|
عرار:
مونبرناس موقع معلوم من مواقع مدينة باريس الفرنسية عنوانه عمارة شاهقة منها اتخذ اسمه أو هو اتخذه منها. وهو هنا عنوان اختاره الكاتب السوري لطوف العبد الله لآخر نص روائي نشره. ويمكن اعتباره من قبيل العناوين المخادعة على النقيض مما تضطلع به العناوين عادة فيما تذهب إليه الأبحاث المهتمة بالعتبات. فقد يستبق القارئ النص ويعتقد أنّ الكاتب سينقله إلى ذلك الموقع ويجول به فيه حيث تدور أحداثه، وهو زائر سائح. غير أنه بمجرد دخول المتن لا يرى البطل مطمئنا هناك ولا أحداث الرواية تدور فيه، إذ أنّ بطل الرواية وإن حل جسدا هناك قد طار به الفكر إلى مواقع وأزمنة متعددة وبعيدة لم يكن مونبرناس إلا قادحا لها أو باعثا إليها. وبطل الرواية ضمير "هو" مسمى دون اسم، يجعله ضمير الغائب مطلقا، ولكل أن يرى نفسه أو سواه فيه. يرصده راو عليم ينقل حركاته وسكناته وهواجسه وأحلامه. وقد يتدخل بالتعليق والحكم أحيانا. وقد يكون الراوي هو البطل "هو". فيصبح النص ضربا من السيرة الذاتية التي تكتب بضمير الغائب شأن صبي طه حسين في أيامه. غير أن " هو " مونبرناس نقل من مرجعه جوانب ليست بالضرورة خاصة يتفرد بها دون سواه. وإنما تتسع لتشمل كل من يشاركه هواجسه وهمومه، فيكون بذلك أي إنسان عربي يعيش واقعه ويعيه ويتألم به ومنه، وله نفس هواجس الكاتب ودرجة وعيه... ومما يدعم قرب النص من جنس السيرة أنّ البطل يكاد يكون الشخصية الوحيدة الفاعلة والصانعة للأحداث. ولا يرافقه في ذلك إلا شخصية عرضية يلقاها لبرهة في حوار محدود ( حسين الواد). أما الشخصية الثانية فهي سيدة المقهى التي تظهر فجأة وفي ظرف لا يستدعي حضورها ضرورة وعند بلوغ النص ما يقارب نصفه. ولكنها تصبح الشخصية الثانية المشاركة في أحداث النص ومشاغل البطل. وهي أيضا كائن دون اسم مما يعطيها شيئا من إطلاق شخصية البطل. أمّا بقية الشخصيات فبعضها كائنات أو أشباح كائنات لا هوية لها. وقد استدعى ظهورها حضور الكاتب مؤتمرا ثقافيا حيث يلاقيهم جسدا ولا يلتقي بهم وعيا. فهو معهم على تنافر بدل التوافق ...أما البعض الآخر من الشخصيات فقد استدعاهم البطل أو فرضوا عليه وجودهم بمواقفهم وآرائهم دون حضور مجسد، أي هم آراء ومواقف قبل أن يكونوا ذواتا مجسدة. وقد جاؤوا النص من مضارب متنوعة ومتعددة بعضها قريب العهد بالنص وصاحبه وبعضها الآخر قديم ضارب في الزمن يعود إلى قرون بعيدة مثل المتنبي وأبو البقاء الرندي وعبد الله الشهرزوري وبشار بن برد وجرير... ثم الجواهري والشابي ونزار قباني وبدر شاكر السياب... ومع كل فرد من هؤلاء يجد البطل بعضا من ذاته، فيلتحم به ويطمئن إليه رغم البعد في المكان والزمان... وبهذا يكون هو متعدد الأبعاد لا ينحصر مكانا في مونبرناس أو حتى مدينة باريس ولا يحاصره زمن. فيتجاوز الراهن عائدا إلى التاريخ أو مستشرفا المستقبل. وهو في كل ذلك يتجاوز ذاته وكيانه ليصبح كائنا متعدد الأبعاد أو جملة من الكائنات انطلقت منه أو انقسم فيها شظايا. والفعل في كل ذلك هو ما يجول في خاطره من مفاهيم ومواقف ورغبات. وإذا حاولنا حصر هذا التعدد فإننا قد نرى النص قائما على الثنائية. وهي بنية يتخذها الكاتب منهجا منذ بدايته، إذ يقول" هي ذات السماء ولكن الغيوم مدلهمّة. الشمس ذاتها لكنّ الضوء يقلب بصره فتستهويه الشاهقات... وقد التصق على وجهها نور الشمس الباهت ملتجئا إلى بياضها ونقائها من برد الفراغ ...