في «حلم حارس ليلي» قعوار يعيد النظر في عطائه القصصي
عرار:
إبراهيم خليل بعد مجموعته المشتركة مع السواحري وعبد الحق: ثلاثة أصوات 1972 ولماذا بكت سوزي كثيرا 1973 وممنوع لعب الشطرنج 1976 وأنا البطريرك 1981 والبرميل 1982 وأيوب الفلسطيني عنّ بخاطر الكاتب الراحل فخري قعوار أن ينتخب من مجموعاته القصصية ويختار عددا من القصص ينشره في كتاب يطلق عليه عنوان حلم حارس ليلي1993. والمألوف أن يختار الكاتب وينتقي ما يعده جيدا، أو أكثر جودة، بكلمة أدق، ليكون كتاب المختارات مما تتجلى فيه الصورة المثلى للكاتب. وإذا نظرنا في عناوين القصص وتواريخ نشرها أو كتابتها وجدنا فيها قصصا من ثلاثة أصوات كقصة (الرجال مروا من هنا) وقصة (صفر على الشمال) ونجد قصصا من لماذا بكت سوزي كثيرا كقصة (مغارة السنديانة) وقصة (المكوك) وقصة (شجرة معرفة الخير والشر). ونجد بعض قصص ممنوع لعب الشطرنج ومنها (ممنوع لعب الشطرنح) نفسها وقصة (الكلب) ويجد القارئ أيضا قصصا من مجموعات أنا البطريرك والبرميل وأيوب الفلسطيني. على أن هذه المختارات تخلو من إحدى قصص درب الحبيب، وسبب ذلك معروف، وذلك لأن حلم حارس ليلي صدرت قبل درب الحبيب بثلاث سنين، فقد كان صدورها في العام 1996. والمعروف، لمن يتابعون الكاتب، أنه أعاد الكرة مرة أخرى، واختار من المجموعات التي نشرت في سنوات متباعدة، عددا من القصص نشرها في بيروت بعنوان الخيل والليل(2006). وفي هذا المقال الإحيائي نتذكر الكاتب الراحل الذي عُرف عنه أنه كاتب صِداميٌ، وأنه نصير النساء في معاركهن الدونكيشوتية مع الرجال، لا سيما في البيئة العربية التي يغلب عليها الطابع البدوي المحافظ، وفي هذا المقال نتناول هذه المجموعة التي سماها حلم حارس ليلي، فمن هو هذا الحارس، وما هي أحلامه، وهل يراها في نومه، أم أنها من أحلام اليقظة؟ أبو علي: اسم الحارس(أبو علي) ولفخري قعوار ولع في التسميات الدالة على مستوى الشخص الاجتماعي، ومهنته، وبيئته، وطباعه، سلبا أو إيجابا. فكريمة في قصة من قصصه ليست كريمة، ومرزوق ليس مرزوقا، ولكن (أبو علي) اسم يليق بالحارس، ويليق بالبلطجي، ألا يقال في المثل (عامل نفسه أبو علي) أي (قبضاي) والحارس - ها هنا - اسم على مسمى. وذات ليلة ماطرة تعب أبو علي هذا من مطال الوقوف على قدمية، فاستراح على الرصيف، وأسند ظهره للحائط، وراح يراقب خيوط المطر تتكسر قبالة الضوء المنبعث من أعمدة النور، ثم أغفى، وعلا شخيره. ها هنا يفتح الراوي قوسا ليذكر لنا بين هلالين شيئا عن هذا الحارس، وصفوة ما بينهما تكفي لمنح هذا الحارس شهادة خبرة تعترف اعترافا صريحا بجدارته لهذه المهنة. وتثني على قيامه بعمله في حراسة الشارع لسنوات على خير ما يرام، ويراد. لكنه، والأحلام كعادتها لا تستأذن من تزوره، رأى في غفوته القصيرة تلك ملثمًا يمر في الشارع، فارتاب في أمره، واستوقفه بعد أن نفخ في صافرته ثلاثا، وطلب منه أن يبرز هويته فادعى الشاب العنيد أنه لا يحمل الهوية الآن. فطلب منه أبو علي إزالة اللثام، والشاب يرفض بعناد وقوة، وأبو علي يكرر ويلح متهما الشاب بنواياه السيئة، وأنه يفكر في السطو على أحد البيوت، وعندما رفع أبو علي العصا ليهوي بها على رأس الفتى، انقلب على وجهه وصحا من نومه مذعورا يلتمس العصا، فلم يجدها، وأخذ يبحث عنها وأطال البحث، وعندما يئس من العثور عليها قال لنفسه: لم يأخذها الشاب، كان هذا حلما. ثم أضاف: - هذه هي أول حادثة سطو تقع في الشارع منذ توليت الحراسة فيه.