|
عرار:
إبراهيم خليل الاختلاف حول معنى المفارقة أكبر من الإئتلاف، فالباحثون، والدارسون الذين عرضوا لهذا كثرٌ، وهم مختلفون فيه وفي مرماه، متباينون جدا في مدلوله وفي مغزاه. وقد أدى هذا الاختلاف، وذلك التباين، لتزايد الحديث عن أنواع ٍمنَ المفارقة، وضروب عدة. منها المفارقة اللفظية التي تسمى لدى بعض الغربيين paradox لكونها تعبيرًا بالتناقض عما ليس تناقضًا. وهذا ما عناه كلينيث بروكس Brooks (1906- 1994) ورمى إليه في مقالته الموسومة بعنوان «لغة المفارقة» Language of Paradox واصفًا هذا اللون منها بالمفارقة السوفِسْطائيةsophism ، وهو أسلوبٌ يقوم على منهج في الجدال، والحِجاج، لجأت إليه جماعة من فلاسفة اليونان في القرنين السادس، والخامس، قبل الميلاد، يعتمد التمويه، والمغالطة fallacyفي التعبير، بهدف التغرير بالمتحاورين. واستعان بروكس بالشاهد الآتي من شعر ويليام وردزوورث(1770- 1850) Wordsworthجمع فيه بين السكون الهادئ وزفرات العشق التي تندّ عن راهبة: مساءٌ هادئ جميلٌ وعفوي والزمن القدسي يمضي بهدوء تام كأنَّ راهبة لا تندُّ عنها زَفَراتُ العِشْق فالحديث عن زفرات العشق يناقض الحديث عن الهدوء التام. وهذا يضع القارئ في مناخ يثير لديه التساؤل عن حقيقة ما يقصدهُ الشاعر بالهدوء التام، وعما إذا كان يريد به هدوءًا صاخبًا يُفصح عما تشعُر به الراهبة وتحسّ، أم هدوءًا حقيقيًا لا صخَبَ فيه، ولا ضجيج. وهذا اللون من التعبير لونٌ شائع في الآداب، واللغاتِ، طرّا، وليس حِكرًا على شِعْر معيَّن، أو وقْفًا على لغةٍ ما. فقد أُثر عن الأعشى الكبير، ميمون بن قيس (570- 625 م) قوله في الخمْر: وكأس ٍشربتُ على لذةٍ وأخرى تداويتُ منها بها فاللافتُ قوله «تداويتُ منها بها» إذ ثمة تناقضٌ بين الدواء والداء، ومع ذلك جعلهما الأعشى شيئا واحدا لا تناقض فيه، ولا تضارب، دليلا على عشقه للخمر، وشعوره بأن تعاطي الكؤوس دواءٌ مثلما هو داءٌ. وقد تأثر بهذا الحسنُ بنُ هانئ (أبو نواس) (198هـ) فقال: (وداوني بالتي كانت هي الداءُ) ولا يخلو الشعر العربي قديمه، وحديثه، من التعبير بهذا اللون من المفارقة اللفظية عن المعنى. فالشاعر الرومانسي المعروف إبراهيم ناجي (1898- 1953) يقول في واحدةٍ من دُرَره: مِلءَ ضلوعي لظىً، وأعجبــُهُ أني بهــــــذا اللهيـــــــــبِ أبتردُ فقد جمع بين النار والبرودة للدلالة على تلذُّذِه بالشوق، والوَجْد المستَعِر، فهو لا يتألم تألّـمَ مَنْ يضعُ يده في النار. وهذا ما يتعارضُ مع طبيعة الأشياء، ونواميس الكوْن. لكنّه جائزٌ في المتخيَّل الشعري من باب المفارقة اللفظية. ويقول الشاعر محمود درويش (1941- 2008) في قصيدةٍ عن راشد حسين(1936- 1977): والتقينا بعد عام في مطار القاهرة قال لي بعد ثلاثين دقيقة ليتَني كنتُ طليقا في سجون الناصرة (1) فقد جعل المتكلمُ من الحبْس في سجون الناصرة حريّةً، وانطلاقا، وبهذه المفارقة يوحي الشاعر بضيق المتكلم في القصيدة من إجراءات المطار، والقيود التي