|
عرار:
مهدي نصير هاتان الروايتان للمبدع محمود عيسى موسى هما في جوهرهما روايةٌ واحدةٌ من زاويتي قراءة مختلفتين للذات وللآخر، الإطار المكاني لكلا الروايتين هو مدينة اربد القديمة وحاراتها وأحياؤها وشوارعها ونمط حياتها وشخصياتها ومخيمها بعائلاته وحاراته ومدارسه وصباياه ومدرسيه ومدرساته وعمَّاله وأطفاله وطفلاته ببؤسهم وعذاباتهم اليومية المتكررة والتي رصدها الروائي بتفاصيل دقيقةٍ ومؤلمةٍ بل ومرعبة. رواية الشمبر الصادرة عام 2009 عن وزارة الثقافة - مشروع التفرغ الابداعي هي رواية حميمةٌ مثقلةٌ بالذكريات والتاريخ الحقيقي والحياة بكلِّ بؤسها وظلمها وعنتها، مكانها إربد القديمة والجديدة بأمكنتها وتحولاتها وشخصياتها الثرية والمتعددة المشارب والوعي والقدرات، كذلك كان شبابها حاضرين بعيونهم التي تفتحت على الحياة في هذه البقعة الجغرافية والتاريخية العريقة والمرتبكة والمشتبكة بتاريخ العرب قديمه وحديثه. الشمبر كان شخصيةً من شخصيات هذه الرواية وكان هو الراوي المتخفي يظهر ويختفي وفقاً لتطور الحدث في الرواية، كانت الشخصية الرئيسية الساحرة والمؤلمة في هذه الرواية هي شخصية الشاعر اليساري الراحل أسد محمد قاسم والذي سمَّته الرواية - ازيدور- بشخصيته وشعره ومغامراته وتناقضاته وهجراته وغرامياته في بودابست وفي العدسية وفي اربد ودمشق والقاهرة وبرلين و..و. برزت في الرواية أيضا شخصياتٌ إربديةٌ رافقت أسد محمد قاسم كشخصية المهندس ناجح وحمدان والدكتور ابراهيم والشمبر وشخصياتٍ أخرى. كانت شخصية ازيدور شخصيةً طاغية الحضور سيطرت على مناخات وأجواء وسرد رواية الشمبر كاملةً، حاول الروائي إخفاء شخصية الراوي التي تماهت وامتزجت مع شخصية الشمبر الذي حاول جاهداً أن يسلط الضوء على حياته وأحلامه ومغامراته بعيدا عن هيمنة ازيدور ولكن طغيان شخصية ازيدور الساحرة احتلت فضاء الرواية كاملاً وكان الشمبر يتحرك على هامشها ولم يستطع الحضور بشكل كامل كشخصيةٍ محوريةٍ اساسيةٍ في هذه الرواية باستثناء احتلاله لاسم الرواية، وأظن أن هذا النقص او اللااتزان بقي عالقاً في جوانيات الروائي فحاول أن يغطي النقص في حضور شخصية الشمبر في روايته « الشمبر» وذلك بإفراد روايته الجديدة الصادرة عام 2019 كاملة للشمبر - حوت الحباب - مع حضور قصيرٍو بمساحة قصيرة في الرواية لسلحفاة التوت، وكان حضورها – سلحفاة التوت – مرتبكا وأخذ صبغة شعريةً غامضة. في هذه الرواية الجديدة – حبيبتي السلحفاة – تجلَّت شخصية الشمبر وطفولته في المخيم وحضرت جدَّته العظيمة والبسيطة ووالده ووالدته ومدرسته ومدرساته ومدرسوه وغرامياته الطفولية وأحلامه وتهويماته بقوةٍ وتفردٍ بعيدا عن اسر وهيمنة شخصية ازيدور في رواية الشمبر، شخصية أزيدور اختفت تماما في هذه الرواية الجديدة مع أن معظم الشخصيات التي شكلت فضاء رواية الشمبر كانت حاضرةً بسماتها وحواراتها ولغتها ومواقفها وسردياتها في هذه الرواية الجديدة « حبيبتي السلحفاة «. كأن الروائي قام بقص شخصية ازيدور من هذه الرواية الجديدة قصَّاً ميكانيكاً قاسياً حتى يعطي متنفساً لشخصية الشمبر لتُعبِّر عن ذاتها وجوانياتها وأحلامها الصغيرة والكبيرة. في « حبيبتي السلحفاة « حضورٌ طاغٍ لمخيم إربد بكل تفاصيله وبؤسه وعذاب أهله والظروف اللاانسانية التي كان يعيشون بها وقاوموا كل هذا ببساطتهم وطيبتهم وفقرهم، شخصية أم نصري وأبو نصري وجراؤهم كذلك الجدَّة والوالد والوالدة والمُدرِّسة الالمانية والحبيبات الطالبات الصغيرات اللواتي أسرف الروائي في سرد بؤسهن وفقرهن، كلُّ هؤلاء كان نماذجَ حيَّةً للبؤس الذي أرَّخَ له محمود عيسى موسى وهو يبكي في متن هذه السردية المليئة بالحنين الغامض والبكاء المرّ. حضرت مدرسة العروبة ومؤسِّسها محمود ابو غنيمة وحضر الاستاذ يوسف بطيحة والاستاذ بني هاني وحضر كَرِم علي نيازي التل وشارع الهاشمي وشارع الملك طلال ومكتبة الهلال لصقر نصير وصالون غرناطة وقصر الملكة مصباح ومكتبة البلدية وتل اربد وسراياه، حضرت شوارع المخيم ببراكياتها وحنفيات مياهها وبنيتها التحتية المرعبة، كل هذا كان حاضراً بحميميةٍ عاليةٍ وانتماءٍ عميقٍ لهذا البؤس الذي شكَّل العمود الفقري لسردية هذه الرواية العالية. في هذه الرواية الجديدة « حبيبتي السلحفاة « حضر الشِّعرُ كثيفا في لغة الرواية وحضرت الاسطورة والآلهة، حضرت عناة وعشتروت وايزيس وسميرميس واورفيوس وآخيل...