(ص63) ومن يقرأ القصة يجدها كتلك الحكايات المعتادة التي يروي فيها الراوي ما تراه الشخصية في المنام على أنه حقيقي، ثم تسفر هذه الواقعة المحكية عن حيلة من الحيل التي يلجأ إليها كتاب القصص على الدوام. وهي من هذه الزاوية مسلية، ولا تضن على القارئ بالمتعة، وإن لم تكن تنطوي على فكرة مبتكرة اللهم إلا القول بأن دلالة الحلم على الواقع أقوى في بعض الأحايين وأصدق من دلالة الواقع نفسه. فلو لم يغف أبو علي لما فقد العصا. تلك التي أطال البحث عنها ولم يجدها زاعما أنها السرقة الوحيدة التي تتم في الشارع منذ سنين. الملك الضليل: والمعروف عن القاص فخري قعوار اعتماده على مرجعيات تاريخية، وأسطورية، وتوظيفه لنماذج عليا من التراث لها ظلال رمزية، وإيحاءات معروفة لدى القارئ. كامرئ القيس الكندي الشاعر المعروف والمتنبي. وهو في هذا النسق يذكرنا بقصص زكريا تامر الذي يستدعي في بعض قصصه طارق بن زياد ويوسف العظمة وغيرهما، وبقصص جمال أبو حمدان الذي يكتب قصصا عن أبطال ونماذج من الماضي كزرقاء اليمامة، وأبي ذر الغفاري، وفيس بن الملوح، وعروة بن الورد، وسبارتاكوس. وفخري قعوار يستضيف لعالمه القصصي الشاعر الفارس امرأ لقيس الكندي الذي عرف بالسكير، وبزير النساء، وبالفروسية، وبحصانه الكرار والفرار كجلمود صخر حطه السيل من علٍ. ولكن الكاتب مع هذا يتجاهل ماضي هذا الشاعر الملقب بالملك الضليل، ويسلط الضوء على تردده لإحدى المقاهي فيرى فيه أحدهم، وفي هيئته الرثة، وملابسه الغريبة في طرازها، وفي لحيته الشعثاء الكثة المليئة بالغبار، فيظنه زبائن المقهى واحدا من الحمقى، لكنه - لدهشتهم - يريد إشفاقا منه عليهم تخفيف أحزانهم بانتحاره أمامهم في مشهد تراجيكومدي، إلا أن سيفه تطاير شظايا وقطعا بدلا من أن يخترق صدره حين أهوى به عليه، فرمى به جانبا، وانكب على أحد الكؤوس المملوءة خمرا، وعبه في جرعة واحدة قائلا: بصحتكم أيها السادة، ثم أغفى. ففي هذه الحكاية يجتمع موقفان، أحدهما كوميدي يتجلى في سخرية الراوي من هذا النموذج المعروف، وسخرية الرجل السمين منه، ومن ملابسه، وذقنه، ومن حكايته مع بني أسد الذين قتلوا أباه، واغتصبوا ملكه، وحكايته مع القول اليوم خمر وغدا أمر. والموقف المأساوي الذي يتجلى في غفوة الملك الضليل مُجددًا، وتناسيه ثأر أبيه، واستعادة ملكه، وتنازله عن المكانة التي يحظى بها الأمراء لصالح الصعلكة التي تعج بها كلماته الأخيرة: اشربوا.. العبوا النرد... قرقروا بالأراجيل.. فاليوم خمر وغدا خمر.. (ص52). فمثل هذه الحكاية القصة من الحكايات التي تسخر وتسلط الضوء على الماضي الذي كثيرا ما نحتفي به، ونعتز، ونزهو بما ينطوي عليه من صفحات بيض نواصع، ونغض النظر عما فيه من وقائع مشينة، ومن صفحات سود كالصفحة التي يبدو لنا فيها امرؤ القيس متنازلا عن ملك أبيه، وعن ثأره، وعن قيادته لقبيلته، مستأنسًا بالصعاليك، وبالكؤوس المترعة، قائلا للزبائن بصحتكم أيها السكارى!! وفي الخيل والليل التي يسخر فيها ويستهزئ مما يروى عن أبي الطيب المتنبي من أنه قتل بسبب بيت شعر أنشده في لحظة من اللحظات التي أعجب فيها بنفسه إعجابا شديدا وقال: الخيل والليل والبيداءُ تعرفني. فالقصة كغيرها من القصص التي يوظف فيها لونا من المرجعيات الثقافية في السرد، ومنها