|
عرار:
أ. د. منتهى حراحشة/ جامعة آل البيت عرفت أحداث رواية «صديقتي اليهودية» لصبحي فحماوي نوعًا من التدرج والتسلسل، بوتيرة تراعي فهم القارئ في التفاعل مع الوقائع، حيث إن الروائي راهن في هذا العمل على التدقيق في تفاصيل الأحداث شرحا وتفسيرا؛ نظراً لطبيعة الموضوع وما يتطلبه من عمق في النظر ودلالة في التأويل، هذا ما جعله يضفي على الأحداث زخما وصفيا، يعتمد على البساطة الأسلوبية المتناهية إلى التعقيد تارة، وإلى التساؤل تارة أخرى، عبر خطية زمنية، تبدأ من الحاضر المستغرق في الماضي لارتقاب المستقبل الفلسطيني، الشيء الذي جعل الأحداث في عمقها التاريخي والفكري والسياسي تكتسي طابعا عاطفيا، من بداية الرواية حتى نهايتها، وكأن هذه الأحداث عبارة عن عواطف مشتعلة بواقع إنساني أذاب حدود المشاعر ليبني جدار الثبات ومقاومة الكيان الصهيوني. فالكاتب مهد لهذه الأحداث بمجموعة من الأقوال والحِكم الفلسفية والعلمية، نذكر منها، قول ألبيرت أنشتاين: ‹›من أشد لحظات حياتي حزنا، أن أرى الفلسطينيين يتعرضون للإبادة الجماعية›› وقول مالكولم إكس: ‹›الجدل الصهيوني الذي تبرر به إسرائيل احتلالها، لفلسطين العربية، لا يمتلك أي ذرة من الذكاء الفكري، أو أي أسس أو مقومات قانونية في التاريخ..›› وقول نيلسون ما نديلا:››إن حريتنا في جنوب إفريقيا، لن تكتمل بدون حصول الفلسطينيين على حريتهم››[i]. إنَّ هذه الأحداث، تُعدُّ بمثابة موجه لمضمون الخطاب الذي تحمله الرواية في طيات سطورها، التي تمت معالجتها بطريقة سردية، فهي بمثابة سفر عبر الذاكرة العربية لعدة بلدان أوربية قصد جس نبض القضية الفلسطينية، عبر الأحداث التي بدأت بالهدوء والاستقرار، لتصل إلى منحنى التوتر ثم تنزل بالتدريج نحو العواطف وكذا اللهو الذي انتهى بالفراق والبكاء بين شخصيتي الرواية يائيل وجمال قاسم. يمكن تأطير أحداث الرواية عبر ثلاث مراحل، وعنصرين ثم بداية ونهاية، على النحو التالي:- وضعية البداية: تعد بداية الرواية بداية ثابتة؛ لأنها تبدأ بالزمن:››تستعد الحافلة للانطلاق صباحا››[ii]، كما اتسمت هذه البداية بالهدوء والاستقرار اللذين طبعا الأحداث مدة وجيزة قبل إقلاع الحافلة؛ حيث وصف حالة السائق وهو يراقب الحالة الميكانيكية للحافلة، والمساعِدة التي تدقق في أوراق الراوي في قوله::››تدقق الأوروبية في أوراقي، لتعرف هويتي وما إذا كنت قد سددت نقود الرحلة حسب الأصول، وبمكبر الصوت تُعرف السياح عليّ، بأن اسمي جمال قاسم، تبتسم وهي تقول: إنه العربي الوحيد في المجموعة››[iii]. - وضعية الوسط: وهي وضعية امتازت بالسيرورة والتحول، من خلال تنامي الأحداث، وتطورها، حيث ابتدأت بالحوار الذي دار بين السارد ونفسه، حيث يقول: ‹›من غير المعقول أن تستمر هذه الرحلة الطويلة من دون حوارات وأحاديث بين زميلين يجلسان متجاورين على مقعد واحد››[iv]، لينتقل السارد بعد ذلك إلى حوار ثنائي مع يائيل، الفتاة المكسيكية اليهودية الأصل التي رحبت به في البداية بنوع من الخبث وعدم الارتياح، حيث يقول:›› تبتسم السيدة مرحبة.. أُعَرِّفها على نفسي.. اسمي جمال قاسم، ترحب المرأة بي، بخبث واضح على محياها وهي تعرف اسمي منذ صعودي إلى الحافلة، فتقول وأنا اسمي يائيل آدم، وعمري (35) عاما وأعيش في مدينة مكسيكو..