صورتان تتعاركان في نفسه واحدة تستنبطها بصيرته وأخرى يتلقاها بصره بينما الجسد ثابت لا يتزحزح". هكذا هو إذن جسد واحد وقد انشطر بين البصر والبصيرة. ويصبح هذا الانشطار قائما يحكم كل الرؤى والمواقف والأحداث تقريبا. فالزمن في النص ماض وحاضر وأحداثه بين الأمس واليوم. والمكان ساحة اليونسكو بباريس والصحراء العربية الشاسعة. وشعر المرأة خليط من السواد والشيب الأبيض على جسد أبيض يلفه فستان أسود، كما تلون الحناء بياض الكف. والهواء تياران يتصارعان والعقارب نوعان، العقرب اللاسع وعقارب الساعة. والحيوانات قطط وكلاب والإصبع يدخل في موضعين، مؤخر الدجاجة عند الملسوع وعلى زر المدفع عند نزار...والثنائية المتحكمة في كل ذلك هي ثنائية الوطنية والخيانة. ولا شك في أنّ هذه الثنائيات كلها كان إطارها المتحكم العام هو موضوع الرواية الذي يمكن اختزاله في الموقف من واقع العرب ومستقبلهم. فالمؤتمر الذي يحضره موضوعه حوار الحضارات؛ لكنه يبدو ساخرا منه لأنّ وطنه وأمته لا مكان لهما فيه، كما لم يقنعه حسين الواد بموضوع روايته... وتنقله بين مونبرناس وبرج إيفل يبدو دون غاية معلومة. ويلقي به نهر السان إلى دجلة والفرات باعتبارهما رمزا للوحدة الطبيعية المفقودة والمرغوبة. وعندها يحضر المتنبي من القديم وبدر شاكر السياب من الحديث، فينصهر بهما انصهارا كاملا. ويصبح السياب ناطقا بلسانه. وينتقل المكان من باريس إلى قرية جيكور. أما ما يجمع المتنبي بالسياب، فهو معاناة الغربة وبعد الأحبة وغدر القريب وخيانة الذات والوطن من القريب والبعيد ومن الداخل والخارج. ويلقي به مشهد موت ديانا إلى أشلاء أهله حيث هم وترتسم صورة استعمار فرنسا لوطنه. أما مشاركة البطل في مؤتمر الحوار فقد كانت فرصة للسخرية من مثل هذه اللقاءات. فكانت مداخلته فيها شاذة قوامها الواقعية والسخرية. ومنطلقها حدة الوعي بواقع وطنه وأهله، كما كان فرصة لبيان مهزلة الانتخابات وكذب المترشحين فيها وأخبار الإعلام مرّة وقد انعكست مرارتها على القهوة التي يحتسيها. وعندها تصبح حالة التمزق رهيبة وطاحنة. وكان من الطبيعي أن تستدعي كثافة المأساة التغيّر في الرؤى والمفاهيم، فتهاجر الكلمات معانيها الأولى وتتبادل مواقعها فيختلط "النزول" بـ " التنازل". وتستحضر الخرائط بكاء نزار وسايكس بيكو وأجراس فيروز وردّ نزار... حتى يصبح للشيطان دور طريف وتتحول غوايته إلى نصيحة فيها الخلاص، فيجد أبو نواس مكانه... وقد اختار الكاتب أن يكون قادح علاقة البطل بالشخصية الثانية "الفتاة" ذا رمزية هامة رغم بساطته. إنه الكحل الحجازي ثم دعمته اللغة. فكان الالتقاء جادا ولكنه مثير لقضايا لا تقل حرقة عما سبق. كان ذلك عندما كشفت الفتاة أصلها وعلاقة والدها بجيش المستعمر الفرنسي. فهي إذن سورية فرنسية، تحاول مع والدها تبرير موقعها وعلاقة العائلة بنزار قباني. لكنّ البطل يسافر إلى ذلك الماضي الأليم وحتى إلى ما قبله ويستحضر عبارة "ها قد عدنا يا صلاح الدين"؛ فينشدّ إلى ماضيه الأليم وحاضره الأشد ألما. وتحاول البطلة شده إلى المستقبل فلا تفلح. ويحضر المتنبي مرة أخرى. وتتواصل المعاناة النفسية والتمزق الذاتي إلى حدّ التشظي. فيبحث في ذاته عما يمكن أن يجعله يطمئن إلى مكانه وزمانه، فيعود إلى تاريخ الفتح وفشل المسلمين في فتح فرنسا وانهزامهم في معركة بواتيي. وتتولد في ذهنه فكرة خيالية غريبة قد تشده إلى الأرض الذي هو فيها وهي محاولة إثبات نسبه إلى الغافقي... وهنا يطرح سؤال طبيعة الصلة، فهل سيعتبر بذلك ذا حق هناك أم عدوا مرفوضا... وتواصل الهواجس والمسائل تسلطها على ذهن البطل من سخف حوار المثقفين العرب في مقاهي باريس وحاناتها إلى مؤتمر أصدقاء سورية بتونس. إلى صورة ليلى زوجة مالك بن نويرة لما أراد خالد بن الوليد قتله في حروب الردّه، فإحراق كتب ابن رشد بالأندلس... وعلاقة قيس بليلى وبكاؤها عليه. وفي كل ذلك تستمر حيرة البطل وتمزقه حتى لا يستقر له قرار. فهو لا ينشدّ إلى الفتاة عاطفيا رغم تطابق المواقف الذي بدا منها. ولا يطمئن للمؤتمرات ومخرجاتها لأنها لا تعكس الواقع ولا تحل مشاكله. ويسيطر الماضي على ذهنه وتفكيره، فتفسد عليه صورة مونبرناس بحضور صورة الفرات تحت القصف التحالفي. ويحضر السياب ومومسه العمياء...فيكون الجميع خليطا يعذب البطل ويفسد عليه كل لذة ومتعة، فيقول:" لا شيء في الأفق يدعو إلى الأمان والاستقرار. المكان الآمن الوحيد الذي يطمئن له هو بيته وبين أسرته. في بيته يمكن أن ينام بأمان، لكنّ الأغراب لا ينامون في مكان. لابدّ من الحذر والحيطة، فهم يسمّمون الهواء الذي يتنفسون. ولا سبيل إلى تنقية الهواء". بهذه التوصية زوّد "هو" نفسه وامتطى الطائرة عائدا إلى مأواه. في هذه الرواية ترى عمارة مونبرناس على السّفر وتظن نفسك فيها؛ غير أنّ لطّوف يجتثك منها ـ دون لطف ـ ليقي بك في غياهب الزمان والمكان لتتشظى بتشظيه وتنتشر في مواقع لا حدود لها وفي أزمنة لا حدود بينها. فتعاني معاناة بطله وتقاسمه أتراحه وأفراحه إن وجدت. وتتألم لألمه عبر خطاب شاعري يشدّك إليه ويحقنك معانيه وأنت تتلذذ العذاب والتمزق. فتخرج من رحلتك وقد غنمت ثروات من الوعي بأحداث التاريخ ومتع الأدب وحتى لذة الغرام والصعلكة. - مونبرناس: رواية للكاتب السوري لطوف العبد الله نشرت سنة 2020 عن مؤسسة ديار للنشر والتوزيع. وتمت ترجمتها إلى اللغة الفرنسية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 30-11-2020 05:06 مساء
الزوار: 1574 التعليقات: 0
|