تقنيات التجريب وتمثيلاتها في تجربة فخري قعوار القصصية/ «درب الحبيب»
عرار:
نور فيصل بني عطا/ باحثة وطالبة دكتوراة في جامعة اليرموك
ظلت فكرةَ التجديد تراودُ فخري قعوار حتى وجدَ السّبيلَ إليها عند نقطة ما من مساره الإبداعي، فقدّمَ تجاربَ قصصية مثلتْ مشروعَ حداثةِ؛ إذ نقلَها من التقليدية إلى التجريب، وهو الأسلوب الذي يميلُ إليه في الكتابةِ كما صرّح في إحدى المقابلات التي أجريت معه في جريدة الدستور فاستطاع في مجموعته القصصية «درب الحبيب» 1996 خلق شكل ومضمون جديدين، خرق بهما التقليد الذي لطالما ألغى عنصر التشويق، وقتل المتعة في بعض التجارب القصصية، فالإنسان أميل دائما إلى التجديد. فجعل قعوار مجموعته القصصية هذه أقرب إلى الرواية؛ بأقسامها، وطبيعة شخصياتها، وتماهي الراوي بها، والحبكة، وعرض الأحداث زمنيا ومكانيا، مما أكسب تجربته بعدا حداثيا مميزا؛ موظفا تقنية جديدة ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي، متمثلة بجعله روابط بين قصص المتوالية القصصية مثل الراوي الذي يحكي القصص جميعها والزمان والمكان أو أية روابط من شأنها أن تحفظ هذا التسلسل، بالإضافة إلى تركيزه على وحدة الرؤية، على أن الأمر لم يمنع من استقلالية كل قصة من قصص المجموعة، لتُقرأ كل قصة منها على أنها وحدة مستقلة عما بعدها وقبلها، ممّا جعل بناءها بناء حداثيا بالفعل، إذ تتمركز الحبكة في وسط السلسلة، لتتجاوز بذلك إطار القصة الواحدة مستفيدا من تيار الوعي وأساليبه الحديثة في السرد، في محاولة منه لكسر التقليد في بناء القصة. وممّا جعل تجربته من التجارب الرائدة في هذا المجال أيضا، نقل قعوار رؤيته من الخاص إلى العام بفعل الدلالات التي عبر عنها برمزية مدروسة؛ فهو يعرض حالة خاصة في القصة تشير بدورها إلى حالات وقضايا كثيرة مشابهة لها في الواقع. لذا، قام ببناء الشخصيات في إطارين؛ زماني ومكاني، مفتوحين. الأمر الذي مثّل البعد عن النمطية في بناء القصّة -قدر المستطاع- والعمد إلى اختزال أبعاد اجتماعية وسياسية في بنائه الشخصيات وجعلها تؤدي دورها في ظل تكثيف دلالي مشوق مع الالتزام بالأسس البنائية القصصية، معلنا بذلك عن مشروع حداثة تمثل في خروج غير مخلّ عن الموروث من البناء القصصي. فشخصية البطل موحدة في القصص جميعها، ولكنها أدت دورها في ظل فوارق زمنية، أسهمت من جانبها في تشكيل الرؤية بفعل تعميمها الحالة، على نحو جعلها تمثل نماذج متنوعة من الواقع المعيش، على نحو يضمن لها الاستمرارية في قصص المجموعة الواحدة؛ فالشخصيات تمثّل نماذج واقعية، ممّا جعل استحضارها متعلقا بالإحساس والوجدان، جرّاء ما كانت تعانيه في الواقع، فاستطاع قعوار استعراضها في إطار قصصي يحفل بالرمزية، مما جعل الدلالات تحيل على تجارب متنوعة. فتنوعت نماذج الشخصيات بين الطالبة، والمرأة، والمثقّف، ونموذج العامل، والزوجة، ولامس النموذج الواحد منها قضايا متنوعة من الواقع، بفعل إبقائه الشخصية عامة غير مخصصة وبدون أسماء؛ وذلك ليتمكن من شحنها بالدلالات والرموز وفق ما يناسب الفكرة، واختار لقصصه شخصيات دينامية، لتنمو مع الأحداث، مبتعدا لذلك عن المسطحة منها. وكذلك اختار الشخصية الكورالية، وهي شخصية غير مشتركة في السرد، ونمط حديثها في الغالب فلسفيا، أو عبارات وأفعال ثابتة، ولكن دلالاتها متنوعة، وظهرت بصور متنوعة، ومثلها في شخصية؛ لطفي إبراهيم، ورجل في الشارع، والأستاذ الجامعي، وبائع الذرة، والباحث عن الجثث، والشخص الذي يظهر في كل وقت غير مناسب، وغيرها من النماذج، وأشركها