|
عرار:
د.عزوز اسماعيل سالم- القاهرة تأتي رواية «على باب الهوى» للكاتب صبحي فحماوي ضمن سلسلة روايات له، وصلت إلى أكثر من إحدى عشرة رواية حتى الآن، تلك الروايات التي تصور الغرابة والمفارقة بين الشرق والغرب في أمور كثيرة أهمها غربة الوطن واغتراب النفس بداخل الأوطان البديلة، وما يلحق كل ذلك من غرابة واغتراب.. قام برصد بعضها في أعماله المختلفة، وهنا وفي هذه الرواية «على باب الهوى» كان الوصف أشد تأكيداً، فشخص الرواية الرئيس خليل يسافر خارج البلاد إلى أوروبا ويرى ويشاهد مناظر ومشاهد عديدة، يحاول أن يهضمها ويترجمها لنا كتابة عبر الصفحات؛ لنقارن بين حالنا وحال الغرب، بدءاً من العنوان الذي حمل سمته «على باب الهوى» وهنا يبدو للقارئ للوهلة الأولى أنه أمام رواية غرامية في العشق والغرام، نعم هي في العشق والغرام، ولكن بطريقة أخرى، عشق الأمة والغيرة عليها مما رآه البطل في الغربة، وكلمة الهوى قد حملت معنيين: فالهوى قد يكون من هوى يهوي أي يسقط على الأرض، وقد يكون من هوى يهوى أي يعشق ويحب.. والسارد يبحث في الاثنين معاً هوى يهوي، وهوى يهوى. و نلاحظ أنَّ العنوان به أكثر من دلالة بحكم أن له السُّلطة الكبرى في النص، وهو العتبة الأولى للنصِّ، فهو يمتد بداخل العمل عبر شبكة كبرى تحتويه وتظله، ويأتي العنوان في طليعة العتبات؛ لأنه بوابة العمل الروائي، فمن خلاله تُفتح أبواب النص المغلقة، وتُستقى بعض المعلومات الخاصة بالعمل الرِّوائي، ومن خلاله أيضاً ينفض الغبار عنه، فهو المبين والشارح لما يدور من أحداث في الرواية، فالقارئ يبدو أحياناً مندهشاً بذلك العنوان، ولكن حينما يعرف مقصده، وما يرمي إليه وإشاراته، ينفرج ذلك الاندهاش؛ لأنَّ العنوان هو أول ما يواجه المتلقي من العتبات التي تحمل له مزيداً من الثقافة العنوانية». فالعنوان إشارةٌ إلى ما تحتويه الرواية ودليل عليها وفق رؤية الكاتب وأهدافه وتختلف الرؤية مع اختلاف الهوية الثقافية. وبالتالي فإنَّ هناك إشارة ومشاراً إليه، فالإشارة تكمن في العنوان «على باب الهوى» والمشار إليه ما بداخل البيت من آهات وتنهيدات وغربة واغتراب وغرابة. ويعتبر العنوان جزءاً من أغنية حاول الكاتب العزف عليها خاصة في نهاية العمل، الأغنية التي تقول: «على باب الهوى دقيت! وفتح لي الهوى مريت!..»، وما حدث للقادم من هناك إلى الشام إلى بيته، وما وجده من إهانة وإذلال وهنا نرى الربط العبقري من الكاتب حول العمل بأكمله من البدء حتى المنتهى حين يعنون الفصل الأخير بعبارة العنوان «على باب الهوى» يقول السارد على لسان البطل: «أجدني أغني وأنا أنتهي من بلاد الغربة الأوربية التركية، وأقترب بسيارتي من نقطة حدود»باب الهوى» العربية السورية، التي كم أنا مشتاق للوصول إليها، ولتقبيل أرضها التي أنبتتني عليها، فانتميت إليها!»