، حضرت هذه الاساطير كخلفيةٍ جغرافيةٍ وتاريخيةٍ لهذا المكان السوري ( سوريا وفلسطين ولبنان والاردن) كمرجعٍ عميقٍ ومتجذِّرٍلجغرافيا تاريخيةٍ إنسانيةٍ مؤسسةٍ للوعي وركيزةٍ للمستقبل، كأن صوت الروائي في هذه الشعرية التي انبثت في أرجاء الرواية كان يؤكد ويقول أن هذه الارض التي نبتت فيها كلُّ أساطيرنا وكلُّ آلهتنا وإلاهاتنا الذين ولدوا وتنقلوا ومارسوا تحدياتهم الكبيرة على جغرافيتنا العظيمةِ هذه، هي صورةٌ شعريةٌ من صور التحدي لهذا الضياع لجغرافيا الآلهة المؤسِّسة لوعينا الجمعي العتيق، هي تحدي لهذا الدمار وهذا الخراب الذي يحتل الآن هذه البقعة الجغرافية المليئة تاريخيا بنا وبآلهتنا العظيمة الحية والمليئة بالتحدي والاسطورة القادرة على التجدُّد والولادة والتغيير والحفاظ على قدسية هذه الجغرافيا العظيمة. السلحفاة في هذه الرواية كانت ترمز من ضمن مصفوفةٍ كبيرةٍ من الترميزات للمرأة الفلسطينية المكافحة البائسة التي عاشت وعانت وأنجبت وربَّت واحتملت كل هذا العذاب الذي يحيط وأحاط بها في هجراتها المتعددة، وهو يحيط الآن بالمرأة السورية والعراقية والليبية واليمنية والمصرية في متتالية مرعبة تتكرر. في «حبيبتي السلحفاة» الراوي الأول هو الشمبر بعنفوانه وأحلامه ووعيه المتفجر واصدقائه اللذين بدأ وعيهم بالتفتح على بؤس حياتهم في المخيم وفي اربد وبحثهم عن عالمٍ أكثر عدالةً وأقلَّ شراسةً من عالمهم هذا. في هذه الرواية يفلت خيط السرد من يد الروائي قصداً وفي مواقع مختلفةٍ من الرواية ولا يتابع الروائي حركة شخصياته البائسة والرائعة معا، كأنه - الروائي - كان يمنح هذه السردية بعض الوقفات لالتقاط ضغط اللحظة التاريخية والهروب منها وكان يملؤ هذه الانقطاعات بالشعر والموسيقى والحلم. في مفاصل كثيرةٍ من الرواية كان يرتدُّ الشمبر الى درقته (درع الغيلم) وكان يبث كثيراً من الشعر والاحلام والتهويمات التي تتقاطع مع رؤيته وانتمائه العميق لفلسطين وحيفا وإجزم ودمشق وإربد، هذه الأماكن التي خلقت عبر التاريخ أساطير الحب والتحدي والانتصار على الخراب. أفرد الروئي صفحاتٍ كثيرةً هي قصائد شعرٍ على لسان الشمبر، كما أفرد مساحةً لامراةٍ كأنها كانت بعض إلهات تلك الاساطير التي امتلأ سرد الرواية بها والتي كانت أيضا تختبئ في درقتها ودرعها السلحفائي، انه بوح سلحفاة التوت العميق والمؤلم المليئ بالكبرياء. تستحق هاتان الروايتان اللتان ارَّختا لإربد ومخيمها وشخصياتها ونمط حياتها وسهولها وبيوتها العتيقة ووممراتها وأزقتها وبلاط شوارعها بحبٍ عظيمٍ وبانتماء أعمق لمستقبل هذه الجغرافيا العربية والتحديات المصيرية المرعبة التي تحيق بها. سأختم هذه القراءة السريعة لروايتي «الشمبر» و «حبيبتي السلحفاة» للصديق الروائي والفنان التشكيلي المبدع محمود عيسى موسى بمقطعٍ شِعريٍّ عميقٍ من روايته الجديدة: «وَحَدَه الكأسُ يعرق وجعَ الظمأ واللظى وصلتُ إليك قبل وصول الموجِ بشهقتين، خيطٌ من حرير الزغب، خيطٌ من بياضِ ثلجِ حرمون، خيطٌ من الأفقِ الأخضرِ فوقَ هضبةِ أم قيس الساهرة على أمانِ الأسماك الطبرانية في دفءِ البحيرة، خيطٌ ظلَّ يتسرب بداخلي ويأخذني إليك « حبيبتي السلحفاة ص264. تجربة الروائي الكبير محمود عيسى موسى تستحق أن تُقرأ على أكثر من مستوى وأكثر من مجرد قراءةٍ سريعةٍ التقطت بعض ما في هذه التجربة وفاتها الكثير من جماليات هذه التجربة. المصدر: بترا الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 03-07-2020 12:26 صباحا
الزوار: 1199 التعليقات: 0
|