››[v]. تطورت الأحداث بعد ذلك إلى نقاش فكري دار بين الطرفين، أظهر فيه السارد عمق ثقافته التي جعلت يائيل تعيد النظر في طريقة تعاملها معه كعربي إرهابي، كما حاول أن يتعامل مع شخصيتها أيضا بمنظور سيكولوجي، مفاده الإطراء بشخصيتها في قوله:››يعجبها إطرائي وثنائي على شخصيتها، فينتشي وجهها بإشراقة تتسرب إلى ناظري، فنتبادل ابتسامتين دافئتين، تعبران عن احترام واستلطاف متبادل››[vi]. هذا ما يبين لنا، ‹› أن السلوك العاطفي يعد رهان الكاتب لبناء الأحداث على حساب مواقف الشخصيات››[vii]، باعتبارها بناء جوهريا استهل به الكاتب عنوان العمل، ليخفي بداخله عالما سرديا يعج بقضية إنسانية،ما كان للعرب أن يطلعوا عليها لولا صياغتها في قالب عاطفي رومانسي، عرف نوعا من التلاحم بين الشخصيتين، رغم التناقض العرقي المُفرِّق بينهما، لدرجة تجاوزت مفهوم الصداقة إلى عشق تجاوز مساحة الأرض وقوانين السماء، ليختزل جسديهما في روح واحدة، بعدما تعرف كل منهما على الآخر، أثناء سفرهما الأسطوري فكرا وروحًا وجسداً. وضعية النهاية: شكلت هذه الوضعية، نقطة تحول في شخصيتي يائيل وجمال، حيث اقتنع كل واحد بالآخر كإنسان، له استقلاليته، بعيداً عن جرائم الصهيونية، وما بثته في عقول أبنائها من كره دفين للعرب والمسلمين.. لقد استطاع البطل أن يغير فكرة صدّام الخاطئة في عقل يائيل، وفكرة الإرهاب وغيرها من الأفكار الخبيثة التي رُوِّجت عن المسلمين، من طرف الدعاية الغربية بصفة عامة، فإن عمق الحوار في النهاية أبان عن انتصار الحق على لسان الباطل، فحوار جمال لم يكن حواراً عاديًا، وإنما كان مع امرأة مثقفة حاصلة على درجة الدكتوراه، فبعد أن كانت يائيل تطمح أن يتخرج ولداها وترسلهما إلى «إسرائيل»، ترفض في النهاية أن تُهجِّر ولديها من المكسيك إلى فلسطين، في قولها:›› لقد سئمت غربة البواخر! ولن أبحث لهما بعد اليوم عن غربة جديدة››[viii]، وهذا يجسد لنا من خلال وضعية، أن يائيل عاشت غربة الماضي وترفض الآن أن تعيش غربة المكان، حيث تقول:› ‹لقد اشتقت إلى مدرستي في مكسيكو››[ix]، فهذه الأحداث النهائية أعادت الاستقرار والتوازن للرواية، حيث أظهر فحماوي عمق القضية الفلسطينية في أبعد تجلياتها السردية، ليعلن في الأخير ذلك البعد النضالي الذي خاضه للدفاع عن فلسطين خاصة، والعرب المسلمين عامة. ب - عنصرا الرواية - العنصر المخل(الحبكة): إن عقدة الرواية تكمن في احتلال الكيان الصهيوني لأرض فلسطين من جهة، لقول السارد: ‹›هكذا تقول لنا: «الولايات المتحدة ضدنا»، لاحظوا أنه يرى الولايات المتحدة، إنما هي متحدة ضد الفلسطينين..يراها بعد كل احتلال أرض في فلسطين، لزراعة مستوطنة جديدة.. يبنون عليها مستعمرات يهودية جديدة، برؤوسها المصبوغة بقرميد أحمر يقطر دما، من رأس كل عمارة مشيدة على الطراز الفلسطيني الحجري التقليدي››[x]، ومن جهة أخرى اتهام العرب المسلمين بالإرهاب، وهذا ما بينه السارد في قوله:››.. توترت الحافلة بركابها الذين شنفوا آذانهم وجحظت أعينهم، لمشاهدة هذا الإرهابي العربي الذي يلج عليهم خلوتهم، فيُنكِّد عليهم ويعكر عليهم جو فرحهم في هذه الرحلة السعيدة..››[xi]، هذا ما يؤكد إنّ الدعاية الصهيونية جعلت الإنسان العربي في أعين الأوروبيين إرهابيًا، حيث حاول السارد تصحيح هذه المغالطة ردا على ركاب الحافلة، وبالضبط تلك التي وصفته بالممثل الشرعي الوحيد لصدام حسين، في قوله: ‹›هل جاءكم أيّ عربي فحطم جسرا واحدا من هذه جسور نهر التايمز اللندنية الثلاثة والثلاثين؟ كنت أتقدم نحوها بوجهي الملتفت إلى الخلف، فأرجعت الغربية الشقراء وجهها المرتبك أمام تقدم وجهي، وكأنها ما تزال مرعوبة من هذا العربي الإرهابي، صارت جادة تقاوم هذه المرة وهي تقول: «لا، لم يأت.» ، فقال: كلُّ ما كان عندنا في بغداد، هي خمسة جسور لا نملك غيرها.. أتيتم بعديدكم وعتادكم، مدججين بثلاثة وثلاثين دولة غربية معتدية، فحطمتم الجسور العراقية الخمسة اليتيمة لدينا بدون أي مبرر..ترى من هو الإرهابي الحقيقي؟››[xii]. - عنصر الانفراج(الحل): تمثَّل عنصر الانفراج في تمكن الشخص العربي جمال من إثبات ذاته كعربي في عمق البلدان الأوروبية المسيطرة بالناتو، من خلال قدرته على التعايش بسلام من جهة والدفاع عن السيادة العربية من جهة أخرى، حيث يسرد لنا ما وقع له مع سفير أوربي، قال له:›› لماذا وجه نبيكم محمد فتوحاته باتجاه خضرة بلاد الشمال، وجعل القدس قِبلة للمسلمين؟ أليست عقدته من حياة الصحاري العربية هي الحافز؟...لم أعرف كيف أجيب فوجدت نفسي أقول له مندهشا: هذا يعني أن الإسكندر المقدوني، والقياصرة الرومان، وهولاكو، ونابليون، والصليبيين، والاستعمار الغربي والصهاينة، كلهم كانت عندهم عقدة كراهية الخضرة، فراحوا يبحثون عن التصحر، وهم يتوغلون في غزواتهم لبلاد العرب.. صُدم سعادة السفير بالإجابة، وفوجئت زوجته بها..[xiii]››، الحقيقة واضحة لكن الدافع إلى تغيير المصير الفلسطيني ما زال ضعيفا، وهذا ما كان يؤرق السارد بين الفينة والأخرى، حيث ينطبق هذا التصور على قولة كلوريدج:›› حين طلع عليه الفجر، زادت حكمته، لكن كبر حزنه››[xiv] كما يتجلى عنصر الانفراج أيضا، في تمكن البطل من إقناع يائيل بالقضية العربية، معلنا انتصاره عليها وعلى المفاهيم المغلوطة التي روَّجتها أوربا لشعوبها في أن فلسطين وطن لإسرائيل، من هنا كان الحل هو الصداقة المبنية على الاعتراف المنطقي الواقعي بالقضية الفلسطينية، واقتناع يائيل بذلك. ج- بداية ونهاية الرواية ابتدأت الرواية بالزمن الحاضر، حيث امتازت بطابع الثبات والاستقرار في الأحداث، إنها محطة لانطلاق السفر السردي للوقائع، أما نهاية الرواية فقد عرفت ثلاث محطات، وهي: - نهاية سعيدة: نلمسها في إيصال الكاتب لرسالته التي بها حقق شكلاً نضاليًا استطاع من خلاله التغلب على يائيل وإقناعها بأن فلسطين ليست وطنا لليهود. - نهاية حزينة: تمثلت في الفراق الذي وقع بين يائيل والبطل، بعد قضاء أيام سعيدة ألغت الحواجز الدينية والسياسية بينهما. - نهاية مفتوحة: تتطلع لأفق انتظار القارئ، أن يتم هذا السفر المبارك حتى حصول فلسطين على الحرية. الهوامش: ([i]) فحماوي: صديقتي اليهودية، مصدر سابق، ص03. ([ii]) المصدرنفسه: ص03. ([iii]) المصدرنفسه: ص 06. ([iv]) المصدرنفسه: ص 20. ([v]) فحماوي: صديقتي اليهودية،مصدر سابق، ص 20. ([vi]) المصدر نفسه: ص 25.[vi] ([vii]) الشمالي، نضال: الرواية والتاريخ، عالم الكتب، اربد، ط1، 2006، 226. [vii] [viii]) فحماوي: صديقتي اليهودية، مصدر سابق، ص 25. ([ix]) المصدر نفسه: ص25. ([x]) فحماوي: صديقتياليهودية،مصدرسابق ص 30. ([xi]) المصدرنفسه، ص 06. ([xii]) المصدر نفسه: ص 08. ([xiii]) فحماوي: صديقتي اليهودية،مصدرسابق، ص 11-12. ([xiv]) بوذيبة، إدريس: أحزان الشعب والكلمات، مطبوعات اتحاد الكتاب الجزائريين، ط1،(دت)، ص125. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 18-03-2022 11:57 مساء
الزوار: 1009 التعليقات: 0
|