القصائد مجال وجداني.. حيث جمال اللوعة والحسرة والحب زمن السقوط
عرار:
شمس الدين العوني/ تونس القصيدة كون وجد وحنين وتلمس وسفر تجاه اعتمالات الدواخل حيث اللغة نور ثاقب تمضي وفقه المعاني فكأن الشاعر ذلك الحرفي الأمهر يعيد للأشياء بريقها بكثير من عناء التأمل والدقة والصبر.. الأشياء المتروكة والتي يمر عليها الناس وبها غير عابئين بالقيمة والجوهر.. قيمتها وجواهرها وهي الأصل في عالم فيه تلوينات من الزيف والافتعال والنسيان. وما ذا لو كانت المهملات شيئا من كنه الشاعر وكيانه ووجوده.. تكون المسألة أبلغ وهل ثمة أثمن من التراب.. من قطع الروح والانتماء والرغبات... وآه من الرغبات. هكذا هو الأمر مع شاعرنا الأردني عمر أبو الهيجاء الذي يستعيد شيئا من تفاصيل التراب.. الأرض..الذات في هذا النسيان والجحود.. حيث الوطن قطعة مهملة يمر بها العابرون في غير جدوى.. لكنه الشاعر يهبها امتدادها في روحه ويمضي حاضنا فكرتها في رقص وانتشاء. «قُربَ الحاجزِ/ كانَ الليل مثلَ قطٍّ أسودَ/ يفردُ شَعرَه المُكتظَّ على مساحةِ الحروفِ/ الحروفِ التي شكلتنا في جمرِ الحاجزِ/ أمواجاً عندَ مملكةِ الأحزانِ/ الدربُ يأكلهُ النعاسُ/ والمهرولونَ بمحاذاةِ الجدارِ/ يعودونَ لمنازِلهم مُنشدينِ/ فتحتُ عيني/ لم أرَ../ غيرَ جنودٍ مرتجفينَ/ تَسْندُهم خيبةُ السقوطِ داخلَهُم/ قُربَ الحاجزِ/ الحافلةُ تزحفُ بنا/ من حفرةٍ إلى حفرةٍ أخرى/ في بقايا قلبٍ جمريّ/ كأن الطريقَ تفرُّ أمامنا/ تتدحرجُ ككرةِ نارٍ مُتقدةٍ/ تتهيأ كي نمرَّ إلى قلبِ الوطنِ/ ونغرقَ في فسيفساءِ قلنديا/ وموسيقى البيوتِ./ سأبقى أفتحُ القلبَ/ أجمعُه أجراساً تقرعُ/ وأجمعُ الحطامَ داخلي/ أنهضُ بشؤونِ الرعدِ/ ودهشةِ الكائنِ الراكضِ في المداخلِ/ عندَ انفلاتِ الأغنياتِ/ سأبقى أفتحُ القلبَ/ عندَ تزاحمِ البلاغةِ في صلصالِ قلنديا/ لم أكنْ أعرفُ معنى حضورِ القاتلِ/ في ساحةِ الأعراسِ/ هكذا أتركُ لقلبي/ الدخولَ في وهجِ الكتابةِ/ كي يمتحنَ الوردَ في ميدانِ الحربِ/ ويَصْعدُ كل بوابة/ في عواصمِ الدمِ/ سأبقى أفتحُ القلبَ/ وأخرجُ قليلاً عن الهزائمِ/ أتساءلُ عن خمسينَ نَزْفاً/ في حدودِ الرأسِ/ لأرى صيّادِي بلادي/ يتقاسمونَ طفولةَ الأشياءِ/ فيا صباحَ الحمائمِ/ هذي الورودُ تمشي مثلَ لغةٍ/ تُقشّرُ وَحْدةَ السنابلِ/ ثم تقرأُ تضاريسَ الأخضرِ/ في كفّ الغيابِ.». هكذا هي الحكاية الشعرية نلج عوالمها بلطف الشاعر وهدوئه وضحكته العارمة.. شاعر يسكن باطن الأشياء يمتح من ينابيع شتى وتسكنه فكرة التراب وطنا وحلما وجلالا وأصل كامن في الأشياء... لذلك هو يقبله حبا وهياما وحسرة وشموخا في هذه الأزمنة المربكة. « وأقبل التراب..»... مجال وجداني وديوان شعر للطفل الجميل المحتفي بحنينه تجاه الأمكنة والأزمنة وفق عنوان دال وهو القصيد.. الكتابة.. الجمال. انه جمال اللوعة والحسرة والحب زمن السقوط. ديوانه هذا ينضاف إلى دواوينه التي منها «خيول الدم» و»أصابع التراب» و»بلاغة الضحى» و»معاقل الضوء» وأقل مما أقول» و «قنص متواصل» و»ويجرحني الناي» و»أمشي ويتبعني الكلام».. وقد ضم عددا من القصائد منها وصدر عن وزارة الثقافة وجاء في حجم متوسط مع رسمة للغلاف من أعمال الفنان التشكيلي والناقد والإعلامي الأردني محمد العامري.. ونقرأ من عناوين قصائده ما يلي : «عند المعبر» و»قلنديا الحاجز»و «رام الله...