جميعها بمهمة تحريك الأحداث. وفي إطار الأحداث يشوه القاص بهجة الوصل الذي جعله في خلاء معتم بعد أن طالت مدة الانتظار، وكذلك في استحضاره مشهد الفتيات العشرينيات الساخرات، والعجوز التي صبغت شعرها بغية التصابي، ممّا جعل الشخصية في هذه القصة تستجيب لذلك بفعل التدثّر بياقة المعطف، في إشارة إلى الشعور بالقلق وعدم الاستقرار، فيكتمل مشهد البؤس والخيبة بشخصية لطفي إبراهيم المتطفلة، التي تظهر دائما ظهورا غير محبب استفزازي؛ مؤكدا بذلك استحالة المثالية في الحياة، فيصور الحياة حقلا لا ينبت فيه إلا الأكاذيب، وهو ما ذكره في قصة وقائع الهجران من المجموعة القصصية. وسعى القاص إلى تجربة جنونية تمثلت بجنون البطل، فلم يحصر علاقة الحب بصورتها النمطية المحدودة، إنما جعلها تشمل حب الأرض. لذا، ربطها بأشياء ثمينة، وثابتة راسخة، مختلفة عن العلاقات الزائفة الآنية في الواقع؛ فصور المرأة والرجل وقد جرحا يدهما والصقا جرحهما ليختلط دمهما معا طلبا للتوحد طلبا لبلوغ أعلى درجات الحب، ولكنه أدخل لطفي إبراهيم ليفسد اللحظة ويؤكد استحالتها. وفي العقد والمنديل كانت رحلتهما غير سعيدة، فلم يسعد بشيء حوله! وكأنه بعد قربه من الفتاة أدرك واقعيتها؛ فهي من لحم ودم، تمارس أنشطة بشرية، على خلاف نموذجه الملائكي، ويتمثل شعور الخيبة بوضوح في العقد الأسود، والمنديل الأحمر، وذكره طارق النوى (لطفي إبراهيم) الذي كان يبحث عن الجثث، في الوقت الذي كاد هو أن يغرق لولا ولولاتها، فبمجيء لطفي إبراهيم طارق النوى تنغلق الدائرة ليخرج بحقيقة مفادها أنه يبحث عن علاقة لا وجود لها على وجه الأرض كما ذكر في قصة «درب الحبيب» تصريحا:» جملة واحدة بقيت تدور في رأسي، منذ عشرين عاما قالتها امرأة ربطتني بها علاقة تفاوتت بين الدفء والتحدي: أنت تبحث عن امرأة ليست موجودة في هذا العالم وما من حل أمامك سوى أن ترسل بطلبها إلى السماء عسى أن يعود الخالق إلى صنع حواء جديدة على قياسك» وأن ما يبحث عنه وهم، وكذلك في قصة حلم التي كانت تؤكد استحالة حرية الرأي وأن البقاء للأقوى، فقد قتل في الحلم؛ لأنه عبر عن رأيه وقال كلمة حق، ليستجيب لتساؤل ظل يراوده في النهاية هو «أيهما أفضل مقارعة الحياة أم مفارقة الدنيا بأقصر الطرق؟» وينهي حياته بقرار شخصي منه لاستحالة تحقق ما يتمنى، ويصور النهاية البائسة بمشهد الموكب، الذي حمل أحلامه لتدفن في المدينة الفاضلة، فقد ضاق بها الواقع. وفي تأكيده استحالة وجود وطن هادئ خال من الحروب والصراعات؛ جسّد فخري قعوار العنصرية في شخصية المرأة وجعل اسمها (راحيل) بحسب ما ذكرت» اسمي الحقيقي راحيل» واختار اسمها من الأسماء اليهودية، لينفي عنها الصّدق، وحفظ العهد، عندما جعلها في وقائع الهجران امرأة تقول ما لا تفعل، تتزوج من الأستاذ لطفي رغم أنه كان عكس الصفات التي اشترطتها بمن سوف تتزوجه، ليكون صك الغفران لكل ما اقترفته في حياتها، ثم تحاول أن تتقّرب من البطل لأهدافها الخاصة، وهنا جعل من البطل رمزا لفلسطين وهي رمز لليهود، وعد قربها منه لتحقيق مآربها الخاصة وعندما أدركها اتهمته بالعنصرية. هنا قرّر إنهاء حياته هروبًا من الواقع الذي عجز عن تغييره، لعله يحرّك الآخرين كما قصد خليل حاوي، الذي استعان قعوار برسالته على سبيل الإشارة إلى تكرار الهدف من الانتحار، المتمثل بإعلان فشل الواقع في احتضان الأمنيات. في الشاهد الأخير كان يصور علاقة عقيمة تسعى لقتل الرجل، تظهر من خلال قول لطفي إبراهيم لها:» هذه جريمة يعاقب عليها القانون» لترد عليه بقولها: «لو كان حيا، لبقيت مسلوبة الحرية» وفي الحلم قُتلت الشخصية لقولها كلمة حق، فيتساءل لماذا هو دون الخراف الأخرى، وفي لفظ الخراف دلالة سياسية تتمثل بالخنوع والاستسلام، ليجيبه: « كنا نتنصت عليك الليلة الماضية وأنت نائم في الحظيرة .... ألم تر أحلاما أثناء نومك؟ فرد بأنه حلم مجرد حلم» ليرد عليه بقوله: «سأتركك في أحلام طويلة...». وحمّل قعوار قصصه أبعادا مكانية وزمانية متفاوتة، ليتسنى له التنقل في باقي القصص على نحو يخدم به دلالاته الرمزية التي ينطوي عليها النص القصصي وغايته. وكان المكان أيضا يحتل مكانة هامشية، وهو ما يعزوه النقاد لتأثره بروايات كافكا وقصصه في بناء الشخصيات وطبيعتها المحيطة، فكان قد أتى بالزمان والمكان لمجرد الإحاطة بظروف الحوار، وتحميل النصوص بالدّلالات الرّمزية، فقد حرص على ذكر الأمكنة العامة «البيت والكنيسة والشارع والسيارة والجبل والبحر» وكان وصفه لها يذكر بإشارات معترضة لا يتعدى الهدف منها إضفاء الواقعية على الأحداث وعلى سبيل خلق غطاء دلالي قائم على الرمز على طريق الخروج عن المألوف في إبداع الفن القصصي. ولجأ قعوار إلى كسر التقليد اللغوي من خلال الاهتمام بجعل اللغة رموزا تصويرية للانفعالات، وحافظ في الوقت ذاته على أن يكتب بلغة بسيطة. وسيطر في الغالب الحوار المنوّع بين الخارجي، والداخلي المباشر على السرد، وكان يقطع السرد بأنواع التبئير المتنوعة؛ الصفري منه، والداخلي، والخارجي. بمعنى أنه سرد داخل السرد، بهدف تحريك الأحداث، وخلق طريقة للتواصل مع المتلقي، ودمجه مع الأحداث بغية تمكينه من الكشف الأولي عن مجريات الأحداث، على نحو يحقق فعل التلقي. بالمقابل تميزت لغته بالبساطة، والميل نحو العامية أحيانا، ولكن لا يمكن عدها خليطا؛ فقد حرص قعوار على مناسبة اللغة لمستوى الشخصية؛ العلمي منه، والثقافي أثناء تحول صيغ الخطاب في القصة. وعمد قعوار إلى استخدام أسلوب السرد المباشر بضمير الغائب والأنا أيضا، بالتزامن مع التنويع بين أنواع التبئير؛ الصفري، والخارجي، والداخلي. وذلك بإيقافه زمن السرد ليتمكن من الإشارة إلى جزئيات من شأنها أن تساعد على دفع تتابع الأحداث، وكسر الرتابة، وذلك بذكره للتراتيل في «قصة المواكب» كنوع من التبئير الخارجي (الرؤية من الخلف) وكذلك نوع في الحوار بين الداخلي (المنولوج) والخارجي (الديلوج) وعمد إلى تكثيفه، إذ يقول: «الحب والنساء والعدالة أوهام الحياة كلها صارت حقلا لا ينبت فيه غير الأكاذيب». وتعد قصة «درب الحبيب» من قصص المجموعة، معادلا موضوعيا؛ ففيها تتمثل رؤية قعوار، فبحث الرجل في القصة عن امرأة نموذج في الواقع، فلم يجدها ليلجأ بالتالي إلى نحت شخصية وفق ما يحلم به من صور النساء وصفاتهن، فيقول:» سأصنع تمثالا لامرأة» ليُسأل:» من هي صاحبة الحظ الباهر؟ فيرد بأنه: ليس هناك صاحبة حظ باهر أو غير باهر لأنه سيخترع صورة المرأة التي لم يلتق بها في هذه الدنيا ليفاجئ بعد اكتمالها بأنها تحمل عيوب الواقع بقوله للأستاذ لطفي:» هذه المطاردة عيناها. عيناها أكاد أصاب بالجنون، لم أعد أحتمل» وبعد أن عصب عينيها، خرجت مع الأستاذ لطفي في صباح اليوم، لتسهم بنموذجها في تأكيد الفكرة التي قامت عليها المتوالية القصصية وهي استحالة وجود النموذج المثالي من النساء، وبالتالي من كل شيء يتعلق بوجوده، فقصص الحب الخالدة على مدى التاريخ انتهت في الغالب بالفراق، والموت، والهجران، والانتحار. وإن تحققت المثالية في الشكل، فإن الواقع مليء بالاحتمالات التي يمكنها أن تعكّر صفو الإنسان فالمثالية لا تلتقي بالواقعية.