|
عرار:
الناقد محمد رمضان الجبور في عالم الشعر، حيث تتناغم الكلمات لتخلق سيمفونية من المشاعر والأفكار، يُحلّق الشاعر إسلام علقم ليبني أعشاشه على الغيم في ديوانه الصادر حديثاً، والذي ضم بين صفحاته أكثر من مائة عنوان، توزعت على صفحات زادت على مئتين وتسعين صفحة. ديوان يحمل بين دفتيه روحاً نابضة وحساً إبداعياً عميقاً، وهو ثمرة جهد شاعر يمتلك لغة بلاغية ملفتة وقدرة على صياغة الكلمات بأسلوب فريد، تجربة إنسانية غنية تتجلى في كل بيت وكل سطر، مما يجعل قراءة هذه النصوص تجربة تأملية وثرية، من خلالها تتدفق اللغة بمرونة وسلاسة، وتمكن الشاعر من توظيف البلاغة لتعزيز تأثير النصوص وجعلها أكثر قوة وعمقاً والمتصفح لهذا الديوان يلمح تشكّل الصور الشعرية التي يبتكرها الشاعر وتشكّل لوحة فنية متقنة، تعكس رؤيته للعالم من حوله وتغوص بالقارئ في عمق المشاعر والأحاسيس. لا شك أن العلاقة بين الشاعر والمكان من أهم الملامح التي تميز ديوان شاعرنا «أعشاش على الغيم» حيث يمكن أن تُثْرِي الأسماء الجغرافية النصوص الأدبية بعدًا جديدًا، فشاعرنا يولي اهتمامًا خاصًا بالمكان ويذكر أسماء العديد من المدن ليضفي على نصوصه عمقًا وثراءً، مما يعزز التجربة الأدبية ويفتح آفاقًا متعددة لفهم الرموز والمعاني. وتظل مدينة عمّان الهاجس الذي يطارد شاعرنا، فهي الملاذ لشاعرنا، يهرب إليها كلما اشتدت عليه الخطوب ففي قصيدة بعنوان «على أدراج عمان» يقول: وحين ألنت للأصحاب جنبي/ تسلّق بعضهم فوق الجُنوب/ ولكنّي أواري ما اعتراني/ وأحيا في التّغابي والوثوب/ على الأدراج في عمّانَ شعري/ مع الأمطار طقطق بالسكوب/ وما ظني بأنّ البوح يسقي/ وقد خُطف الشعور من الشعوب (الديوان 19) وفي قصيدة عنونها « شهيق أردني» يتغنى بعمان وبعض المدن الأردنية، اربد، الكرك، وبجبالها الشاهدة على التضحية والبطولات فيقول: هل لي بعمانَ الجميلةِ قهوةٌ/ أم كفُّ إربد لوّحت لي موعدا!/ أشتاق يا كرك العصور إلى اللقا/ تشتاقُ روحي أن أعود وأولدا/ أشدو سلامي في مدائن موطني/ والروح عطشى يا بلادي للفدا/ أردنُّ يا أمل العروبة إنني/ وجه تماهى في جبالك شاهدا (الديوان ص61). المكان في شعر إسلام علقم ليس مجرد موقع جغرافي، بل هو عالم متكامل، تتداخل فيه الأزمان والأحداث لتشكل مزيجاً من الأحاسيس والذكريات التي تعكس جوانب مختلفة من شخصيته وحياته، فالشاعر إسلام يوثق في ديوانه قصة الشهيد الأردني الملازم خضر شكري يعقوب، الذي طلب من المدفعية الأردنية قصف موقعه بعد اقتراب الجنود والآليات الصهيونية من موقعه في معركة الكرامة، القصيدة بعنوان «اقصف موقعي»: قالوا سنشرب كأس شايٍ في المسا/ وعلى جبال السلط يا صُحف اطبعي/ قالوا، أغاروا، ثم خابوا حينما/ وجدوا الجحيم بكل شبرٍ جامعِ/ وتوهّجت حمم البطولة والفدا/ وهج الشهادة في سجلّ الأشجعِ/ هيّا رفاقي عجلوا بي للسّما/ فالنصر أولى من مخافة مصرعي/ إنّي التحمتُ مع العدوّ بقلبه/ يا آمر النيران فاقصف موقعي (الديوان 65). ويظلّ المكان يمثّل عنصراً رئيسيا في بناء القصيدة