تواجه المسافرين؛ من قادمين، أو مغادرين، حدَّ الإحساس بأنهم معتقلون على الرغم من الحرّية الوهمية، المزعومة، فالحبْسُ في السجن أكثر حرية من ذلك الانطلاق الوهمي. فالإجراءاتُ التي يتعرّض لها القادمون في مطار القاهرة أكثر أسْرًا من تلك التي تواجِهُ السجينَ في الناصرة. القصيدة القصيرة: ويُعد أحمد مطر أكثر الشعراء عنايةً بالقصيدة القصيرة، المكثفة، ولا أقول الومضة(2)، لأن هذا المصطلح الذي شاع مؤخرًا مصطلح غير شعري. وهو أحد الشعراء الذين يكثرون من المفارقة، ويجعلونها ضربة لازم في خاتمة النصّ، فهي لديهم كالخرْجةِ في الموشّح الأندلسي. ففي واحدة من قصائده الجيّدة، وعنوانها (المنشقُّ) ينتهي المتكلم بمفارقة لا تخلو من غرائبيَّةٍ مدهشة، فلتعذُّر العثور على رفاق ينشئ من نفسه حزبًا، ولأنّ الأحزاب في الوطن تنشقُّ بتواتُر لا يتوقَّف من أجل تحقيق الوفاق، فقد اضطرَّ أن ينشق، وأن ينقسِمَ على اثنين: لم يعد عندي رفيق رغم أنّ البلدة اكتظت بآلاف الرفاق ِ ولذا شكَّلتُ من نفْسِيَ حزبًا ثم إني -مثل كلّ ِالناسِ - أعلنتُ عن الحزْبِ انْشقاقي وهذا التعبيرُ تعبيرٌ متناقضٌ، إذ يسْتحيلُ، في حدودِ القدْرة البشرية، أن ينشقَّ المرءُ على نفسِه، وينقسم الحزب ذو الشخص الواحد إلى حزْبين. لكنه، بهذا التعبير، حقَّق ما أراده، واستوى لديه المعنى وأجاده، وهو تأكيدُهُ عبَثيَّةَ الانشقاق بوصفه ظاهرة تكادُ تكون طبيعية في حياتنا كالزواج والطلاق، لما يسودها من فسادٍ ونفاق. ولأحمد مطر شغَفٌ لافتٌ بتراكم المفارقات. ففي القصيدة نفسها يسخر من ظاهرة التشرْذُم، متلاعبًا بالألفاظ في نسَقٍ يقومُ على نقيض الوحدة والتلاحُم: كلها ينشقُّ في الساعة شقين ِ وينشقّ على الشقّيْن شقان ِ وينشقّان ِعلى شقّيْهما من أجل ِتحْقيق الوفاق ِ وهذا جزءٌ من القصيدة تراكمتْ فيه الإشاراتُ للتشرْذُم، بأسلوبٍ لافتٍ بما فيه من تكرار التراكيب المتشابهة، والصوتين المتنافرين: الشين المتفشّية، والقاف المحبوسة، مختَتِمًا هذا التلاعب الصوتي، والدلالي، بذكره الوفاق، وأنه الغاية المنشودة للمُتَشَرْذمين. وهذا تناقضٌ آخر يُذهل المتلقي بما فيه من سخريةٍ لاذعةٍ، حارقةٍ، فالجمع بين الانشقاق، والوفاق، والادّعاء بأن الانشقاق هدفه، وغايته تحقيق الوفاق، مفارقة تقوم على الجمع بين نقيضين متباعدين. وفي هذا ما فيه من الاستهزاء. غير أن هذا الاستهزاء الساخر لا يسمح للدارسين بتصنيف المفارقة ها هنا في النوع المعروف بالمفارقة الدراميّة الساخرة dramatic irony لأنَّ المفارقة الدرامية يُشترط فيها أن يكون الجمهور المتلقي على دراية بما وراءَ الحدث الذي تتضمَّنُه الدراما. كعلمه بأن أوديب في مسرحية الإغريقي صوفوكليس (الملك أوديب) Oedipus the King هو القاتل الذي قتل أباه لايوس، وتزوج من أمه جوكاستا، وأنجب منها ابنتين، إحداهما أنتيجون، والأخرى إيسميني. وورث عرْشَ أبيه، دون أن يعرف – أي: أوديب - شيئا عن هذا كلّه، ثم توجِبُ عليه الآلهة البحث عن هذا