عرار:

إنَّ المتتبع للحالة الإبداعية في الآونة الأخيرة يرى بصورة كبيرة واضحة للعيان أنَّ المادة الأدبية _على كثرتها_ تفتقر إلى كثير من مقومات الحياة، بل إننا لا نخطئ القول إن قلنا إنَّ معظم تلك المواد هي مواد ميتة لا روح فيها؛ ولعلَّ ذلك عائد إلى مجموعة من الأسباب من مثل؛ قلة المعرفة الخلفية لدى الكُتَّاب، وهذا بدوره يجعل الكاتب يمتلك مجموعة من المفردات يكررها بين الفينة والأخرى؛ لضعف معجمه اللغوي؛ ليصبح النص عبارة عن مجموعة من المفردات المكرورة لا تحمل معها أية دلالة.
الأمر الآخر الذي قاد إلى مثل هذه الحالة الأدبية ما أسميه بـ «المجاملات الإلكترونية» وهي عبارة عن مجموعة الآراء الصادرة عن أهل الاختصاص وغيرهم عبر صفحات (الفيس بوك، والواتس أب) وهذه _في مجملها_ تقدِّم الكاتب على أنه نموذج في الكتابة، وأنه لا بد من الإشارة إليه والإشادة به، وهنا يكون المتلقي إما على دراية بأدوات النقد، لكنه لا يريد أن يكون كبشا للفداء في حال ما تناول المادة بمنهج علمي قد يكشف رداءة تلك النصوص، لذلك يلجأ إلى المجمالة الإلكترونية. وإما أن يكون لا علم له بالنقد وأدواته، لكنَّ الفضاء الأزرق (الفيس بوك) أتاح له مساحة غير محدودة ليكون ناقدا دون علم أو دراية، وبذلك تكثر عبارات المديح والثناء والتعظيم، ولَي أعناق النصوص؛ الأمر الذي يجعل أصحاب المادة المُقدَّمة يعيدون حساباتهم في أنهم يشكلون حالة فريدة من الإبداع بحاجة إلى لفت الأنظار فقط لا غير.
في كثير من دول العالم _التي يحترم الكُتَّاب فيها أنفسم_ عندما يصل الكاتب إلى مرحلة متقدِّمة من الإبداع يتوقف!! يتوقف؛ ليحافظ على تلك المرحلة التي وصل إليها في الكتابة أو في النقد أيضا؛ حتى لا يسقط ويعود إلى الأسفل، فهو يعترف أنَّ السقوط سيكون مُدويَّا، وربما لو تتبعنا بعض الأدباء من الكُتَّاب: شعراء وروائيين وقاصين، ونقَّاد لوجدنا أن بعضهم عندما استمر في الكتابة أخذ بالتراجع شيئا فشيئا، وهذا أمر طبيعي، فهناك مرحلة معينة يصل إليها الكاتب من الإبداع، له الخيار في أن يتوقف عندها أو يهوي، وإذا ما ذهبنا إلى العديد من الشعراء _على وجه التحديد_ نجد أن هذا الكم الكبير من الدواوين الشعرية لا تكاد تجد فيه قصيدة واحدة، بل إن بحثك عن الجمال فيه، كمن يبحث عن إبرة في كومة قش!
إنَّ الإبداع هو حالة شبيهة بالولادة، وما يحدث في ولادة القصيدة أو الرواية أو القصة، أو القراءة النقدية، هو عينه ما يحصل في الولادة البشرية من تزاوج، واهتمام بالجنين قبل الولادة، ومتابعات، وتغذية سليمة وغيرها، مسبوقة بالحب قبل كل شيء؛ لذلك كثيرا ما نجد في وقتنا الحالي العديد من النصوص المُشوَّهة والمبتورة! مئات القصائد، وعشرات الدواوين تعاني حالات من التشويه ما هو كفيل أن تحوقل عليها، وتدعو لأغلبها بالرحمة، فمنها ما يموت في رحم أمه، ومنها ما يموت بعد الولادة مباشرة، ومنها ما يكتب له العيش وهو يحمل هذا الكم من العذابات والابتلاءات!
من أجل ذلك لا بد للجهات الرسمية المعنية بالحالة الإبداعية الأدبية من توجيه بوصلة النقد نحو تلك الكتابات قراءة وتمحيصا، بأدوات نقدية، ومنهجية علمية مدروسة، تضع المتلقي أمام الصورة الحقيقية لتلك النصوص بجمالياتها وعيوبها، وهذا الأمر منوط بالدرجة الأولى بالجامعات الأردنية والعربية بشكل عام، وبأساتذتها المختصين في ذلك، فلا عذر لهذا الغياب الذي أضعف الحالة الأدبية، وجعلنا نتوجس خيفة في مجمل ما نقرأ.