المكان الفلسطيني في رواية «لقاء البحر» للدكتور الروائي محمود السلمان
عرار:
د. دلال عنبتاوي
بداية: ظل البحر كمكان يحمل قيمة خاصة في حياة الإنسان الفلسطيني فهو يعيش في ذاته ضمن بعدين أساسيين الأول أنه يشكل جزءا رئيسيا ومهما من البيئة الجغرافية التي عاش فيها الإنسان الفلسطيني. والثاني أنه وبعد تعرض الإنسان الفلسطيني للتنكيل والظلم من العدو الصهيوني كان يشكل في بعض الأحيان منفذه للخروج من دائرة الظلم والانطلاق نحو العالم من خلال السفر أو الهجرة من خلاله لاكتشاف العالم والانطلاق للحصول على الرزق والحياة. لذلك تعلق بالبحر تعلقا كبيرا وأخذ حيزا كبيرا في حياته ويعد البحر ثيمة مهمة من الثيمات البارزة في الأدب الفلسطيني سواء أكان شعرا أم نثرا. والبحر يعد مكانا مهما ويشغل حيزا كبيرا في الكثير من الأعمال الإبداعية. ولقد شغل موضوع المكان في الآونة الأخيرة عددا من الدراسات الأدبية والنقدية، وفي مقدمتها الرواية والقصة ثم الشعر والمسرحية، ّ وشكل ظاهرة جمالية في الأدب لصلته الوثيقة بالإنسان، ذلك أن صلة الإنسان بالمكان صلة ذات أبعاد عميقة، فالذات من خلال تفاعلها مع المكان الموجودة فيه تكتسب أهميتها وحضورها وذلك من خلال ما يمارسه المكان من سلطة وحضور على المشاعر والأحاسيس ولذلك اهتمت النظريات القديمة والحديثة بالمكان بل وأكدت عليه على اعتبار أن الظاهرة المكانية مكون رئيس من مكونات العمل الإبداعي؛ إذ لا يمكن ولا بأي حال الاستغناء عنه أو تجاوزه بل عدته الدراسات النقدية من التقنيات المهمة في العمل الإبداعي يرافقها ويرتبط به الزمان كذلك. والرواية التي تتناولها هذه المقالة رواية مكانية بامتياز مكانها الأول البحر... فقد جاءت تحمل عنوان «لقاء البحر» ولقد لاحظت أن لفظة البحر وحضورها الجغرافي ظل ملازما للنص الروائي فيها وقد تتبعت ورود لفظة البحر في الرواية فوجدتها تكرر ورودها أكثر من (20) مرة. ولهذه اللفظة ما يبرر وجودها من خلال ارتباط البحر بالأمكنة من حوله فالروائي هنا يريد أن يقص فيها ويحكي عن الأماكن الفلسطينية التي كانت وستظل تؤكد وترسخ علاقة الفلسطيني بأرضه وببحره رغم كل محاولات اقتلاعه من جذوره وهي في الحقيقة يمكن عدها رواية توثيقية لكل مادار على أرض فلسطين منذ عام 1948. ولقد ظهرت أمكنة أخرى قوية وزخمة الحضور فيها إلى جانب البحر ولعل أهمها المدن الفلسطينية من مثل مدينة حيفا و»طيرة حيفا» التي كانت أخت البحر وحبيبته وقد رافقها ورود مدن أخرى في فلسطين منها عكا ويافا وبيسان التي قد تم تغيير اسمها من بيسان/ إلى بيت شان وغيرها الكثير الكثير من الأمكنة الفلسطينية وقراها المهمة والتي أخذت في ذاكرة الكاتب حيزا مهما وفي ذاكرتنا كذلك. يقول الراوي في ص4 متحدثا عن تلك الأمكنة: في أعالي الكرمل وجدت عسفيه تلك القرية التي غزلت ذكرياتها في جديلة واحدة وطيرة أحمد أصبحت بعد كل هذا مدينة مزدهرة وأصبحت حكاياتها مع الطيرة بعد كل هذا الحصار نادرة الحدوث مطاعمها وفنادقها انتشرت في كل مكان.
