الأرواح والأشباح في رواية «الحب في زمن العولمة» لصبحي فحماوي
عرار:
د. شعبان عبد الحكيم/ مصر تأتي رواية «الحب في زمن العولمة» لصبحي فحماوي في مجموعة من الفقرات (56 فقرة) كالآتي: تنويه، أشباح وأرواح، البطين، التماثيل، ثريا، الطبيب فريدريش، هذيان، جامعة عربية، أبو إحسان، الحاجة صفية، أبو ريان، بركات، خرافات، ذكريات، واقعة، مهران، مطعم السهيرة، مدينة العولمة، أسمهان، سامارو، سميرة، مها، منارات، منذر،رالف وود...إلخ، وكل فقرة عبارة عن أقصوصة صغيرة داخل الإطار العام للرواية، وتتناول القصَّ عن جانب من جوانب مدينة العولمة، التي تعتمد على سيرة سائد الشواوى ومشروعاته الاقتصادية المستغلة لثروات الشعب، ويسير السرد من خلال هذه الفقرات في محورين: حياة الشواوي، الحياة في مدينة العولمة. تبدأ الرواية من نهايتها فنرى سائد الشواوي ممدداً على سرير الموت مصابًا بالإيدز، يهذي في نومه، ومن خلال هذيانه يحكي عن حياته الماضية، وأحيانًا نراه يُعبِّر عن رأي الكاتب في رفضه لكل مظاهر العولمة في الاستغلال والتزييف والخداع والنصب والتحايل، يقول في هذيانه: - دجاج! دجاج!.. عمارات! عمارات!.. سيارات! سيارات!... كلها متحركة باتجاه واحد، قادمة من اتجاه واحد، وذاهبة لاتجاه واحد... العمارات متحركة أنا لم أغش في صناعة العمارات... ولكن هي العمارات زبالة! الموسم زبالة! التكنولوجيا زبالة! العولمة زبالة! - سنستغني عن كل العمال، وموظفي المكاتب، كلهم كلاب! كلهم حرامية! نأخذهم، ونعلِّمهم ونشغِّلهم، وندفع لهم، فنجدهم مشغولين «بالإرهاب» ضدنا، نطعمهم بأيدينا، فيعضُّون اليد التي تمتد لإطعامهم، ولكننا نحن رجال الأعمال سنرميهم في الشارع بلا وظائف، سندير كل أعمالنا بالكمبيوتر، سنشغّل الرجل الآلي في كل الأعمال، ولن نتحمل أوساخكم أيها الحقراء «الإرهابيون» سترتمون في الشوارع بلا وظائف (ص94) ففي هذيانه يذكر أنَّ كل شيء صار زبالة، وعماله كلاب وإرهابيون.. إنها الحقيقة التي جاءت على لسان سائد وهو على سرير الموت بعدما انكشف له كل شيء، في لحظات يظهر فيها غير سوى، لذا فكلامه لا يُسمع، ولكنه هو الحقيقة، وهذا الكلام يفضح عالم العولمة ويعريها دون حياء. هذه حياته في النهاية يكاد أن يشاهد أشباحًا متحركة طويلة سوداء، بأذرع عديدة تتماوج في الهواء، وأرواحًا هائمة! على شكل بقع ضبابية سابحة في الفضاء المعتم، تجتاح أفرع الأشجار الباسقة، فلا تعرقلها، ولا تتأثر باصطدامها بأعمدة الكهرباء، أو الهاتف، ويسمع أنينًا مخنوقًا لموتى يتألمون تحت الأرض(ص8) ما أصعب هذه النهاية! إنها تنبىء بسوء المصير، وسوء العاقبة. سائد الشواوي نموذج لرجل العولمة الذى لا يفتأ لحظة أن يبحث عن جمع المال بكل الطرق والوسائل غير المشروعة، مستخدمًا كل الحيل اللاأخلاقية في السطو والنهب والتمثيل والدجل، ناشدًا المتعة والظهور اجتماعيًّا، كل شيء في حياته مباح من أجل تحقيق مشروعه الاقتصادى الجبَّار.. بدأت الرواية من نهاية سائد الشواوى شخص الرواية الرئيس، ولكن السرد يتخذ طريقة الفلاش باك، في سرد أحداث سائد الماضية لا بطريقة التسلسل المنطقي للأحداث، ولكن الكاتب – هنا – يستخدم تقنية تيار الوعى، وفيها تُسرد الأحداث كما ترد على الذهن، ونفتقد النظام والمنطقية ومبدأ السببية في توالى الأحداث، حيث تسترجع الرواية ماضيه: كيف صنع هذه الثروة، وبأية وسيلة كانت؟ وترد كثير من الأحداث على شكل شذرات على ذهن سائد، فتسرد لحياته وسلوكياته حتى لحظة مرضه، من ولد راسب سادس ابتدائي، إلى ملياردير، وصاحب أموال، فلا يعرف- حتى هو - كم تبلغ ممتلكاته وأمواله.. توسط له أبو سعفان مدير الشرطة عند رئيس بلدية البطين ليعمل مراسلًا في قسم المساحة، ثم عمل مساعد مسّاحٍ، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، لقد كان هذا الشاب واعيًا، ومدركًا لما يريده، منذ صباه كما يقول وهو يهذي: «لم أطمح أن أكون رئيس بلدية، فرئاسة البلدية بحاجة لمواصفات، لا تنطبق على شخصيتي، الرئيس يجب أن يتعلم المرونة، يجب أن يعرف كيف يتحوّل إلى أسد في لحظة! وفي لحظة أخرى، يستطيع أن يُكوِّر ويقزم نفسه (ص35) أريد أن أكون تاجرًا حرًّا، وبصفتي مَسّاحًا مرخصًا، فأقرب شيء إلى قلبي هو الأراضي... تجارة الأراضي.» وفعلاً عمِل بمقولة جارههم : «هناك معادلة بسيطة تقول ؛ إن مساحة الأرض ثابتة، وإن عدد السكان يزداد بشكل هائل. معنى ذلك أن الطلب على الأراضي يزداد، وبالتالي ترتفع الأسعار.» (ص37) وإلى جوار تجارة الأرض تاجر في بضائع عدة، وبصورة استغلالية فجَّة كان يكسب أضعاف ثمنها، فقد كان يشتري العنب والتين المجفف والجبن من البدو والفلاّحين بالرّطل (البرّاوي) وإذا باع لأهل المدينة، فإنه يبيع بالأوقية... كان يبيع بأربعة أضعاف سعر الشراء.. ناهيك أنه كان كالمنشار، يكسب من المشتري، ويكسب من البائع! (ص41 ) وكان يرشى المسئولين بطريقة غير مباشرة بإرسال الهدايا المادية إليهم تارة، فيجد ثمرة ذلك الترقي في وظيفته، أو هدايا المتعة الخاصة تارة أخرى، فكان يرسل الحسناوات للمسئولين، مكلفًا « مها « التى تقود شبكة دعارة التي فهمت لعبته، فكانت ترسل الجميلات إلى رفاقه من المسؤولين.. والجميلة غادة لوزير الأشغال، والحسناء سلوى لوزير التعليم والحوراء ريتا لوزير الضرائب والمكوس، والشقراء شيرين لرئيس تحرير الجريدة العولمية « (ص 61) وأصبحت له صولات وجولات في عالم الاقتصاد، فاشترى مئات الهكتارات من أراضي الغلابى، الّذين يجهلون أسعارها، وأسس (محلاّت الشواوي للاستيراد والتصدير!)، وأصبح شخصية يُشار إليها بالبنان، وعندما فاحت سيرته، تخلص منه محمود التكفاوى الرئيس الجديد لبلدية البطين، وذلك حفاظًا على سمعتهم.. وكما قال أحدهم: (هيك، خلعنا السنّ، وخلعنا وجعه (43) فتفرغ لعمله التجاري العولمي، وأصبح له مستشارون عالميون، سامارو من الهند، رالف وود من نيويورك، سندجار من الفلبين، محمد منارات من كوالا لمبور، و ديفيد فريدمان و رتشارد نيكلسون من أمريكا..إلخ. تضخمت قبضته على العقارات بفضل سماسرة الأراضي وشبكة من العملاء، مستغلا ظروف البائع يقول لأحدهم «سأدفع لك ما تريد، اتصل بي لدى سماعك عن أية قطعة أرض واقعة، صاحبها مريض ومحتاج» (ص 87) أمتلك قصرًا فخمًا، أشرف على تشييده المهندس جمال الزَّوان، وجلب له مواد البناء من مناطق عدة في عالم، واستقدم لديكوراته عاملين من عدة مناطق في العالم، ناهيك عن الحديقة الفخمة والتماثيل العتيقة التي زينت هذا القصر، ولكن الرواية لم تظهر سعادته واستمتاعه بهذا النعيم، لأنه مال حرام، لا يُسْعِد، ولا يستمتع به صاحبه، فلم نره إلا وهو في هذيانه على سرير المرض «في غرفته الجديدة في القصر.. وكانوا قد فرشوها له بأثاث فخم... كان ينام قليلا، ثم يصحو، ويهذي كثيرا... تشاهده الآن قد كبر وشاخ، مرمياً على سريره، لا يتوقف عن الهذيان بصوت عال» ( ص38) أصبح سائد الشواوي عمودًا من أعمدةِ العولمة، وليس تابعًا بل مدعِّمًا لها، واتخذَّ من مطعم السهيِّرة مقرًّا له « الذي يرتاده كثير من سماسرة الأراضي، فيبدو وكأنه سوق سوداء للأراضي، وفي نهاية السهرة، كانت تتم مبيعات، وتنقل للشواوي معلومات عن أراض وعقارات؛ أصحابها محتاجون، أو مختلفون مع بعضهم، أو وارثون لم يتعبوا بالحصول على الأرض، ولا يعلمون قيمة أراضيهم التي ورثوها، وفي اليوم التالي يذهب سائد الشواوي إلى مديرية الأراضي فيسجِّل أرضاً مشتراة بتراب النقود! (ص49) وازدادت صفقاته التجارية، وسافر إلى الشرق والغرب، فاستورد الأدوات