الموسيقى الداخلية تحلّق في ديوان «أعشاش على الغيم» لإسلام علقم
عرار:
هاني علي الهندي الموسيقى الداخلية مصطلح نقدي حديث منحه النقاد والدارسون أهمية كبيرة في إيضاح الدلالة المعنوية التي يريد الشاعر إيصالها للمتلقي، ومع كل الجهود المبذولة من النقاد والدارسين لم يتم تحديد مفهوم واضح للموسيقى الداخلية ولم تتجاوز محاولاتهم عملية التوصيف بقولهم هي الإيقاع الهامس الذي يصدر عن الكلمة الواحدة بما تحمل في تأليفها من صدى ووقع حسن، وجمالها من رهافة ودقة تأليف وانسجام حروف، وهذا يتفق مع قول امتنان الصمادي «إن الإيقاع الداخلي يستمد تناغيمه من العلاقات الجدلية القائمة بين انتقاء المفردة وما فيها من مستويات إيقاعية، باعتبارها حضورا لغويا له دلالة إيقاعية. فالموسيقى الداخلية إذن هي النغمة الخفية التي يرتاح لها المبدع في اختيار الألفاظ والأسلوب في خلق عبارة بين اللفظ والمعنى، فالشاعر المطبوع فيه حاسة خاصة تفرز له الألفاظ تلقائيا، تميز بعضها من بعض وتقدم له منها ما يوافق المزاج الشعري. ومن أنواع الموسيقى الداخلية عند إسلام علقم في ديوانه أعشاش على الغيم، (القافية الداخلية والتكرار والتوازي والتجنيس والطباق وصيغة فعلل)، سأكتفي بمثال ومثالين للتدليل على ذلك. القافية الداخلية: عمد شعراء العصر الحديث إلى خلق القافية الداخلية داخل الجملة الشعرية، وأجمل هذه القوافي ما جاء عفو الخاطر دون تكلف، لأنها تمنح النص وفرة موسيقية داخلية، وتوفر للمتلقي وقفة اختيارية خاصة إذا طالت الجملة الشعرية. جاءت القافية الداخليّة في قصائد إسلام تجري بانسياب لتمنح النص مزيداً من الرقة والعذوبة كما جاء في قوله: الأشقياء الملهمون/ مع كل ريح يبحرون/ وهم يعلمون بما يكون/ فينتشون.. ويغرقون/ شهداء أحداق الجمال. ص10 جاءت القصيدة في 18 جملة شعرية تتفاوت في طولها حسب الدفقة الشعورية، وتنتهي كل جملة بقافية موحدة، تتمثل بالكلمات (ملهمون ويبحرون ويكون ويفتشون ويغرقون) التي جاءت تعويضاً عن عدم التزام الشاعر بقافية محددة في القصيدة، هذه القوافي أغنت النص إيقاعا مركباً ساهم في عملية بناء القصيدة. ومع طول الجملة الشعرية تزداد القوافي الداخلية لكسر الرتابة وقتل الملل الذي قد يتسلل إلى المتلقي نتيجة طول الجملة. التكرار: التكرار ظاهرة أسلوبية من الظواهر الشعرية الحديثة التي تساهم في فهم النص الشعري، ونسقاً تعبيريّاً مهماً يلجأ إليه الشاعر لجذب اهتمام المتلقي من خلال خلق التوازن الموسيقي، في ذات الوقت يضع بين أيدي المتلقي مفتاح الفكرة التي تشغل فكر الشاعر، جاءت في شعر إسلام علقم بأشكال متعددة، منحت شعره وفرة موسيقية ساهمت في تطريب المتلقي وجعلته يحلق في فضاءات القصيدة. ومن الأشكال التي وظفها في إسلام في ديوانه: التكرار الصوتي وتكرار الحرف والمفردة والجملة وبعض صيغ الأساليب، وسأكتفي بالإشارة إلى: 1ـ التكرار الصوتي: يقصد بالتكرار الصوتي تكرار حرف معين صوتيا في المقطع الشعري أو في بنية القصيدة كاملة، لجأ إليه الشاعر لتعزيز الإيقاع وإبراز الفكرة التي يتحدث عنها الشاعر كما في قوله: تعال إلىَّ/ من البر جيشا/ من البحر وحشا/ وامطر بنارك نعشا فنعشا/ تعال إلىَّ. ص273 جاءت على البحر المتقارب في 14 سطرا شعريا تكرر فيها حرف الشين من الحروف المهموسة ست مرات (جيشا، وحشا، نعشا، فنعشا، من شيئك، نهشا) وحرف الباء من الحروف الانفجارية، ست مرات، كما تكرر حرف الأف والياء من حروف اللين. تكرار هذه الحروف مجتمعة جاء متناغما مع عنوان القصيدة صرخة أم فلسطينية، ويعكس الحالة النفسية التي تلبست الشاعر في تلك اللحظة الشعوريّة. 2ـ تكرار الجملة: الموت مات/ ولم تزل حيا/ تراقبك النوارس والنوافذ والحمام/ الموت مات/ ولم تزل قنديل ما تحت الرمال/ تضيء ما فوق الرمال/ بلا اندثار/ أو ختام. ص38 تتكون هذه القصيدة من 13 جملة شعرية، تخاطب فيها فلسطين شهيدها مؤكدة إنه ما زال حيا، تحت التراب وفوق التراب، تكررت فيها عبارة (الموت مات) أربع مرات ليؤكد الشاعر دعوته لاستمرار القتال، وتستمر الدعوة فيقول: الموت ينزف قرب نزفك ضارعا/ ألا تموت/ فأنت عرَّاب الحياة/ وريث من (بدؤوا) البداية/ حينما قام القيام. فجاء التكرار هنا لإبراز فكرة ضرورة القتال، كما ساهم في خلق إيقاع إضافي للقصيدة. تكرار الصيغ والأساليب: ومن ظواهر التكرار التي شاعت في شعر إسلام تكرار الأساليب ومنها: أسلوب الشرط والنفي فقال: *لو أنها لما تمشت بين آلاف الزهور/ تعثَّرت في زهرة/ لو أنها حين استفاضت بالغناء تذكرت/ بعض المقاطع من قصائد وجهه/ لو أنها ألقت عليه سحابة من جفنها/ تأتي به/ لو أنها تمحو جدارا عازلا/ لتنام سرا/ في تراتيل اسمه. ص172 جاءت (لو) الشرطية محملة بأسلوب التمني مع تعدد فعل الشرط لجواب شرط واحد. فقد تعدد فعل الشرط (تمشت، تعثرت، استفاضت، ألقت، تمحو) لجواب شرط واحد (لتنام) لإبراز أهمية جواب الشرط. حتى العصافير التي عاشت على توت البداية/ أصبحت مجهولة/ سوداء لا تدري بأني من هنا/ لا اسم لي/ لا ورد لي/ لا قلب ينتظر الضجيج/ أو الخطى. ص36 جاءت القصيدة في سبعة مقاطع قصيرة تهيمن عليها ألفاظ الاغتراب والضياع مثل (رحل والمكان ومجهولة ولوعتي ولا تدري وخفاشنا والظلام) وغيرها مع تكرار حرف (لا) ثلاث مرات تكرارا رأسيا، وفي السطر الرابع حذفها لكسر الرتابة، هذا التكرار يعكس حالة المرارة والألم لما يعانيه الشاعر من الوحدة والاغتراب. التجنيس: من المباحث التي اهتم النقاد والبلاغيون بتعريفها وبيان أهميتها التجنيس، وهو كما عرفه أبو هلال العسكري «أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منها صاحبتها في تأليف حروفها، فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظاً، واشتقاق معنى». فالتشاكل الصوتي الذي يجمعه الجناس يمنح النص الشعري نغمات موسيقية خفيفة نحسها ونتذوقها لحظة قراءة النص قراءة العارف بأصول الشعر، كما يتذوقها الملتقي المتذوق للنص. ومن خلال رحلتي إلى (أعشاش على الغيم) وجدت اهتمام إسلام بالتجنيس بأشكاله المختلفة منها التماثل الكلي على مستوى البنية الدلالية، كما في قوله: وفيها احتمالات صفر الألف/ تصير احتمالات ألف لصفر/ وفيها الحقيقة زيت وتين/ ورمل وبحر/ وقدس وسر/ ودِين ودَين ص213. جاء التجنيس بين كَلمتَي: دِين ودَين. ومن التجنيس الجزئي قوله: غريبا تهادى/ غريبا توارى/ ولكن كل الحدائق فيك/ بألوان حِسّه/ ونقشة جسّه/ تغني صداه.. وما قد مضى واختفى ص224 فقد جاء التجنيس بينَ كَلمتَي: (حسّه وجسّه)، والاخْتِلافُ بينَهما في حرفي الحاء والجيم، وهُما قَريبا المَخرَجِ، فكلاهما يخرج من طرف اللسان. لن تسأليني عن مليكات السنين/ وكيف طرن إلى الغروب لينتحرن كما الضياء/ وقدحن باسمي أنجما/ متلألئات في السماء/ وأقمن مجدا للنساء/ وليس لي. ص150جاء التجنس بين كلمتي (السماء والنساء) منح النص معان كثيرة وألفاظ كثيرة مع المحافظة على الإيقاع والتشكيل الموسيقي. الطباق: من المحسنات البديعة التي تضيف إيقاعات معنوية تزيد من سحر الأسلوب داخل النص ما يسمى بالطباق، وقد شكلت هذه الظاهرة في شعر إسلام حضورا بارزا في خلق الإيقاع الداخلي نحو قوله: وأريد خيلا للذهاب وللإياب/ وأريد منك مياهنا/ وجنونا/ وجميع أهات القباب. ص144 يدل على وحدة الحال الذي تعيشه العراق وفلسطين من معاناة تحت الاحتلال، بالإضافة لمنح النص ثراء في مدلولات وإيحاءات تحملها الخيول في الذهاب والإياب. صيغة فعلل: تقترب صيغة فعلل من ألفاظ الحياة اليومية لما تمتاز به من وزن وإيقاع يساعد في التعبير عن صورة الحركة داخل النص الشعري خاصته الأفعال ذات الصوت المتكرر ولذلك اختار إسلام هذه الأفعال دون غيرها لدقة التعبير والحركة ومن ذلك قوله: بين التفاصيل البريئة واللئيمة/ إلياذة كذبنا وقناعنا/ ومعلقات ظنوننا/ غرب يعشعش في جنوب أصولنا/ شرق يعسعس في الشمال ص10 يصف حالته المتعبة وحزنه لما آل إليه الوطن وتدخلات الغير فيه. انتشرت هذه الصيغة على مساحات نصوصه ومنها (يعشعش ويعسعس وبؤبؤ تدندن وخشخش ووسوس ونسنس ووسوس)، هذه الصيغ منحت نصوصه الشعرية موسيقى داخلية إضافية زادت من جمالها وتطريب المتلقي. وفي الختام، ديوان يستحق القراءة والدراسة.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-12-2024 07:35 مساء
الزوار: 75 التعليقات: 0