ويستمر الراوي بالحديث عن تلك الأمكنة ليجذب القارئ إلى عالم الرواية بالكثير من الإثارة والتشويق والدهشة حين يتحدث عن الأمكنة الفلسطينية المهمة فها هو في ص 16 ينقل لنا الراوي ما حدث مع البطل أحمد قائلا: وصل بيسان ابتسم المكان وتجمع كل شيء حوله شعر بأن بيسان تفتح له يديها وتضمه بقوة وتقول له أنت من أريد! شعر بأنها تهمس بأذنيه وتقول: هون عليك يا حبيبي فهذا الختم جزء من عتادهم الحربي ومن تلك الكذبة الكبيرة التي ما زالوا يمارسونها منذ خمسين عاما/ ابتسم فأنت وحدك لي وأنا لك أنا الحقيقة بيسان: الأرض والشجر والورد الذي لا يعترف إلا بك هم ليس لهم من هذه الأشياء شيء حتى اسمي يخطئون به ويقولون (بيت شان). في الحقيقة إن الروائي هنا أراد أن يحفظ للأمكنة قيمتها وذاكرتها وكأنه يقوم بترسيخ المكان الفلسطيني والتأكيد على قيمته القوية المهمة حتى لا تنساه الأجيال فيما بعد أو تتجاهله وهنا لابد من الوقوف عند مكان مهم من الأمكنة الفلسطينية التي ارتبط بها الكاتب وعبر عنها وأجد أن لها ما يبرر وجودها بشكل قوي وكبير كيف لا وهي بلدة الروائي الأصلية فيؤكد حضورها حين يتحدث الراوي عن طيرة حيفا يقول الراوي في ص 20 عبر حوار دار بين البطل وشاب عربي قائلا : استمر في مسيره وهنا وصل الشارع المتفرع من أوتوستراد حيفا يافا وهو الشارع المؤدي إلى قريته طيرة حيفا تلك القرية القابعة في مكان جميل من جبال الكرمل على سفوحه الشمالية الغربية. على المثلث المؤدي إلى القرية شاهد شابا بادره ذلك الشاب بكلام عبري لم يفهمه أدرك الرجل أن أحمد لا يفهمه غير الشاب حديثه إلى العربية وسأل وابتسامة ودية ترافق كلامه/ أنت عربي/ حار أحمد فيما يقول لأنه لا يعرف بعد ما قد تعني هذه الكلمة في هذا المكان لشخص لا يعرف عنه شيئا ومع ذلك أجاب: أنا عربي من تلك القرية التي تراها من بعيد/ تعني طيرة الكرمل/ سمها كما شئت فكل هذه الأسماء لها سمها طيرة الكرمل أو طيرة حيفا أو طيرة اللوز فكلها أسماؤها. في الحقيقة استطيع القول إن طيرة حيفا كما اعتدنا على تسميتها ومناداتها بـ»الطيرة» ومن ينسب إليها من أهلها بالطيراوي وأهل الطيرة/ هي بطل هذه الرواية بامتياز فهي التي تدور كل أحداث الرواية حولها مع أن البحر شاركها هذا الحضور بل ويمكنني القول أنه تتقاسم معه تلك البطولة وذلك لسبب جغرافي أولا ولسبب روائي ثانيا فالرواية معنونة بـ»لقاء البحر» وذلك لشدة القرب بين طيرة حيفا والبحر فالعلاقة الوثيقة التي ربطت بين الكاتب الفلسطيني والبحر هنا واضحة ويشاركه بهذا كل الفلسطينيين أبناء منطقة الشريط الأخضر لذلك كان حضور البحر متميز كذلك. معلوم أنَّ البحر ليس معزولاً عمَّا حوله، بل هو جزء من الأرض والحياة والطَّبيعة، ممَّا يؤكِّد على أنَّ توظيف البحر في العمل الإبداعي لا يأتي بشكل عشوائيٍّ أو مجردٍ، فهو عنصر مهمٌّ من عناصر الطَّبيعةِ التي تشكِّل أحياناً روح المكان الذي يتعلَّقُ بِه المبدع وتتعلَّق روحُه به. البحر على أرض الواقع مكانٌ متَّسع مترامي الأطراف، يشتمل الشواطئ والرِّمال والأمواج والزبد والمراكب والموانئ والمدن التي تجاوره ويُعَدُّ بعد ذلك رمزاً نفسيًّا يعكس