مباشر أو من خلال الأرشيف الرقمي على الإنترنت، وكذلك من خلال الصور القديمة الورقية والألواح السلبية الزجاجية والنحاسية التي أمتلكها والتي أعثر عليها في أسواق «العتيق» في الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا الجنوبية، والتي تصل لنحو الـ 2000 صورة فوتوغرافية من حول العالم، وتتراوح تواريخها ما بين العام 1850 وحتى العام 1940. في شهر شباط من العام 2019 وأثناء بحثي عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في فلسطين المحتلة، وجدت صورة فوتوغرافية في موقع فوتوغرافي ديني، ضمن مجموعة صور من فلسطين صُورت ما بين العامين 1900-1920 تحت عنوان «مشاهد من الأرض المقدسة»، والصور هي من تصوير السويدي غاستيغفار ماتسون وزوجته الأمريكية إيديث ماتسون. الصورة التي لفتت انتباهي من بين الصور الأخرى هي لرجل فلسطيني كبير في السن نوعا ما، يحمل على ظهره المحني صندوقين خشبيين كبيرين، وقد ربطهمها بحبل وقام بشده على جبهته المُتعبة، فيما هو يمسك بالحبل بكفيه. يومئذ، وبمجرد رؤية هذه الصورة، تذكرت لوحة «جمل المحامل» للفنان الفلسطيني الكبير سليمان منصور، والتي رسمها في العام 1973. هذه اللوحة التي تكاد أن تكون قد علقت في كل بيت فلسطيني، والكثير من البيوت العربية وحتى في بيوت المؤيدين للقضية الفلسطينية في الغرب، وهي اللوحة التي تعتبر كذلك أيقونة ومن أهم لوحات الفن الفلسطيني المقاوم، والفن الفلسطيني الذي يؤرخ للشتات الفلسطيني وحق العودة والتحرير لفلسطين التاريخية! لفت انتباهي في الصورة هذه ليس فقط التشابه في الموضوع، وإنما أيضا التشابه في البناء البصري والمفردات البصرية ما بين الصورة الفوتوغرافية لماتسون واللوحة التشكيلية لسليمان منصور، من حيث زاوية المشهدين المتطابقتين، بالإضافة لحركة الجسد والذراعين للحمَّال، وطريقة إمساكه للحبل ووضعيته على جبهته؛ ناهيك عن تفاصيل الظل والنور وطيات «الدماية» من الأمام ورفع أحد جوانبها لتظهر الساق والشروال الأبيض، ثم أن هناك تفصيلا بصريا لا يمكن أن يكون مصادفة وهو في منطقة ظهر «الحمَّال، حيث يظهر جانب من حقيبة قماشية يرتديها الحمَّال ليضع فيها النقود وحاجياته، وحين التدقيق في شكل طرف الحقيبة ووضعيتها العفوية في الصورة مع اللوحة؛ يكاد أن يكون التطابق كاملا لولا اختلافات الواقع عن الرسم! تركت هذه التفاصيل في داخلي قناعة بأن هذه الصورة هي التي تأثر بها الفنان الكبير سليمان منصور، بالإضافة إلى أن الصورة ملتقطة في مدينة القدس، وهي المدينة التي يحملها الفلسطيني العجوز على ظهره في لوحة «جمل المحامل». على الرغم من أنني كنت مقتنعا إلى حد كبير بمحصلة تدقيقي بالعملين، إلا أنني كنت ملزما بأن أسأل نفسي السؤال التالي: «هل أثرت هذه الصورة على الفنان سليمان منصور!؟ هل رآها فأوحت له بعمله «جمل المحامل»!؟. قد يقول البعض بأن كل الحمَّالين يفعلون الشيء ذاته ويحملون أحمالهم بالطريقة ذاتها، وبأن فلسطين تمتلئ بالحمالين أو العتالين في تلك الفترة، وهو ما قلته لنفسي كذلك، وبأن التطابق في العنصر الجغرافي للعملين - القدس - قد يكون مصادفة ليس أكثر، ناهيك عن أن مهنة الحمَّالين أو العتَّالين كانت مهنة منتشرة في فلسطين عامة في ذلك الوقت، غير أن التشابه في البناء البصري وزاوية رؤية العملين، بالإضافة إلى التفاصيل البصرية الأخرى في الثوب وحقيبة الحمَّال القماشية وتفصيل وضعيتها على ظهره، لا يمكن أن تكون مصادفة! كنت رأيت قبل ذلك صورا كثيرة لفلسطين والأردن في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين للمصورين ماتسون في الأرشيف الرقمي لـ «مكتبة الكونجرس الأمريكي»، ولكني لم أر هذه الصورة من قبل. دخلت الأرشيف الرقمي للمصورين ماتسون مرة أخرى، إذ كان غاستيغفار قد أهدى الأصول السلبية الزجاجية للمكتبة في العام 1966 بعد وفاة زوجته ورفيقة مشروعه الفوتوغرافي التاريخي، وكان الأرشيف هذا يقارب الـ 20 ألف شريحة سلبية لفلسطين والأردن ولبنان وسورية ومصر والسودان ودول أخرى، وقد قامت المكتبة بتحويل الصور جميعها لصور رقمية ليتمكن الباحثون والمهتمون من الوصول إليها عبر الموقع الإلكتروني للمكتبة. رحت أبحث بشكل معمق في الأرشيف كاملا، مستخدما خاصية البحث المفصل حتى توصلت للصورة الأصلية للحمَّال الفلسطيني، وقد تبين بأنها صورة مزدوجة، ما يعني بأنها صورت بكاميرا «ستيريو» مزدوجة العدسات، بحيث تنتج شريحة سلبية مزدوجة للصورة نفسها ليتم طباعتها بشكل مزدوج كذلك، ليتم رؤيتها من خلال أداة فوتوغرافية تُسمى بـ «ستيريو سكوب»، تتيح للمتلقي رؤية الصورة بشكل ثُلاثي الأبعاد! كان السؤال الذي راودني آنذاك كما ذكرت أعلاه : «هل هذه الصورة الفوتوغرافية هي التي أوحت (بصريا) للفنان الفلسطيني سليمان منصور القيام برسم عمله الفني التاريخي «جمل المحامل»!؟» هَممت يومئذ بمراسلة الأستاذ سليمان منصور لسؤاله بشكل مباشر عما إذا كانت هذه الصورة الفوتوغرافية قد أتيحت له فرصة رؤيتها، وهل تأثر بها فأوحت له برسم عمله الفني التاريخي !؟ ولكنني ترددت على الرغم من أنني قد وصلت لقناعة بأن الفنان سليمان استخدم هذه الصورة لرسم لوحته التاريخية. ترددت لأنني شعرت بأنه قد يُفهم من سؤالي بأنني أنتقص من أصالة اللوحة فنيا ومن مخيلة الأستاذ سليمان منصور، لذا قمت بتأجيل الأمر ورحت أسأل نفسي أولا : « بالإضافة لأهمية تبيان أثر الفوتوغراف على الفنون التشكيلية - وهو ما قمت بالكتابة عنه في مقالات سابقة - ما الذي أريد قوله من خلال هذا التقصي حول رؤيتي وتحليلي للعملين بصريا، وما إذا كانت لوحة «جمل المحامل» مستوحاة بصريا من هذا العمل الفوتوغرافي أم لا؟!». يومها، لم أجد جوابا، إلا ذلك الجواب الفني التقني عن أهمية إختراع الفوتوغراف وتأثيره في الفنون البصرية الأخرى، وهو لم يكن جوابا كافيا في سياق هذه اللوحة تحديداً، حيث أنه وفي داخلي ثمة أشياء أريد قولها إنسانيا ووجدانيا، وليس فقط فنيا، حول ما يمكن لهذا الأمر - إن ثبت - أن يضيف للوحة «جمل المحامل». إن التأكد من هذا الأمر، وهو بأن اللوحة تستند لصورة فعلية لحَّمال فلسطيني حقيقي من دم ولحم ومن مدينة القدس، وهي المدينة الفلسطينية المحورية في عمل «جمل المحامل» كرمز لفلسطين التاريخية كلها، سيضيف إلى اللوحة، برأيي، قيمة وجدانية إنسانية وجمالية فنية تاريخية جديدة، بل وسيجعلها أكثر قربا من واقع الفلسطيني المتعب بأحماله، بالإضافة