لدى الشاعر إسلام علقم، فقد حظي المكان على مرّ العصور بدراسة الباحثين والنقّاد، وذلك باعتباره الركيزة المهمة في بناء القصيدة، فالعلاقة بين المكان والشاعر ليست بالحديثة، بل هي جدلية قديمة، فالمكان هو الذاكرة التي تغص بالذكريات، حلوها ومرها، ويظل المكان المستودع الذي يغرف منه الشاعر، ومن الأماكن الخالدة في ذهن وقلب الشاعر، مدينة القدس بهيبتها ومكانتها الدينية، فهي تحتل مكانة مميزة في الشعر العربي، حيث تعبر عن عمق تاريخي وروحي وثقافي يتجاوز حدود الزمان والمكان وعندما يتحدث إسلام عن القدس، فإن كلماته تحمل طابعاً خاصاً، يمزج بين الحنين والاحترام والوجع. فالقدس ليست مجرد مدينة في الشعر، بل هي رمز للأرض الطيبة والتاريخ العريق، والمسرح الذي تجري عليه دراما الحياة الإنسانية. ففي قصيدة بعنوان «القدس» يقول الشاعر: لا تسألوها/ كيف تشرق في الصباح وفي المساء/ أو كيف تتّفق الصلاة مع الصلاة/ على الصلاة فالقدس راهبةٌ تُصلي بالإمام/ وبالجموع/ وبالمساجد/ والكنائس والعصور/ لربّها/ وترتل القرآن والإنجيل والتوراة/ من صحف الضياء/ لله يسمو نورها/ فلتفتحوا باب السّماء (الديوان 125). الحديث عن الوطن كمكان له خصوصيته في ديوان «أعشاش على الغيم « يعتبر موضوعاً محورياً يعكس التفاعل العميق بين الشاعر ووطنه، يبرز الوطن كمساحة تحمل ذكريات وحنيناً وغالباً ما يُمثل الوطن رمزاً للهوية والانتماء والشعور بالاستقرار، وقد نجد الشاعر يستخدم الرموز والأيقونات الوطنية ليتحدث عن القيم الثقافية والتاريخية، معبراً عن فخره وارتباطه العميق بهذا الوطن، فيرسم ويُقدّم الوطن أحياناً في صورة مثالية تعكس الحب والاحترام، وأحياناً أخرى يعبر عن الألم والحنين أو التحديات التي يواجها. وما زلنا نتحدث عن المكان، وعن الأمل والألم، يقفُ شاعرنا على حدود غزة، تلك البقعة الجغرافية الصغيرة التي تحمل في طياتها معاناة كبيرة وأحلاماً مؤجلة، في قلب هذا الصراع، ينبض قلب شاعرنا معبراً عن الألم والأمل والأحلام التي لا تنتهي في قصيدة جميلة عنونها « لا ممات لغزة « لا...لا تمت/ وإذا اضطررتَ لأن تموت/ فكن قريباً كي تعود/ لكي تقوم بجُثّتك/ فلديك روح تستعيدك ساخناً/ وكما تشاء...لتنهضك/ جبريل أخبر سرب أطفال الرماد/ وبعد أن صاروا ملائكة البلاد/ بأن روحك لا تغادر طالما/ ما زلت تتبع فطرتك/ وجميع من رحلوا يودُّون الرجوع/ ولو كزيتونٍ يظلّل خطوتك/ لا تستريح في الموت أكثر من دقائق/ لا مجال لأن تموت/ وأنت وحد فرصتك/ هيا احتضر... ثم انتفض.. ثم انتصر (الديوان 274). وفي قصيدة بعنوان « بين شعورين « تقفز غزة لتتصدر تفكير الشاعر، فهذه الهمجية في القتل والتدمير لم يسبق لها مثيل: هل يخلو الأمر من التفكير بغزة/ حين تغيب الأم مع القبلات/ مع الجدات/ مع الأولاد، مع الطرقات/ مع الحارات/ بلحظةِ قصف! (الديوان 32). ويمكن أن تكون هناك انعكاسات واضحة لتجربة الشاعر الشخصية مع وطنه، سواء كانت تجارب سعيدة أو محزنة، فيعبر الشاعر عن مشاعره تجاه وطنه بطرق مختلفة، من الحب والتقدير إلى الحزن