ص213. يحنُّ العربي دائماً إلى بيته وإلى مكانه وهذا الرجل عاد إلى موطنه وأراد أن يصل إلى بيته ومكانه بعمَّان عن طريق سوريا، لم يكن يتوقع أنه قد وصل إلى أقرب البوابات إلى موطنه إلى حدود «باب الهوى» التركية السورية..إذ يقول: «أحاول أن أرمي نفسي من الشباك لأركع وأقبِّل أرضي العربية.. أقضي الوقت بالغناء (ومن الشباك، لأرميلك حالي، يا عيني، من كثر خوفي عليك ما بنام) الثواني تتحول إلى ساعات وأنا أنتظر الوصول إليها بفارغ الصبر»ص213. يظل في نشوته وفرحته فأسرع يقدم للأمني ما يطلبونه، من أوراق وطوابع وأمور عديدة الهدف منها دفع الضريبة للحدود العربية، وكل ذلك كان يقوم به، وهو في غاية السَّعادة؛ لأنه عاد إلى بلاده العربية.. ولكنه يتفاجأ بمشكلة أرَّقت عليه حياته، وظل يتذكرها طوال حياته، وهنا تكمن الغرابة، فقد نسي أن يضع مع جوازه الرشوة «العشر ليرات سورية» التي تطورت اليوم إلى أكثر من مائة إلى خمسمائة ليرة..إنها الطامة الكبرى إذ كلفته كثيراً.. وأوقفته، إلى أن انتهى اليوم وهو لم يكن يدرى هذا الأمر، وقد لاحظ السائقين المتعودين على الأمر قد وضعوا العشر ليرات في جوازاتهم وانتهى الأمر ومروا بسلام، ولكنه أراد أن يؤكد على جزئية مهمة وهي أنَّ الأمني الواقف على الحدود هو واجهة للبلد، وإذا كان الأمني مرتشياً فهو بهذا الأمر يشكل خطراً على بلده والبلاد العربية، وإذا كانت العشر ليرات البسيطة قادرة أن تدخل صاحبها إلى البلاد بهذه السهولة، فإنه من السهل أن يُدفع أكثر من ذلك بالآلاف من أجل تهريب المخدرات والحشيش وقد تكون الأسلحة وكل الممنوعات، وهو أمرٌ يضرُّ حتماً بالبلاد والعباد. كل تلك الأمور دارت بخلد ذلك الشاب الذي عاد لتوه من بلاد أوروبا. «أستغرب التأخير فأراقب المسافرين الذين يأتون فيضع كل منهم عشر ليرات رشوة داخل جوازه مع ورقة المعلومات، فيختمها موظف الأمن ويعيد الجواز إلى صاحبه بكل احترام، ومع السلامة»ص214. ويظل في لوم نفسه، ولوم الحكومة التي تترك لأمثال هؤلاء تشويه وجه البلاد بهذه الطريقة القميئة من الرشوة «ألا تعرف الدولة أنَّ هذا الأمني الذي يقف على وجه الحدود هو واجهة الوطن وسياجه، وإنه إذا باع ضميره بالرُشى الصغيرة فإنه لن يتردد في بيع وطنه بالرشى الأكبر»ص216. ونرى الكاتب في تلك النهاية المأساوية يستغرب أن تتحمل البلد هذا الوزر بوضعها بعض الأمنيين الذين لا يألون جهداً على الإطلاق في تقدير قيمة الوطن العربي الذي ندافع عنه في كل مكان والتاريخ والثقافة ونفخر بما ضمته تلك الأمة من خيرات، وهو في طريقه إلى ذلك يظل في حالة تيه وتشتت، وتأكد أن الأمني هذا أراد إذلاله بسبب عدم دفع الليرات العشر، ليتذكر ما كان من قبل الأمنيين في مطار ميلانو بإيطاليا، وكيف أنَّ الوطن هو الأهم يدققون في كل صغيرة وكبيرة حول الأمن، حتى ولو استعانوا بالكلاب للتفتيش، وهنا وفي بلادنا العربية تحدث تلك الطامة الكبرى، ويظل بمفرده واقفاً لم يأخذ جوازه ليمر بل أرادوا التعنت معه بحجة أنه مشتبه فيه وعليه أن يخضع للتحقيق من جانب القوات الأمنية في الحدود، وهنا يشعر بالندم لماذا لا يعطهم العشر ليرات لكان انتهى الأمر بدل أن يرى ما لا يحمد عقباه.. وازداد خوفه من المجهول حين أرادوا تفتيش سيارته، ليعثروا بداخلها على ألبوم صور مع عدد من الأجانب، وهنا الموضوع يكبر وتبدأ الأسئلة؛ من هؤلاء؟ وما علاقتك بهم؟ وإلى أي تنظيم أو حزب تنتسب؟ وما هي مخططاتك لهدم البلاد؟ إن هذا العمل الذي بين أيدينا للأديب صبحي فحماوي هو في حد ذاته قيمة أدبية كبرى، فقد عرَّى المجتمعات العربية، وأظهر سوءاتها في بعض النواحي، وكانت رحلته إلى ألمانيا بمثابة التنقيب عما هو غريب عنا نحن العرب وبالفعل نجح الكاتب في ذلك وهو ما سنوضحه أكثر في هذه الورقات من خلال القراءة السيميولوجية السردية، للوصول إلى الدلائل والعلامات التي تقودنا إلى معرفة الآخر أياً كان ذلك الآخر في هذه الرحلة، لنقارنه بحالنا نحن العرب في الأمور كلها؛ فالرواية تتماهى بين الحقائق التاريخية، والواقعية السحرية وأدب الرحلات، وهو في الوقت ذاته أدب معبر عن حياة أناس عاشوا تلك الأحداث بطبيعتها، شابٌ يسافر إلى ميونيخ عن طريق ميلانو بإيطاليا، فيلتقي شاباً آخر من فلسطين وتحديداً من رام الله؛ ليكون له أنيساً في هذه الرحلة. بداية المكان من مطار عمان بالأردن والنهاية أيضاً إلى المكان وصبحي فحماوي في «على باب الهوى» أراد أن يؤكد على ذلك بطريقة أدبية فيها نوع من السخرية. وبعد أن انتهى خليل من كتابة التقارير حول كل صورة يأتي إليهم ويعطيهم التقارير فيقول له أحد الأمنيين الذين سئموا من التحقيق معه، بصفته مسافراً عابرا للحدود: «إي أخي نحن آسفين! مجرد تشابه أسماء! أتلقف الدفتر وأخرج من الحدود مسودّ الوجه!. هو الوجه في الحقيقة لا يسود، ولكنك تخرج من هذه الدوامة وأنت «منعمى ضوك» ولا من هم حولك، وكأن الدنيا سوداء مظلمة في وجهك، فيقولون خطأً: مسودّ الوجه»ص220. وقد اتسم أسلوب الكاتب صبحي فحماوي بما هو معروف عنه بالسخرية في عرضه للأحداث، ومقارنته الدائمة بين الشرق والغرب، واتسم أيضاً أسلوبه بالتداخل النَّصي، فقد أدخل قصصاً عديدة بداخل القصة الأم، وهو ما يؤكد لنا مدى تأثره بتراثه العربي القديم من خلال رواية «ألف ليلة وليلة» فهناك قصة عامة هي قصة إطار بينما ما بداخل العمل مجموعة كبرى من القصص والحكايات التي يسردها لنا بنوع من السخرية، ونوع من التشويق بدءاً من حكاية «الكلب» والذي كان تيمة مهمة من تيمات العمل، ومروراً ببحيرة البجع، وجماليات نساء بريطانيا، وانتهاء بطلاق ابن المخيم، وعلى باب الهوى. والرِّواية تتناول تلك القصص المختلفة بداخل العمل؛ لأنَّ العمل يحوي هذه المشاهد المختلفة تحت هذا العنوان الكبير.. وجاءت القصص جميعها شارحة لهذا العنوان، ومعبرة عمَّا كان يعانيه شخص الرواية خليل، والذي