الإنسان الأخضر في رواية «الإسكندرية 2050» لصبحي فحماوي
عرار:
محمد عطية محمود/ مصر «هذا البحر الذي لا يتردد في التآمر على مبحريه» لعل هذه العبارة البليغة موازية إلى حد بعيد مع علاقة العلم وتداعيات أبحاثه وآمال باحثيه وطموحاتهم التي تريد الارتفاع بشأن الحياة وسقف الطموح في هذا العالم الذي يغص بالمتناقضات والحالات الإنسانية المطلسمة أو المستعصية على الفهم، بما أن الإنسان هو محور هذا الوجود، وكل ما يجري من حوله، هو من أجل سبر غوره والإيفاء باحتياجات وجوده وفائدته ونفعه أيا كان مشروعا أم غير مشروع.. فما بين محوري العولمة برياحها العاتية التي تجتاح كل شيء في طريقها، وفتنة الحياة التي تجتذب الإنسان من مهده إلى لحده، وبينهما آلة الزمن التي تختزل حياة البشرية إلى أرقام وتواريخ، وتقنيات ومعادلات يتصارع فيها العلم مع التاريخ على ذات الإنسان المحمل بآماله، وآلامه، وطموحاته التي لا تحدها حدود، تأتي رواية «الإسكندرية 2050» للروائي الأردني صبحي فحماوي، محمَّلة بتلك المشاعر التي تنتاب النفس البشرية، من خلال لحظات برزخية تفصل بين الحياة والموت، ويتمثل فيها تاريخ الإنسان متقاطعا مع حاضره، ومستقبله في إشكاليات يطرحها النص على نحو من هذا التشابك الملحمي، متفقا مع الرؤية الاستشرافية أو التنبؤية التي تخترق الزمن، ولتقف - انتهاءً - على لحظة فاصلة ينمو منها الحدث الآني/ البرزخي، الشاهد على حياة بأكملها، بصورها وتداعياتها، ومن خلال منحنى صعودها وهبوطها الدالين، وبحيث يبدأها الكاتب بصوت خارجي يلعب دورًا مهمًا في توجيه مسار السرد، وتقنيته المستمدة من تقنيات الحداثة العلمية، وروافدها.. الشريحة الإلكترونية: «نحن شبكة إنتاج، متخصصة بالتجسس على عباد الله، منذ لحظة الولادة، وحتى لحظة الوفاة. وبناء على معلومة تقول «إن المحتضر يتهالك على سريره خلال الساعة الأخيرة من عمره، فيتذكر كل الذي مضى، ويستعيد ذكرياته من المهد إلى اللحد، فتمر الأحداث كلها مضغوطة في مخيلته بسرعة مذهلة، يتذكر فيها كل شيء، وكأنه يعيشه الآن» فإن عملنا يقوم على تسجيل رقمي لكل ما يدور بخلد الإنسان في تلك اللحظات الفاصلة» ص 11 يتلاقى الماضي الحقيقي مع المستقبل المفترض/ المتوقع من خلال هذه المفارقة الزمانية العجيبة، ليطرح الرؤية العامة للرواية التي ترتحل من الحاضر/ الآني إلى المستقبل، ثم العودة عبر دروب الماضي مشتبكة به إلى حد التلاحم والانصهار، من خلال تقنية الشريحة الإلكترونية التي يزرعها العلم في جسد مريض يراد استنطاقه والعبور به إلى مدارات المستقبل كي يستشرفه ويعبر به عن رغبته في حل قضايا ماضيه وحاضره، والتي يتعامل معها النص من خلال سيرة شخصية الرواية الرئيسية التي تنشطر على مدار الرواية لتعطينا الصوت وصداه، أو ذلك الرجع الذي تحمله هذه «الشريحة الرقمية» التي تتجسس على كل شيء بداخله وتقوم بتسجيله وتحويله إلى معادلات جديدة اخدم قيمة البحث، بحسب تعبير البداية، وذلك من خلال تيمة التبادل بين ضميري السرد، المخاطب والمتكلم، والتي تعمل على انشطار الذات الساردة، لتعطينا رؤية متكاملة للصراع الداخلي في تلك اللحظات السحرية التي تقتحم فيها الرواية الذات البشرية في قمة ضعفها الإنساني.. فيما تلج الرواية عالم المستقبل بعلومه وتطلعاته وأبحاثه من خلال التعامل مع إحداثيات العولمة التي تعمل على تجريد الإنسان القديم/ الحالي من أسلحة بقائه؛ لتنشأ مع تطلعها شطحات علمية تسابق بها الزمن، وتجتاز حواجزه قفزًا واعتلاءً، سعيًا نحو أنماط جديدة من البشرية التي يتصارع عليها الخير والشر مجتمعين، حيث يصير الإنسان في كلا الحالتين سلعة بيد العلم ومنجزاته