القاتل، وإلا لن تُرْحَمَ المدينةُ من وباء الطاعون. وها هنا تكمُنُ المفارقة الدرامية، فأوديب القاتل هو الذي يتحرى معرفة المجرم ومعاقبته: أي معاقبة نفسِهِ. وقد خلط كثيرون بين المفارقة في الشِعْر الغنائي، والمفارقة الدرامية، وظنّوا أن هذه المفارقة ينبغي لها أن تكون في الشعر الغنائي مثلما هي في الدراما. وهذا في رأينا ضربٌ خاطئُ من الظنّ. تعدّد المفارقات: والطبيعيُّ أن يجد الدارسُ، أو الباحث، مفارقة لفظية في هذه القصيدة، أو تلك، لشاعر معين، أو آخر، مثلما ذكرنا في مستهل هذا المقال عن نموذج الأعشى، وأبي نواس، وإبراهيم ناجي، ومحمود درويش. وقد يتفاوت الشعراء تفاوتا كبيرا في اعتماد المفارقة بصفتها أحد المحسِّنات الأسلوبية، والبلاغية، التي تُضفي على القصيدة ما هي في حاجة ماسّةٍ له منَ الأَلَق. بيد أن اللافت لدى أحمد مطر توافرُ المفارقات في شعره، وتواترُها. ففي القصيدة الواحدة قد يجد المتلقي أكثر من مفارقة. ففي (ليلة) التي تذكرنا بليالي شهرزاد يجد المتلقي مفارقة في مطلع القصيدة: لشهرزادَ قصَّة ٌ تبدأ بالخِتامْ فزَعْم المتكلم أنّ ما تبدأ به شهرزاد حكايتَها هو الخاتمة، يضعُنا -وجها لوجه- أمام تناقض صارخ وحادّ. وما إنْ يقع المتلقي تحت تأثير هذه الصدمة حتى يتعثر بمفارقة أخرى، فالمعروفُ أن شهريار في (ألف ليلة وليلة) يستمتع بما ترويه شهرزاد، إلا أنه - ها هنا - بدلا من الاستمتاع بما ترويه من حكايات شيقةٍ، وساحرة، يصيبه القلق، ويعتادُه الأرَق. وهذه مفارقةٌ، قد نجد فيها شيئًا من التحرُّر، والخروج على ما هو معروف، وسائدٌ ومألوف، وهو أنّ شهريار ظل يستمع، ويستمع، دون أن يحسّ بمضيِّ الوقت حتى الليلة الألف، ونجَتْ شهرزاد بذلك من القتل، وما هي إلا أبياتٌ معدوداتٌ حتى كانت المفارقة الثالثة: إنَّ ابنة الحرام تكذِبُ كذبًا صادقًا يُبْقي الخيال مُطلَقًا ويحبِسُ المنامْ ويتساءلُ القارئ: كيف لشهريار أنْ يصف الكذِبَ بالصادق. أليسَ في هذا تناقضٌ حادٌ؟ ما الذي يرمي إليه الشاعر بهذا التناقض اللفظي؟ يأتي الجوابُ لاحقا في مفارقة أخرى. فالكذبُ الذي يصفه الحاكم شهريار بالصدق هو الكذب الذي ينْماز به الخطابُ الرسمي، وتَتَّصف به إعلاميات الدولة في وسائلها من إذاعات، ومن فضائيات، ومن صحُفٍ، تعبر جميعًا عن الإعلام الرسمي، وهو أكاذيب. وها هنا تأتي المفارقة الرابعة في القصيدة: أريدُ أنْ أنامْ خذها وضَعْ مكانَها وزارةَ الإعْلامْ فعِوَضَ أن يقول لنا الشاعر عن وزارة الإعلام: إنها هي ماكينة الأكاذيب، جاءَنا بهذه المفارقة التي تقول ما لا يُقال عادةً، فأزال بها الغموضَ، والإبهامَ، عن رمزيّة القصيدة. فمن وصفِهِ لمحكيّات شهرزاد بالكذب الصادق الذي يقلق الحاكمَ، ويؤرّقه، ويمْنعه من النوم، يساوي بين الكذب، والخطاب الإعلامي الرسمي، بدليل أنه أراد أن يُنيبَ وزارة الإعلام عن شهرزاد ما دام الخطابُ واحدًا. صحيحٌ أنه كذِبٌ، ومُقلقٌ، ومؤرقٌ، ولكنه -في الوقت نفسه - يُبْقي الخيال مطلقًا. فشهرزاد، بما