المنزلية من الصين، والملابس من تركيا، وأقام معرضًا للسيارت الألمانية المستعملة، وصارت له نشاطات تجارية متعددة، وصار يعرف كيف يعيِّن مديرين، في فروعه المتزايدة داخل المدينة، وكيف يكون له محاسبون قانونيون، ومدققو حسابات معتمدون، وأصبح هو متحرِّكًا بين محلاته، وبين الأسواق التجارية، وعملائه هنا وهناك (ص50) وبقوة رأسماله، وبدعم حمد الله الكفري، وعلاقة زوجته أسمهان مع رفيقتها سميرة زوجة المدير العام للبنك المركزي، صار سائد الشّواوي عضوًا إداريًّا في البنك المركزي، وهذه العضويّة جعلت منه شخصًا مؤثّرًا في السّياسة النّقديّة للولاية، وكان يهتم بأن تكون له بصمات في تحرير البنوك من عقد التّحويلات للخارج، فصار يستخدم كل علاقاته وذكائه لتشريع حريّة تحويلات العملات المحلية والأجنبيّة، من وإلى الولاية بدون قيود، وهذه ضرورة من ضرورات خروج رؤوس الأموال، هرباً من الضّرائب العالية (ص 77) لقد مارس الشواوي كل اللعب الاقتصادية المتدنيّة، منها لعبة شراء الأسهم وبيعها من شركات محدودة، وبصورة مدروسة وممنهجة، ينقَضُّ على الشركات ذات رأس المال المحدود، بطريقة متدنية فيضطرها لبيع أسهمها بأسعار زهيدة، يشتريها مستغلًا الظروف، إلى أن يبيع هذه الأسهم بأضعاف أضعافها.. نذكر منها شراؤه الأسهم المعروضة من شركة تأجير الآلات الميكانيكية، والتي لم تزد عن مائتين وخمسين ألف سهم، بربع مليون دولار، وكان بنك التجارة العولمي يملك مثل هذا العدد من الأسهم للشركة نفسها، ولما كانت أسهم الشركة حوالي مليون سهم فقط، فبأكثرية عدد الأسهم، تربّع سائد الشواوي رئيساً لمجلس إدارة الشركة، وبلعبة اقتصادية ساقطة، باع مستشاره (سامارو) كل الأسهم التي اشتراها من شركة التأجير، بنصف مليون دولار، فانهارت أسهم الشركة في السوق، انهيارًا تامًا، ونزل سعر السهم الواحد إلى أقل من نصف دولار، خاف حاملو الأسهم لعلمهم أن سامارو مستشار الشواوي قد باع أسهمه، ربما لأنه عرف إفلاس الشركة، فباعوا أسهمهم، فكانت أسعار الأسهم تتساقط على الأرض، انقضَّ مستشاره سامارو على الأسهم مرّةً أخرى وهي رخيصة جداً، فاشتراها كلها بأسعار تتراوح ما بين ثلاثين، وأربعين سنتاً! ( ص 57 )..وفي غضون سنة ارتفع سعر السهم إلى ثلاثة، ثم خمسة دولارات، وهكذا استطاع جمع ملايين الدولارات في عام واحد. ومن هذه الأنشطة التجارية التى زاولها مستخدمًا التزييف والتزوير في استيراد البضائع منتهية الصلاحية، ثم إعادة تغليف ورقة عليها من جديد، وكتابة تاريخ صلاحية جديد، منها كميات العسل المنتهية صلاحيتها ( ص70 ) ومنها صفقة اللحوم، التي كان المتفق عليه استيرادها في قطع مجمدة، وعندما جاءت السفينة، أنزلوها، ووجدوها غير مطابقة للمواصفات، وبعلاقات الشواوي، تمَّ إرسال عددٍ من النجّارين، قاموا بتقطيع اللحوم، ثم غلِّفوها بالورق الشفاف مرّة أخرى، ووضعوها في أكياس، وفي الوقت نفسه أرسل لعملائه الأجانب أن يغيّروا أوراق التصدير، من (لحوم مجمدة قطعة واحدة) إلى (لحوم مجمدة مقطّعة)، وغيِّر رقم الإرسالية ورقم الشحنة ورقم المستندات المرسلة، رغم أن تقطيع اللحوم في هذا الجو الساخن، ثم تجميدها مرة أخرى، يؤدى إلى تلفها فتصير اللحوم غير صالحة للاستهلاك البشري ( ص 85) ومن هذه الحيل المزيفة تعطيش الدجاج اللاحم قبل البيع مباشرة، ثم تقدّيم وجبة طعام لهُ، من رمل الصحراء المملح بمواد فاتحة للشيهة، فتأكل الدواجن الرمل بشراهة، مما يزيد من وزنها، مما دفع بالمهندس جواد
لتقديم استقالته رفضًا لهذه الامتهانات غير الأخلاقية، أكثر من ذلك؛ «جمعوا مخلفات المسالخ من دم وشحوم، ثم رموها وأضافوها للأعلاف المركزة، لتتغذى الدواجن بها، مما جعلها تفور مع الهرمونات بسرعة، وتحقق أرباحاً عالية. (ص90).