|
عرار:
منذ أربعة عقودٍ ونصف العقد، يواصل الكاتب الفلسطيني محمود شقير مسيرته التي بدأها في العام 1975 بمجموعته القصصية "خبز الآخرين"، وتشكّل سيرته الذاتية "تلك الأمكنة" (دار نوفل) آخر تعبيراتها وليست الأخيرة. وهي مسيرة غنية خاض فيها صاحبها في حقول معرفية مختلفة، تتراوح بين القصة والرواية والسيرة والرحلة واليوميات وأدب الطفل والنقد والمسرح، وتمخّضت عن عشرات الكتب في هذه الحقول مجتمعة، ما قد يصيب قارئه بحال من التشتت، علماً ان شقير لمع في القصة القصيرة. ليست المرّة الأولى التي يكتب فيها محمود شقير سيرته الذاتية، فهو سبق له أن وزّع جوانب من سيرته على عدد من الكتب، يتناول فيها أمكنته ورحلاته ويومياته وأدبه، لكنها المرّة الأولى التي يُفرد فيها لهذه السيرة كتاباً خاصاًّ بها. وهو، في كتابه، لا يشذّ عن النمط العربي التقليدي للسيرة الذاتية الذي يتناول فيه الكاتب حياته ومجرياتها المقبولة في الفضاء الاجتماعي العام، ويتجنّب ما يمكن أن يخرج على هذا الفضاء ومواضعاته الأخلاقية، فتخلو السيرة من الأخطاء والخطايا، ولا يجلس صاحبها على كرسيّ الاعتراف، على النمط الغربي. وبذلك، تأتي ناقصةً، ويكون على القارئ أن يكمل نقصانها. فصول ومشاهد يضع محمود شقير سيرته في سبعة فصول، ومائة وسبعةٍ وأربعين مشهداً سردياًّ / سِيَرِياًّ. يتألّف الفصل الواحد من خمسة عشر مشهداً، في الحدّ الأدنى، وستةٍ وعشرين مشهداً، في الحدّ الأقصى. وهو يصدّره باقتباسٍ شعري أو نثري أو صوفي، يشكّل مفتاحاً مناسباً لولوج الفصل، ويذيّله بالمشهد الأقصر فيه الذي يتراوح بين جملتين اثنتين وبضع جمل. على أنّ العلاقة بين الفصول المتعاقبة، من جهة، وبين المشاهد المتتالية داخل الفصل ليست علاقة خطية تراعي كرونولوجية الزمن، وليست هرمية، بل هي متكسّرة، أفقية. ويمكن أن نعيد ترتيب معظم الفصول، وأن نبدّل في مواقع المشاهد داخل الفصل الواحد، وأن ننقل بعضها من فصل إلى آخر، دون أن يختل السياق العام للسيرة. وبذلك، نكون إزاء بنية سِيَرية حديثة مفكّكة،غربية. تعوّض النقص الناجم عن المضمون النمطي العربي الذي يقتصر على الإنجازات والإيجابيات، ويُعرِض عن السقطات والسلبيات. وهذه البنية تجعل عملية القراءة محفوفة بالمتعة، وتضفي على النص الحيوية والتنوّع. "تلك الأمكنة" عنوان جميل لسيرة ذاتية، يُضمر جملة اسمية تامّة هي: "أنا في تلك الأمكنة". وهل السيرة الذاتية سوى تفاعل "الأنا" مع المكان، بما هو حيّز جغرافي وبشري، في مرحلة زمنية معيّنة؟ وبكلمة أخرى، أليست هي حصيلة التفاعل بين الإنسان والمكان والزمان؟ ولعلّ تركيز الكاتب على المكان، سواءٌ في العنوان أو المتن، يجعل كتابة السيرة فعل مقاومة للعدوان وإفرازاته، وعلامة اعتراض على تهجير الإنسان، وتهويد المكان، وتزوير الزمان. العلاقة المقيمة في علاقة محمود شقير بالأمكنة، يُمكن الإشارة إلى أنواعٍ ثلاثة تنتظم هذه العلاقة، تبعاً لموقع المكان، ومستوى القرابة التي يمتّ بها إلى الكاتب، ودرجة التفاعل معه، ممّا نبيّنه أدناه: الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 29-11-2020 08:34 مساء
الزوار: 1200 التعليقات: 0
|