التي لا يريد بها وجه الحق، وجشعه والاتجار به، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتقنية علمية تكون مدخلًا دالًا على روح العصر/ المستقبل المستمد من تلك التسابقات العلمية الرهيبة، بحيث تمثل الشريحة الإلكترونية كل شيء في هذا العالم الممسوخ، وحيث يسبق زمن السرد، زمن الكتابة بما يقرب من نصف قرن، بما يشي بهذه النظرة الاستشرافية أو التنبؤية التي تقوم على قيمة العمل بوصفه مبشرًا أو داعيًا أو كاشفًا أو محذرًا، وحيث تقع أحداث السرد في الإسكندرية الجديدة بمقاييس منتصف القرن الواحد والعشرين (!!) الإسكندرية تلك التي تمثل فتنة الحكي وفتنة النفس/ الحياة لدى الراوي الذي يعبر عنها بهذا الحس الساخر: «تنقلت بين كل هذه العجائب وغيرها، فما وجدت مثلك يا إسكندرية في البلاد! وأرجو أن لا تؤاخذيني، فأنا ابن المائة سنة من العمر، قد بدأت أخرف. هل هذا هو عمر الخرف؟ لا أعتقد ذلك» ص 17 الإنسان الأخضر «الكلوروفيلي»: كما ترصد الرواية على لسان السارد مدى التطور المحتمل والذي تحمله الرواية أو اتكائها العلمي للإسكندرية التي كانت حاضرة العالم القديم البائد بمنارتها ومكتبتها وعلمائها، وعادت في المستقبل لتستقر عاصمة لعالم المستقبل، مع تلك الحالة التاريخية/ الإنسانية الجديدة التي عاصرها بطل النص المنشطر، فما بين تلك المناظر الجديدة/ الآنية بالنسبة له في مستقبله، وما بين الماضي رباط وثيق من الذكريات والحكايات التي لا تنتهي، سواء من أرض منشئه/ فلسطين، وما يحمله ذاك الرمز من معانٍ ودلالات الاستلاب والفقد، على مستوى الفرد ومستوى المجتمع، ومستوى القضية القومية المزمنة، والتي تتقابل مع تقنية أكثر من حديثة وهي التعامل مع الجنس الثالث/ الجنس الأخضر في شخصية «الحفيد» الذي تم استنساخه من خلايا نباتية، ليصير رمزا للزمن القادم وزمنًا للتطور المذهل، والثورة على كل المفاهيم والقواعد الطبيعية الراسخة التي تتقاتل في نفسه مع تلك النزعة/ التوجه العالمي العلمي نحو خلق إنسان جديد؛ فالراوي هنا يقول مباعدًا بين آمال المستقبل، وتحقيق ماهية ما تصبو إليه العولمة التي جلبت هوس العلم والابتكار نحو الإنسان ذاته، باستنساخه وتعديله وإخراجه من طور خلقه الأمثل، من أجل حل للقضية لم يأت بطرقه التقليدية التي احتكمت لقوة العالم بصورتها الآنية: «هل ينجح جيل كنعان الأخضر في لي أذرعة شرور الإنسان ضد أخيه الإنسان؟ هل أنت في حلم، أم في علم محقق» ص35 فأي دهشة تلك التي تأخذ العالم بين براثنها لتفتك به وتحوله إلى مجرد مصدق لكل ما يدور حوله باسم العلم والتقدم والرفاهية وادعاء انتصار المخلوق على طبيعته المخلوقة بيد خالق أعظم سواه وأنشأه، وهي التقنية العلمية المتكئة على الأبحاث العلمية التي لا تتوقف، والتي ينظر إليها الأدب على أنها طوق خلاص أو خروج من ربقة الماضي وتسجيليته التي تصير نسخًا معتادًا، ومكررًا، فالجانب الأدبي هنا غير برئ ومتورط في هذه الحالة الاستشرافية الحالمة التي قد تصل إلى حد الكابوس. إلا أن ارتباط حركة السرد نفسيًا وداخليًا بالإسكندرية/ المدينة/ الرمز - كمحور أساسي للرواية - بكل تفاصيل التاريخ السردي لبطل الرواية، وبجغرافيتها الممتدة، وشخوصها المؤثرين في حياة بطل الرواية سواء بالسلب أو بالإيجاب، والذي تتضح من خلال علاقاته بهم إلى حد بعيد سمات كثيرة من شخصيته التي تمثل إلى حد كبير جيلًا ممتدا من الشباب العربي أبان تلك الفترة الزمنية الحرجة التي يبدأ منها تاريخ السرد، وهي فترة نكسة 1967 يجعل منها فتنة آسرة، لا توازيها إلا فتنة الحياة ذاتها، فمناطق الإسكندرية القديمة: (الأنفوشي وكليوباترا وسيدي جابر وباكوس