عبر بطريقة الأسلوب السير ذاتي أي أنه استخدم تاء الفاعل في العمل للتأكيد على إثارة المتلقي؛ للتماهي بين ما يسرده وحقيقته، وبين السيرة الذاتية، وحكاية الكلام بتاء الفاعل تثير أيضاً عدداً من الأسئلة هنا وهناك، سنقوم بتقصي بعضها في تحليلنا لهذا العمل البديع للكاتب صبحي فحماوي، والذي يحكي لنا حوادث مختلفة في رحلة تنطلق من مطار عمان بالأردن ومروراً بمطار ميلانو في إيطاليا وليس انتهاء بمطار ميونيخ بألمانيا ويحكي السارد أنهم يُسكنون زملاءه في مبنى «مؤتمر قادة شباب الأرياف في العالم» وهو مدعو للمشاركة فيه، والرواية تصول وتجول مع شباب عرب يتجاذبون أطراف الحديث مع الزملاء الألمان، وبطل الحكايات، في سرد معمق لتبيان عدد من الأمور أهمها مدى القهر الذي يعيشه العربي، في بلاده، وكيف أن الانفتاح على الآخر ومعرفة ما يصنعه في حياته، وما يقوم به من قراءات وإشكاليات وأحداث هي بالتأكيد قد تركت أثراً واضحاً عند خليل وعند زملائه العرب الذين يعيشون هناك في ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من الدول الأوربية. الرواية تعيد لنا ذكرى بعض الأعمال الروائية التي تناولت العلاقة بين الشرق والغرب بأساليب مختلفة نحو «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم ، و»الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، وغيرها من الأعمال الروائية التي تناولت إشكاليات العلاقة بين الشرق والغرب........ وما يميز هذا العمل أنَّ الكاتب يتناول تلك العلاقة بنوع من السخرية على ذواتنا العربية، فحينما يرى الألماني باتريك وهو يتناول آخر حبة أرز في الطبق فيتعجب من أمر هذا الرجل أشد العجب، إلا إنه يؤكد له رغم الغنى الفاحش لألمانيا إلا إنه لا يرضى أن ترمي حبة أرز واحدة لأنه يعلم أن هناك بلاداً في حاجة إلى مثل هذه الحبوب، فهو من واقع المسؤولية الإنسانية يفعل ذلك. سنقوم بدراسة الواقع الغرائبي هنا في هذا العمل وكيف أن الأسلوب الساخر للكاتب يبرز بعض نواحي الجمال الأخلاقي، إذ حينما استضاف رئيس جمهورية بافاريا هذا الجمع من المؤتمرين الأجانب، فنراه يتعجب من هذا الأمر الغريب بنوع من السخرية على ما يفعله الزعماء العرب من بهرجانات كاذبة في مثل هذه الأمور يقول الكاتب: «يستضيفنا الرئيس الكبير بالسن بالترحيب في قصره العتيق بقلعة أنديكس من دون بهرجة إعلامية، أو وزراء أو مسؤولين كبار. وكان يتندر مع صديقه باتريك ويسأله عن عدم وجود حراس أمن مثل أولئك في عالمنا العربي، فقال له صديقه الألماني: «حاول أن تعمل أي مشكلة، لترى من أين يطلع لك رجال الأمنّ، الأمن محفوظ يا خليل، ولكن لا داعي لعرض عضلاته!» فأقارن مع أولئك الحراس الظاهرين بكثافة مكتظة ..جهار نهار عندنا في بلاد العرب «. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 04-07-2020 08:11 مساء
الزوار: 1140 التعليقات: 0
|