تتَّصفُ به من قدرة إعلامية، تتمثل في اختراع الأكاذيب، لا تختلف عن وزارة الإعلام، فكلتاهما تصلُح لخدمة الوالي. ومن المفارقاتِ الغريبةِ التي تجيبُ عن تساؤلات المتلقي قصيدةٌ بعنوان «شُطرنج». يستخدم فيها أسماء القطع من فيل، وحصان، ومن وزير، وقلعة، وبَيْدق إلخ.. ساخرًا من الأسئلة الكثيرة التي تتناسلُ في أذهان العديد منا بعد ثلاثين عامًا من النكسة: منذ ثلاثين سنة نسخر من عدوّنا لشِرْكِهِ ونحن نُحْيي وَثَنَهْ ونشجب الإكثار من سلاحه ونحن نُعطي ثمنَهْ فإن تكن سبْعًا عجائبُ الدُنا فنحن صِرْنا الثامنة منذ ثلاثين سنة تحتوي هذه الخاتمة على عدَدٍ من المفارقات، لا واحدة. شجْبُ الكافر، مع تقديس وَثَنهِ في الوقت نفسه، شجْبُ التسلُّح ونحن الذي نسدّد قيمة فواتير التسليح، مما يجعلنا أعجوبةً من أعاجيب العالم السبع. وها نحن أولاءِ قد أصبحنا الأعجوبة الثامنة، وهذه مفارقَةٌ أيضًا، إذ الاتفاق يقومُ على أنّ العجائب سبعٌ فحسب. وهذه المفارقاتُ تشخِّصُ، في نهاية الأمر، هذا الوصفَ الساخرَ المبكي لحالنا بعد ثلاثينَ سنةً من الانتكاس. أما قصيدتُه (زنزانة) فنكاد نجد في كل بيت منها مفارقة. فصدرُ المتكلم زنزانتُه، ضلوعُه هي القضبان، والدخانُ هو الهواء الذي في رئتيْه. لا دماءَ في القلب بل فيه شيءٌ كالدُموع. شيءٌ واحدٌ هو الذي يجده المخبر في هذا السجين: (نِعْمة الخضوع) المبالغ بها، مع أن الخضوع نقْمة لا نعمة. وفي هذا السياق يغدو سوء التغذية، والفقر، مَنْجاةً من الاتهام بالانتماء للحزب الشيوعي: لو لمْ تمت كلّ كريّاتِ الدَم ِالحمْراءْ من قلَّة الغذاءْ لانتشلَ المخبِرُ شيئًا من دمي ثم ادّعى بأنَّني « شيوعي «. اللَّعِبُ اللَّفْظي: وللمفارقة في شعر أحمد مطر لوْنٌ يمكن وصفه باللَّعِب اللفظي، فكلمة (القانون) تطلق على مدوّنة الأحكام، والعقوبات، التي تنظّم العلاقات بين الحاكم، والمحكومين، وتنظم عمل المحاكم بأنواعها من شرعية، ومدنية، في البلدان التي تتوفر على عدالة حقيقية، لا اسمية، ولا صُوَريَّة كالدول العربية، وهوالذي يسمى بالأعجمية law. ولكن الكلمة نفسَها تطلق على آلة موسيقية معروفة من آلات التخت الشرقي الوتريّة Canon ويزعم بعضهم أنها من اختراع أبي نصر الفارابي(339هـ) أو تطويره. وفي قصيدته الموسومة بالعنوان» عزْفٌ على القانون» يستخدم هذه اللفظة، ففيما يصفُ المتكلم شخْصًا يعتدي عليه بالشتم تارة، وباللكم تارة، وبالسيف تارة أخرى، وفي كل مرّة يدعي أنه هو المعْتَدى عليه، لا المعْتدي. فالفم هو الذي لكم قبْضة يده، والدم هو الذي لوَّث سيف المعتدي. وعندما يُهْرع المعْتَدى عليه مُستنجدًا بحكم القانون، يكتشف أن القانون نفسه مع المعتدي، لا مع المعْتَدى عليه. وها هنا تحلُّ لفظة القانون- الآلة الموسيقية canon- مكان لفظة القانونlaw الأخرى: يقول حِبْري ودمي لا تنْدهشْ من يملك القانونَ في أوْطاننا هو الذي يملك حقَّ عَزْفِه ِ أي أنّ الشاعر (مطر) يستخدم الكلمة نفسها بالمعنيين، وبهذه المفارقة