والشاطبي)، وما تحمله من تاريخ (بحسب الرواية) لا تتوقف عن الإطلال والانبعاث من جب الشخصية لتفرض ذاتها على سطور الرواية، في مواجهة هذا الشبح العولمي القاسي، البشع الذي يفرض سطوته على مدار الرواية، وعلى الإسكندرية كمكان عولمي مستباح في منتصف القرن الحادي والعشرين بعجائبيته الجديدة، وبما يتواءم مع أحلام العلماء وكوابيس الأدباء أو تخيلاتهم، كما رأينا في عديد من الاختراعات التي كانت حلم يقظة للعديد من الأدباء والمبدعين، أو العلماء الذين امتهنوا مهنة الكتابة الأدبية فأثرت في تكوينهم وأفكارهم لتصطبغ بصبغة العلم: «بينما تهبط الطائرة الهيدروجينية بكل خفة وهدوء في مطار الإسكندرية الحديث، تشاهد من علٍ عددا كثيرا من الطائرات الورقية ينتشر في أرض مطار مترامي الأطراف. كانت الطائرات الورقية أيام طفولتنا مجرد أوراق مربوطة بخيوط، نلعب بها ونطيرها في الهواء، وأما اليوم فالطائرات العملاقة صارت ورقية، ولكن بصلابة الفولاذ « (ص40) عجلة الزمن: من خلال المخاطبة الافتراضية بين الماضي والحاضر، والتي تجسدت من خلال العلم وما قدمه من تطورات وتقدم في عملية اختزال الزمن والارتحال عبره يبدو الاتكاء على التاريخ والثقافة العربية كمراجع يستمد منها الراوي سحر ماضيه المنسحق أمام هذه العولمة فتراث ألف ليلة وليلة يطل دوما من شقوق السرد/ الذاكرة ليعيد التوازن النفسي لتلك الشخصية على فترات متقطعة، ولتبرهن على عمق العلاقة بالماضي، والتي استمد منها الغرب كثيرًا من المفاتيح التي أدت إلى اكتشاف أدواته نحو التقدم وتأكيدها، حين يبعد شبح التطورات الهائلة عن وعي الشخصية الواقعة دومًا تحت تأثير ماضيها الذي يتسرب من بين دفتي كتاب ساعته البرزخية الكاشفة. ويبدو أيضا الاتكاء على المرجعية الدينية/ العقيدية التي تربط الراوي بجذوره، والتي يتحقق من خلال آلياتها، وأحاديثها النبوية الشريفة، المزيد والمزيد من الإشارات الدالة على تجذر العقيدة في الوعي العربي، وذلك من خلال الحوارات الكاشفة مع الابن الذي يغترف من المستقبل المادي ما يعضد نجاحه في تجاربه الساعية نحو تفرد وتميز متشبع بروح البحث والتنقيب عن بدائل لكل ما هو متصل بالحياة القديمة/ الإنسان القديم.. في الوقت الذي تبرز فيه تلك المرجعية بإحساس أكيد في وعي الأب/ الماضي، كما يبدو اسم كنعان/ الحفيد/ الإنسان الأخضر الجديد، متقابلا مع كنعان القديم/ الأصل أو الجذر الممتد في عمق التاريخ، جذرا للكنعانيين/ أصل الفلسطينيين الذي هو من نبتتهم، فها هو النص يهدينا إشارة دالة على عمق الارتباط بالتاريخ والتطور معًا.. فمن نسل كنعان الكبير/ القديم يخرج كنعان الأخضر المشبع بتقنيات مستقبل بشع يضع العالم على حافة هاوية لا ينجو منها إلا الأخضر، صانعًا بذلك أسطورة مقابلة لأساطير الأجداد، ومخلصًا لها من هذا الأسر الذي عانت منه أجيال النكبة، في حل سحري للقضية!! لكن هذه المرة عن طريق العلم والبحث والتطلع إلى المستقبل الأخضر، والذي ينجح الابن والحفيد في التعلق بأهدابه بعد مرحلة من التجارب والفحوص على ذاك المخلوق الجديد/ كنعان الجديد في الخروج من رحم الطبيعة وانتصارًا عليها، في نهاية دالة للرواية.. كما تشير الرواية إلى انتقال موازين القوة العالمية، في تلك الفترة الزمنية والتاريخية - التي يستشرفها النص الروائي - والتي تخضع للعلم كحل سحري أيضًا، بحيث يملك من يخطط ويبحث ويسعى نحو إنتاج/ خلق مستقبل مغاير لكل معطيات الزمن القديم
الذي أكلت الحروب فيه الإنسان وقضت عليه، وعلى عمرانه، بحيث تكون الغلبة لمن يملك العلم ومن ثم المال معًا، في إشارة دالة على التحول الاقتصادي المقترن بثورة العلم الرهيبة.