واقعاً؛ لأنَّه يعبِّر عن علاقة متميِّزةٍ تربط بين الكاتب والبحر، يقول الراوي في ص 18 واصفا حال البطل :وصل حيفا فبدا البحر من بعيد تماما كما وصفه أبوه له تمنى أن يرى أي جزء منه كما هو اقترب أكثر فابتسم البحر وابتسم هو كان اللقاء حميما ببحره بدأت نسماته تعود كما كانت وأمواجه تستعجله المسير بدأ بالركض وماهي إلا لحظات حتى كان في أحضانه ، قبله وضمه وودعه قليلا حتى يرى قريته . لقد جاءَ البَحرُ هنا محمَّلاً بكلِّ تفاصيله وتَمثلاته ودلالاته من رمل وموج وزبد وشاطئ، فالروائي لم يستدعِ اللَّفظة فحسبُ، بل استدعى كلَّ ما يحيط بها، وما يتعالق معها من لون ورمل لم يوظِّفُه مجرَّداً، بل حَمِّلُهُ عواطفه ومشاعرَهُ وأحاسيسَهُ البعيدةَ الغائرة في روحه، وكأنَّه دخل معه في حالة من حالات التَّماهي والاندماج. يحكي الراوي في ص 59 عن أحمد قائلا: أحمد الآن ليس في إجازة أو رحلة أو غربة إنه الآن في مكانه نحن المسافرون هو قريب ونحن في مكان بعيد الإنسان يكون بعيدا أو قريبا بمقدار بعده من البحر والزلاقة إنه الآن أمام البحر وإذا كان قد بدأ صعود التل يصبح البحر على بعد ثلاثة كيلو مترات إذا سار قليلا إلى الغرب يصبح تماما في أرضنا وإذا تحرك نحو الشرق يصبح في أرض عبيدة... إن الروائي هنا يريد أن يعبر عن القرب المعنوي والمادي للبحر من البطل أحمد الفلسطيني الذي يشكل البحر له هنا كل العالم. وقد جاء حضور البحر في الأعمال الإبداعية في الغالب مُعبِّراً عن صورة رمزيَّةٍ تومئ بالقوَّة والعَظَمةِ والغموض، وهو من العناصر الطَّبيعيَّة التي وردت بكثرة في الكتابات الإبداعيَّة المعاصرة، واتَّخذت أبعاداً جماليَّةً وإنسانيَّةً، لكنَّه لم يتوقَّف عند مدلول واحدٍ، بل ورد في سياقات مختلفة وكثيرة، فالبحر على أرض الواقع مكان شاسع مختلف عن غيره من الأمكنة، لكنَّه يومئ حين يوظِّفه الكاتب إلى عالمٍ مليءٍ بالأسرار والخوف والرَّهبة، ويرتبط بالأرض والإنسان والوطن. في الحقيقة يمكنني القول إن البحر يَكاد يُشكِّل بؤرة للحدث مهمة في هذه الرواية، ويجد الكاتب في حديثه عنه متنفَّساً للتَّعبير عن نفسه وعن قضيته وعن بلاده التي تملك أجمل بحار العالم. ينقل الراوي عن أحمد قائلا في ص134 في ذلك اليوم جلس أحمد في فراشه وأخذته أفكاره إلى حيفا والبحر وأولا تنهد وقال في نفسه: فلسطين وطن جميل البحر والميناء والنهر هذا الزمن قاس وغابته أبشع غابة عرفها التاريخ إذ لا يمتعنا التهام الفريسة بقدر ما يمتعنا معرفتها بأنها التهمت ومعرفة ذويها بذلك على الأقل الفريسة تلتهم دون سابق إنذار على الأقل لا يوجد موت القسوة مقابلها البساطة والحرية وعدم التعقيد في الغابة لا توجد أشياء كالهزيمة والحرب في الغابة حب وحياة وموت لا شيء آخر أجمل شيء أن التطور يفسد ما في داخلنا ولا يمس جذور إنسانيتنا يجب أن نبقي في داخلنا غابة وربيعا بريئا من صنع الطبيعة دعونا نعش دون المكياج الذي يشكله الشيطان فينا... طبعا هذه كلمات الدكتور محمود السلمان الفلسطيني الروائي الكاتب والراوي.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 15-11-2024 07:03 مساء
الزوار: 29 التعليقات: 0