اللفظية حوَّل القانون(Law) إلى آلة (canon) يعزف عليها المعتدون، والظالمون، والطغاة المستبدون، والسادة الفاسدون، الذين، إما أنهم يسنّون القوانين على مقاسِهم، أو أنهم يملكون السلطة في المحاكم، فهم بهذا يعزفون على آلة القانونcanon – والقانون law- ما يشاءون من الألحان، وما على المواطنين، والرعية، إلا الاستماع لمن يعزفون، سواء أكان المسموع ناشزًا مزعجًا، أم رائقًا مطرب الألحان، ويُشنِّفُ الآذان. وفي قصيدة أخرى بعنوان (مرْسومٌ) لا يفرق المتكلّم بين الفقر والثروة، نظرًا لكثرة الفقر: وحدهُ الفقر لدينا كانَ أغنى الأغنياء ومع ذلك يشكو هؤلاء الأغنياء البرد القارس، وتعرُّضَهم لتسرب الماء من سقوف البيوت، ومن العري الذي يعرضهم لأذى الرّيح الصرْصَر. فيغتمُّ الوالي، ويدعو الخبراءَ، وجُلّ الوزراء، وينظّمون مؤتمرًا كالكثير من المؤتمرات التي نسمع بها، ونقرأ عنها الكثير الجمّ منَ اللغْو، ويتداولونَ في أمْر إيرلندا والجيوكندا وتصاميم أزياء أميلدا، والحياة الناعمة في هونولولو، وبعد البحث والتمحيص، والتهجيص والتخبيص، يقرّر ولي الأمر مساعدة العُراة البائسين: ثم بعد الأخذِ والردِّ صباحًا ومساءً أصدَرَ الحاكمُ مَرْسومًا بإلغاء الشتاء. فالقصيدةُ تقوم على سلسلة من المفارقات الساخرة مع التلاعب بالألفاظ، فالفقر ثراءٌ، والسقف ماءٌ، والشبابيك هواءٌ قارسٌ، والحوارُ يدور حول أشياءَ لا صلة لها بموضوع الشكوى، والمرْسوم، بدلا من أن يساعد العراة بأردية تقيهم البرْدَ القارس، يزيدهم بؤسًا بإلغاء الشتاء، هذا إذا كانَ إلغاؤه بمقدور الوالي، فهو يعبرُ بهذا اللفظ عن عُقْم المرسوم، ناهيك عن عُقْم الوالي. نسْتخلص من هذه القراءة السريعة الوجيزة لبعض شعر أحمد مطر نتيجةً، وهي أنَّ المفارقة تبعثُ في شعره ضربًا من خفَّة الروح، والدعابة الساخرة، والدهْشة التي تأسِرُ القارئ، وتأخذ بتلابيب المتلقي. ففي الوقت الذي تتَّجه به القصيدة وِجْهةً ما، يكتشفُ، عندما ينتهي من الخاتمة، أنّ الشيءَ الذي يتوقّعه منها جاءَ على نحو يخالف توقّعاته وإن كان منسجمًا مع بنية النصّ، واطّراد نموّه العُضْوي. وهذا شيء يشعره بلذة الاكتشاف، ويشعرُه أيضًا بأن القصيدة القصيرة -شكلا - ليست كذلك، بل هي ذاتُ امتدادٍ كبير، لأن تفكيرهُ بتلك المفارقة سيشْغلُه لوقتٍ غير قصير. وهذه هي إحدى سماتُ الأدب الإبداعيّ الرفيع. *** 1. محمود درويش، الأعمال الشعرية، كفر قرع، 2003، 1/301 2.للمزيد انظر: دي، سي، ميويك: المفارقة وصفاتها، بيروت، 1993 وسامح الرواشدة: المفارقة في شعر أمل دنقل، دراسات،مج22، ع6، 1995، وخالد سليمان: المفارقة والأدب، دار الشروق 1999، وناصر شبانة: المفارقة في الشعر العربي الحديث، بيروت، 2002 وهديل الطالب: قصيدة الومضة، نادي المنطقة الشرقية، 2009 وإكرام العطاري، تجليات المفارقة في قصيدة الومضة، 2023. . الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 02-08-2024 10:43 مساء
الزوار: 192 التعليقات: 0
|