والاحتجاج، وتعكس هذه التجارب مدى تأثر الشاعر بالتحولات الاجتماعية والسياسية أو التغيرات الشخصية التي يمر بها، قد يتناول الشاعر في ديوانه التقاليد والعادات الخاصة بالوطن، ويستعرض كيفية تأثيرها على الحياة اليومية للناس. هذه التقاليد تصبح جزءاً من نسيج النصوص الشعرية، مما يعزز فهم القارئ لخصوصية الثقافة المحلية وأهمية التراث في حياة الأفراد ففي قصيدة بعنوان « فرح وحزن « يتحدث الشاعر عن عادة وتقليد شاع بين الناس (رفة العين) فاليمنى تدل على الفرح، واليسرى على أمرٍ محزن: أتضحك عينك اليمنى لفرح/ وتبكي عينك اليسرى لترح/ ونحيا كيفما تأتي الثواني/ برقص اللهو أو رقص لذبح ِ/ رأيت الحزن في الأيام يطغى/ وتكتسب الملامح لون جرحِ/ فعلمني بما تحظى فإني/ تعبتُ من الحياة وهاج نوحي (الديوان 47). في الأدب والشعر، يمكن أن يُعبر الشاعر عن الوطن بطرق متعددة، ومن بين هذه الطرق هو التناص مع الأغاني الشعبية الفلسطينية التي أصبحت على كل لسان، الأغاني الشعبية الفلسطينية، بما في ذلك الأغاني الوطنية والفلكلورية، تحمل في طياتها تراثًا ثقافيًا وتاريخيًا غنيًا، وتعكس مشاعر الارتباط بالأرض والوطن والمكان، وعندما يتناول الشاعر موضوع الوطن ويستخدم التناص مع هذه الأغاني، فإنه يعزز من الصلة بين عمله الأدبي وجذوره الثقافية، مما يساعد على تجسيد مشاعر الحب والانتماء والحنين إلى الوطن. فالوطن في ديوان الشاعر ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو مساحة عاطفية وفكرية تملأ النصوص بالشعور بالانتماء والحنين، وتجعل الشاعر يرتوي من إلهاماته وتجربته الشخصية والجماعية، فلا تكاد تخلو قصيدة من ذكر الوطن، وفلسطين، والشهداء. ففي قصيدته « شدو بعضكم» التي يتناص فيها مع الأغنية الشعبية الفلسطينية يقول الشاعر: وشدوا بعضكم بعضا/ فهذا الكون لا يكفي/ عيوناً تشتهي وطناً/ وهذا الخبزُ لا يشفي/ جريح كرامة المحيا/ إذا ما هاج أو حزنا/ فشدّوا بعضكم بعضا/ فقهر الشعب موروثٌ/ كما الأديان والقسمات/ والأحزان والصفعات/ عمّ الكلّ ما استثنى/ فما استثنى/ ولا استثنى (الديوان 122). المكان في الشعر ليس مجرد خلفية جامدة، بل هو عنصر حيوي يساهم في بناء الصورة الأدبية وتعميق التجربة الإنسانية، يتيح للشاعر التعبير عن حالاته النفسية والعاطفية من خلال دمج البيئة المحيطة في نصوصه، يشكل المكان أيضًا إطارًا لتصوير العلاقة بين الإنسان والبيئة، ويعكس التحولات التي تطرأ على الشاعر بناءً على علاقته بهذه الأماكن. وقبل أن ننتهي نقول، يظهر اهتمام الشاعر بالمكان في ديوانه كعنصر رئيسي يعزز من قوة النصوص الأدبية ويجعلها أكثر حيوية وتأثيرًا وذلك من خلال توظيف أسماء المدن، يخلق الشاعر روابط قوية بين القارئ والأماكن التي يصفها، مما يساهم في تشكيل تجربة قراءة غنية ومعبرة، إن فهم العلاقة بين الشاعر والمكان يمكن أن يعزز تقديرنا للأدب ويكشف عن أبعاد جديدة في النصوص الشعرية. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-10-2024 08:30 مساء
الزوار: 42 التعليقات: 0
|