الأسود» و»دارة العنب» و»على باب المغارة» و»نيابوليس» و»القدس مدينة الله» و»في المنزل القديم» و»بين نهدي المدينة» و»وللتراب ذاكرة». في المجموعة هذه حالات عن رحلته سنة 2012 لفلسطين. كان اللقاء وتعددت صور الدهشة والبهاء حيث الشاعر يعبر للوطن حاملا ذاكرة السنوات في طيات الروح يقتله الحنين وهنا يقول الشاعر يوسف عبد العزيز في مقدمة للمجموعة».. كم هي قاسية ومباغتة لحظة العناق الأولى مع الوطن. في معبر أريحا وبعد أمتار قليلة قطعتها الحافلة القادمة به من الأردن سيهبط الشاعر وسوف يرى نفسه للمرة الأولى وجها لوجه مع فلسطين العظيمة التي حلم بها طيلة عمره. وعلى الرغم من كل الصور والمشاهد التي كان قد رآها أو رسمها للوطن في المنفى فانه سيتفاجأ بأن فلسطين التي أمامه أجمل. كم كانت لحظة اللقاء رهيبة...». إنها اللحظة العارمة التي جمعت المتخيل والحلم بالواقعي والساحر..انه اللقاء الباذخ في عنفوان بهائه. الشاعر يرى ذاته في التفاصيل. «عند المعبر أمر واقفا عن الكلام كانت الأرض مهيأة لسرب العصافير في فسحة الشجر المنتصب على الطرقات ... عند المعبر رأيت البلاد وفي أقصى خاصرة التلال ثمة صراخ دفين ثمة أجداد لنا نائمون في فراش الأرض» وخيط دم يسيل عن القبور...» « وأقبل التراب.. « للشاعر عمر أبو الهيجاء فسحة الذات في تجليات حلمها الذي صار واقعا بانتظار حلم العودة العظيم..إنها ولادة جديدة للشاعر الذي حملته الحروف والكلمات والمعاني والشعر.. إلى فلسطينه حبيبة أيامه.. هنا فلسطين إذ يصف الشاعر رعب المحتل أمام جلال الدهشة والفرح من قبل الشاعر.. الطفل..الإنسان. «هنا فلسطين رميت جسدي مفترشا أهداب الأرض» ... «يمر حولنا الجنود تأخذهم الرهبة من طلقات العيون جنود متمترسون خلف بنادقهم منتفضون يطويهم رعب...» ... هنا... فلسطين / حملتني الحروف وما ملكت يداي كي أرمم ما تبقى من حلم في رحلة الولادة.». هكذا هو الشاعر عمر أبو الهيجاء في هذا الديوان الشعري يظل على نهجه الشعري من حيث اللغة والصور البليغة والحنين.. شاعر يرى الأشياء بعين الحلم.. بعين القلب لا بعين الوجه. يقول بالقصائد تستنهض ما تداعى من الحال والأحوال..الأرض عنوان حب وفلسطين جوهر وأصل وهو الفنان الذي يعيدها إلى بهائها في العيون والقلوب بعد أن تخلى عرب وكون وعوالم عن القول بالحق البين والتواريخ.الشاعر هنا يعيد وظيفة الجمال للأشياء وألق المكان إلى ضمائر من أنكروا هذا الألق النادر. إنها الأغاني تنبجس من ينابيع شواسع الشاعر وهو يبشر بالحلم..العودة.. الوطن الناصع.. فلسطين. «هنا فلسطين كأني ماء بلل عشب الأغاني أمنح كل مواسم اللحظة ملح البارود ... قرب الحاجز الحافلة تزحف بنا من حفرة إلى أخرى في بقايا قلب جمر كأن الطريق تفر أمامنا تتدحرج ككرة متقدة تتهيأ كي نمر إلى قلب الوطن ونغرق في فسيفساء قلنديا أعبر إليها متكئا على خيمة ونشيد قرطبي الدم أحدث أبوابها أقطف شموسا مغبرة خلف المعابد والساحات أدور معتذرا للأسود في الميدان...» «وأقبل التراب..» رحلة الشاعر وهو يعدد أحلامه ويشغل خياله الشاسع صوب أرض وتراب وتاريخ قاطعا طريقه بكثير من الفتنة.. فتنة المكان المتخيل الذي يلقاه ليتوزع في شتاته يحصي جماله مقابل خراب الغاصبين.. ولن ينتهي من هذه الرحلة قبل... أن يقبل هذا التراب.. المجد إذن للشاعر.. المجد للتراب.
المصدر: صحيفة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 16-10-2020 09:59 مساء
الزوار: 909 التعليقات: 0