قصة بائعة الحليب، وهذه القصة التي يحاول فيها إعادة النظر في الماضي. وتدوير الحكايات الموروثة على وجوهها لمعرفة الحقيقة، فالشائع أن المتنبي – أحمد بن الحسين- قتل حين ذكره خادمه ببيت الشعر المذكور الذي أوله (الخيل والليل) وهذه الحكاية في رأي السارد غير مقبولة ولا معقولة، فالشاعر أولى من غيره بمعرفة حقيقة نفسه، وأن ما ادعاه في بيت الشعر لا يعدو الفخر فحسب، وبما أن العرب ترى أن أعذب الشعر أكذبه فالمتنبي أولى من غيره بمعرفة هذه الحقيقة. وتبعا لذلك لا يعقل أن يفرط بالنجاة لأن أحد خدمه ذكره بهذا البيت. وعلى هذا النحو الذي يذكرنا بقصة مشابهة لرشاد أبو شاور(1) يؤكد فخري قعوار أن الحكمة تقتضي ألا نصدق كل ما يروى، ويذكر، في كتب الرواة والإخباريين والمؤرخين. الشرف وفي مجموعاته المذكورة في مقدمة هذا المقال قصص عديدة عن جرائم الشرف، وقد اختار إحداها وهي قصة «شرف» لتكون واحدة من قصص حلم حارس ليلي. وهي قصة تذكرنا على نحو ما بقصة لماذا بكت سوزي كثيرا التي حرمت من متابعة الدراسة في الثانوية لأن أباها رآها تضحك مع شاب وصفه بالصعلوك أمام المدرسة. ولأنه لا يريد أن يكون قوادا في آخر العمر. وفي قصة» شرف» التي نحن بصدد التطرق لها يجد القارئ نفسه أمام حكاية أخرى يرويها الكاتب مستخدما الحوار الذي يشبه التحقيق الصحفي. فالمتحدثون من ذوي الفتاة التي يجري ذبحها في القصة يرون أن وأد البنات في الزمن الماضي فضيلة جديرة بالانبعاث. وهي في رأي أحد المتحمسين من أشرف عادات العرب وأنبلها قديما، وبسبب تخليهم عن هذه العادة وصلوا ما وصلوا إليه من هوان. وأحدهم يقترح تطور غسل العار بالدم، من استخدام الشباري إلى الرصاص، الذي تصفه الأخبار في القنوات الفضائية بالحي لا بالمطاطي. وسط هذه المعمعة تتدخل فتاة سائلة ألا تقبلون التوبة؟ فقال كبيرهم ردا على هذا: - شرف البنت مثل عود الثقاب لا يشتعل مرتين.(ص16) وطالب أحدهم بذبح الفتاة التي تقترح، أو تسأل عن قبول التوبة. فهي إما أفعى سامة أو لقيطة. ويعلن أحدهم أنه ظامئ ولا يطفئ ظمأه إلا دم هذه المتدخلة ذات الصوت النحيل الرفيع. يلاحظ القارئ - بلا ريب - أن السخرية والتهكم يزدادان مع اطراد الحوار، وهذا مظهر لصيق بقصص فخري قعوار لا في لماذا بكت سوزي كثيرا فحسب، بل نجده أيضا في البرميل، وفي أنا البطريرك، وفي أيوب الفلسطيني، وحتى في درب الحبيب. وهذه القراءة الموجزة لبعض قصص حلم حارس ليلي تؤكد لنا أن ما خطر في بال المؤلف الراحل، وتراءى له، وهو أن يعرض في المجموعة نماذج منتقاة من مجموعاته تمثل خلاصة تجاربه القصصية شيء مفيد، ومهم، ومغنٍ، فالقارئ المتعجل الذي لا يجد وقتا كافيا لقراءة مجموعاته القصصية كلها أو لا يتمكن من العثور عليها مجتمعة، فإنه بقراءة هذه المجموعة وحدها يمكنه أن يقف على أبعاد تلك التجربة، ويتعرف على ما قطعته من شوط، وبلغته من شأو، في تطوير التجربة، وإضفاء أشكال من التنويع الفني التي تؤكد سعة أفق الكاتب، واتساع مراميه. *** 1.قصة رشاد أبو شاور بعنوان اغتيال أبي الطيب المتنبي. وهي من مجموعته الأشجار لا تنمو على الدفاتر،1975 انظر الأعمال القصصية، 1/ 199 وانظر كتابنا رشاد أبو شاور وآثاره في القصة والرواية، ط1، عمان: دار الخليج 2024 ص 22.
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-10-2024 04:47 مساء
الزوار: 157 التعليقات: 0