لذلك، سيكون التأكد من هذا الأمر شيئا مُهماً بحثيا في تاريخ هذه الجوهرة الفنية الفلسطينية «جمل المحامل»، وأن يعرف مصدر الإلهام البصري للفنان سليمان منصور حين رسمها، في حين أننا نعرف بأن مصدر الإلهام الرمزي للوحة قد جاء من نكبة الشعب الفلسطيني وعذاباته، وهو ما كان ولا يزال الفنان سليمان منصور مرتبطا به ولا يبارح ريشته ووجدانه. إذا تأكدت من هذا الأمر؛ وهو أمر لم يُعرف من قبل بالرغم من عشرات المقالات والدراسات التي قُدمت منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى يومنا هذا حول هذه اللوحة، وهو أيضا ما لم يقله الفنان سليمان منصور في أي مقابلة صحفية أو دراسة أو ورشة نقاش ودراسة حول لوحته وتاريخها، فسيكون هذا الأمر له قيمته بحثيا وفنيا للباحثين في الفن التشكيلي والذين قد يدرسون هذه اللوحة مستقبلا، وسيكون كذلك له قيمته فوتوغرافيا، وهو ما يهمني بالدرجة الأولى كفوتوغرافي وكباحث وكاتب في الفوتوغراف وتاريخه، وفي أثر الفوتوغراف على الفنون الأخرى منذ أن أخترع على يد الفرنسيين نيبس وداجير في أواسط القرن التاسع عشر. بعد شهرين من البحث على الإنترنت وقراءة الكثير من المقالات والدراسات والورش والمقاطع التلفزيونية التي تناولت لوحة «جمل المحامل» وكان بحثي بأكثر من لغة، لكي أتأكد بأنه لم يذكر أحد من قبل هذا التشابه البصري ما بين الصورة الفوتوغرافية هذه ولوحة «جمل المحامل»، فَلَمْ أعثر على شيء من هذا القبيل، لذلك قررت أن أقوم بمراسلة الفنان سليمان منصور لتكون استنتاجاتي أكثر موضوعية! بعثت برسالة وأخبرته برؤيتي للأمر وبالتشابه الذي أراه في البناء البصري بين الصورة الفوتوغرافية هذه وعمله الفني التاريخي «جمل المحامل»، وباعتقادي المستند للمقارنة بين بُنية العملين بصريا؛و بالتالي بأنه تأثر بصريا بهذه الصورة الفوتوغرافية! سألته يومئذ كتابة على خانة المراسلات الشخصية في الفيسبوك، وقد بعثت له الصورة الفوتوغرافية قائلا: «أستاذ سليمان.. هل مرَّت بك هذه الصورة في زمن ما وأوحت لك برسم لوحتك؟!». وذكرت له تاريخ الصورة أنها ألتقطت في القدس لحمَّال فلسطيني وصورت ما بين العامين 1900 و1920، وبأنها صورة من مجموعة صور في فلسطين لفوتوغرافي سويدي وفوتوغرافية أمريكية، وكتبت له توطئة شبه اعتذارية قائلا « هذا السؤال ليس تقليلا من القيمة التاريخية أو الفنية للوحة». انتظرت رده بفارغ الصبر، وكنت متوترا حقيقة بعض الشيء، وبعد ساعة أو نحوها قرأ رسالتي ووصلني الرد! كان ردا أنيقا وجميلا وصادقا وواثقا إلى أبعد حد، حيث كتب الأستاذ سليمان منصور « أشكرك أخي محمد وأنا أعرف هذه الصورة جيدا». نزلت إجابته على قلبي كالثلج، أولا بأن الفنان سليمان أخذ السؤال بروح الفنان الكبير ومدركا غاية السؤال البحثية، وثانيا لأنني أبين أمرا جديدا وجانبا مختلفا في هذه اللوحة الفنية والتاريخية «جمل المحامل» ولم يبينه أحد من قبل! ولكنني، ولكي أتأكد من الأمر أكثر سألت الفنان منصور بشكل مباشر وكتبت حرفيا له «هل كان لهذه الصورة الفوتوغرافية الأثر أو الوحي على عملك العظيم جمل المحامل!؟» فقام بالرد مباشرة وقال: «أكيد». *فوتوغرافي فلسطيني – أردني/ سانتياغو